الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحثُ الثاني: الدقةُ في النقل، وعدمها
تميز ابنُ الملقن في شرحه للجامع الصحيح في جانب النقل، إذ يغلِبُ على نقوله الدقةُ والصوابُ، هذا وقد ينقل نصًّا عن عالم محتفظًا بأصل النص، وربما ينقلُ عن عالم بالمعنى، وتارة أخرى يلجأُ لاختصار المنقول، وتارة ينقلُ عن شارح للحديث، ويكون هذا النقل مخالفًا لما عليه النحويين، وفي قليل من النقول تُفتقد الدقةُ في النقل.
أما نقلُ ابن الملقن المتميز بالدقة والصواب، ففي مثل (حلة سيراء)، إذ قال ابن الملقن: "قال صاحبُ (المطالع): حلةَ سيراءَ على الإضافة، ضبطناه عن ابن سراجٍ ومُتقني شيوخنا، وقد رواه بعضُهم بالتنوين على الصفة
…
" (1). فنقلُه عن المطالع لابن قرقول تميز بالدقة والصواب.
ومن ذلك أيضًا: في قوله عليه السلام: (إلا الإبقاء عليهم)، قال ابن الملقن:"هو بكسر الهمزة، ثم باء موحدة، ممدود؛ أي: الرفق بهم. قال القرطبي: رويناه بالرفع على أنَّه فاعل (يمنعهم)، ويجوز النصب على أن يكون مفعولًا من أجله، قال: ويكون في (منعهم) ضميرٌ عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فاعله"(2).
وهذا النقل عن القرطبي نقلٌ دقيقٌ صحيح نجدُه في كتاب (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم).
ومثله في قوله عليه السلام: (مثلَ أو قريبًا)، قال ابن الملقن: "قال ابنُ مالك: يروون في البخاري: أو قريبَ بغير تنوين، والمشهورُ: أو قريبًا، ووجهُه أن يكون أصلُه (مثلَ فتنة الدجال أو قريبًا من فتنة الدجال)، فحُذف ما كان (مثل) مضاف إليه، وتُرك على هيئته قبل الحذف
…
" (3). ونقلُه هنا عن ابن مالك فيه شيءٌ من التغيير اليسير لا يصل لعدم الدقة في النقل، وذلك كما ورد في كتاب (شواهد التوضيح).
أما مثال ما نقله ابنُ الملقن بالمعنى، أو بشيء من الاختصار، ففي قوله عليه السلام:(حتى كان شطر الليل)، إذ قال ابن الملقن: "قال ابنُ بَطَّال: التقدير (حتى كان شطر الليل أو كاد يبلغه)،
(1) التوضيح لشرح الجامع الصحيح 7/ 409.
(2)
المصدر السابق 11/ 366.
(3)
المصدر السابق 3/ 433.
والعرب قد تحذف (كاد) كثيرًا من كلامها؛ لدلالة الكلام عليه، كقولهم في:(أظلمت الشمس)؛ كادت تظلم، ومنه قوله تعالى:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} (1)، أي: كادت من شدة الخوف تبلغُ الحلوقَ" (2).
وما قاله ابنُ بطال مماثلٌ لما نقله عنه ابنُ الملقن؛ غير أن ابن الملقن اكتفى بقول العرب وبالآية القرآنية، ولم يذكر البيت الشعري الذي ذكره ابنُ بطال؛ وهو قول الشاعر:
يَتَعَارَضُونَ إِذا الْتَقَوْا فِي مَوْطِنٍ
…
نَظَرًا يُزِيلُ مَوَاطِئَ الأَقْدَام
قال ابنُ بطال: فلم يقل: (كاد يزيل)، ولكن نواها في نفسه.
ومثله في (كره لكم قيل وقال)، قال ابن الملقن: "قال أبو عبيد: كناية عن قيل وقول، يُقال: قلت قولًا وقيلًا
…
" (3)، أما نصُّ كلام أبي عبيد فهو: "جعل القال مصدرًا؛ ألا تراه يقولُ: عن قيل وقال، فكأنه قال: عن قيل وقول؛ يقال على هذا: قلت قولًا وقيلًا وقالًا".
أما ما أُخذ على النقل لدى ابن الملقن: فهو أنه ربما ينقل عن شارحٍ للحديث رأيًا نحويًّا دون الرجوع إلى أهل الصناعة، مع أن الرأي الصحيح والصواب هو ما عليه النحويين، ومن ذلك: في (والوضوء أيضًا)، قال ابن الملقن:"قال القرطبي: الواو عوضٌ من همزة الاستفهام كما قرأ ابن كثير: {قَالَ فِرْعَوْنُ وآمَنتُم} (4) "(5). هذا ما نقله ابن الملقن عن القرطبي، وموطن الخلل هو: أن القاعدة والآية التي نقلها ابن الملقن عن القرطبي فيها إبدال الهمزة واوًا؛ لوقوعها مفتوحةً بعد ضم، وذلك لا ينطبقُ على ما ورد في الحديث الشريف؛ لوقوعها بعد فتحٍ، فلا وجهَ لإبدالها فيه واوًا (6).
وأما ما أُخذ من عدم الدقة في النقل، ففي (إذ يخرجك قومك)، إذ قال ابن الملقن: "استعمل فيه (إذ) في المستقبل كـ (إذا)، وهو استعمالٌ صحيح كما نبه عليه ابنُ مالك، وقال:
(1) الأحزاب: 10.
(2)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح 6/ 293.
(3)
المصدر السابق 15/ 460.
(4)
الأعراف: 123.
(5)
المصدر السابق 2/ 177.
(6)
مصابيح الجامع 2/ 427.
غفَل عنه أكثرُ النحويين" (1).
وحقيقة الأمر أن ابنَ مالك لم يقل ذلك، وإنما قال:"غفَل عن التنبيه عليه أكثرُ النحويين"(2)، وفرقٌ بين العبارتين؛ لأمور:
1 -
أن إغفال التنبيه لا يعني عدمَ معرفة ذلك الأمر.
2 -
أن الجهل بأي أمر، يتعذَّرُ التنبيه عليه؛ إذ هو أمرٌ مجهول.
3 -
في عبارة ابن مالك دلالة على أن النحويين يعرفون ذلك، لكن غفل أكثرُهم عن التنبيه عليه.
4 -
في عبارة ابن الملقن دلالة على أن أكثر النحويين لم يعرفوا ذلك، ويعرفُ بعضُهم ذلك؛ سواءٌ نبهوا عليه أم لم ينبهوا.
بهذا يتبيَّن لنا مدى اهتمامِ ابن الملقن بالدقة في النقل، وأن ما ورد من المآخذ عليه لا يعدو أن يكونَ من النَّزْر اليسير الذي لا يَضير السبيلَ الذي اتخذه ابنُ الملقن في شرحه الجامعَ الصحيح من التوضيح وفكِّ اللبس.
(1) التوضيح لشرح الجامع الصحيح 2/ 292.
(2)
شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح 1/ 62.