الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة
(كاد) بين النفي والإيجاب
في قول عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه: "يا رسول الله! ما كدتُ أصلي العصرَ حتى كادت الشمسُ تغربُ"(1).
قال ابن الملقن:
"مقتضى الحديث أن عمر صلى العصر قبل المغرب؛ لأن النفي إذا دخل على (كاد) اقتضى وقوعَ الفعل في الأكثر، كما في قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (2)، والمشهورُ في (كاد) أنها إذا كانت في سياق النفي أوجَبَت، فإن كانت في سياق الإيجاب نَفَت، وقيل: النفيُ نفيٌ، والإيجابُ إيجاب"(3).
بيان المسألة:
ذكر ابنُ الملقن رأيين في إثبات (كاد) إذا دخلها النفيُ، وبيان ذلك فيما يلي:
اختلف العلماء في (كاد) إذا دخلها النفيُ؛ فمنهم مَن يرى أنها إنْ دخلها النفيُ أوجَبَت، وإن لم يدخُلْها نَفَت (4)، ومنهم مَن يرى أن نفيَها نفيٌ وإيجابَها إيجابٌ (5).
واحتجَّ من قال بأن النفي إذا دخلها أوجَبَت، وإن لم يدخلها نَفَت، بقوله تعالى:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} ، فلما دخل النفيُ على (كاد) ثبَت الفعلُ بعدها، وإلى هذا أشار المعري مُلغِزا (6):
أَنَحْوِيَّ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ
…
جَرَت في لسانَي جُرهُمٍ وثَمُود
إذا استُعمِلت في صُورةِ الجحدِ أثبَتَت
…
وإن أُثبِتت قامت مقامَ جُحود
(1) صحيح البخاري 1/ 122، باب من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت.
(2)
البقرة: 71.
(3)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح 6/ 282.
(4)
فتح الباري 2/ 69.
(5)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1/ 87، شرح الكافية الشافية 1/ 467، البحر المحيط في التفسير 1/ 416، الكواكب الدراري 4/ 230.
(6)
الطراز في الألغاز 75.
فأُجيب عن هذا اللغز:
نعم هي (كادَ المرءُ أن يَرِدَ الحِمَى)
…
فتأتي بإثباتٍ بنَفْيِ وُرود
وفي عكسِها (ما كاد أن يردَ الحِمَى)
…
فخُذْ نظمَها فالعلمُ غيرُ بعيد
أمَّا حجةُ مَن يرى أن نفيها نفيٌ وإيجابَها إيجابٌ؛ فهي: أن (كاد) تعني: المقاربةَ، فتقول:(كاد زيدٌ يبكي)؛ أي: قاربَ البكاء، فالمقاربةُ ثابتةٌ والبكاءُ مُنتفٍ. وإن قلت (لم يكدْ زيدٌ يبكي)، فمقاربةُ البكاء منتفيةٌ ونفسُ البكاء مُنتفٍ (1). ففي كلا القولين انتفاءُ البكاء، مع إثبات كاد ونفيها.
ويدلُّ على ذلك قولُ ذي الرُّمَّة:
إذا غَيَّرَ النَأْيُ المُحِبِّين لم يَكَدْ
…
رَسِيسُ الهوى مِن حُبِّ ميَّةَ يَبرَحُ (2)
أي: أن حب مية لم يُقاربِ الزوالَ أو التبدُّلَ.
أما تخريج الآية: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (3)؛ فهو: أن النفيَ إعلامٌ ببُعدِ وقوع الذبح، والكلامُ متضمِّنٌ زمنين مختلفين (4).
واعتُرض على ذلك: بأن (كاد) ليست للمقاربة؛ إذ إن نفيَ الفعل يناقضُ وقوعَه، فلو كانت للمقاربة للزِم التناقضُ (5).
والجوابُ عن ذلك في مثل هذه الآية: بأن النفي هو في اللفظ، والإثبات في المعنى؛ لأن الفعل قد وقَع (6)، ومثلُ ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم:(كاد الفقرُ أن يكونَ كفرًا)(7)، فالإثباتُ في اللفظ
(1) شرح الكافية الشافية 1/ 467.
(2)
البيت من الطويل، ديوانه 78، المفصل في صنعة الإعراب 1/ 359، شرح الكافية الشافية 1/ 469، شرح الأشموني 1/ 292.
(3)
البقرة: 71.
(4)
أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1/ 87، شرح الكافية الشافية 1/ 467، البحر المحيط في التفسير 1/ 416، الكواكب الدراري 4/ 230.
(5)
مفاتيح الغيب 3/ 550.
(6)
مفاتيح الغيب 24/ 400.
(7)
الدعاء للطبراني 319، بحر الفوائد المشهور بمعاني الأخبار 56، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 3/ 53.
والنفيُ في المعنى.
والذي يترجحُ أن (كاد) نفيُها نفي وإثباتُها إثباتٌ، ويظهرُ ذلك جليًّا في مثل قوله تعالى:{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (1)، فعدمُ مقاربة الرؤية يقتضي عدمَ وقوعها أيضًا.
(1) النور: 40.