الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: الحديثُ النبوي وأثرُه في التقعيد النحوي
تبقى مسألةُ الاستدلال بالأحاديث النبوية على القواعد النحوية سجالًا بين أهل العلم، فَصَولةُ صائل تُبرزُ جانبًا، وأخرى تدحضُ جانبًا آخر، وما كان من الباحث -بعد أنِ اطلعَ على بعض ما كُتب في هذه المسألة (1)
- إلا أن يُدرك أن العِلمَ أخذٌ وعطاءٌ بين أهله بالحسنى، ومحاولة للترجيح بالدليل؛ فحاولَ الترجيحَ بين الأقوال حسَبَما يظهرُ له.
ومن هنا أستعرضُ جوانبَ المسألة، وأذكرُ أبرزَ ما قيل فيها، مختصرًا ما أمكن.
انقسم النحويون، حيالَ الاستشهاد بالحديث الشريف على إثبات القواعد النحوية؛ إلى ثلاث طوائف:
أُولاها- طائفةٌ أجازت الاستشهادَ بلا قيود، ما دام النصُّ هو قولَ خير البشرية صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو أفصحُ العرب، وكان ممن يذهب إلى ذلك: الفارسيُّ، والسُّهَيلي، وابنُ خروف، وابنُ مالك.
ثانيها- طائفة مَنَعَتْ الاستشهادَ بالحديث الشريف على القواعد النحوية مطلقًا؛ وكان
(1) قضية الاستشهاد بالحديث النبوي على إثبات القواعد النحوية تستلزم من كل باحث الاعتراف بثلاثة أمور:
أحدها: فضل من سبقه من العلماء، واحترام وجهة نظرهم.
ثانيها: تلاطم الأمواج واختلاجها وكثرة المصنفات فيها، بَلْهَ الآراء المنثورة في الكتب والرسائل العلمية.
ثالثها: أن من أهداف البحث العلمي اختصار المطول، كما أن تكرار كلام الآخرين لا يزيد البحث العلمي إلا تورُّما -أي: ليس كل بيضاء شحمة- خصوصًا إن لم يُرافقه إبداء وجهة نظر، أو محاولة الوصول إلى نتيجة، أو انتهاج منهج جديد حيال هذه القضية.
ومما مضى آثر الباحث أمرين:
أحدهما: أن يعرض القضية بأسلوبه مُختصِرًا ما أمكنه الاختصار، مُردفًا ذلك بذكر بعض الأمور التي قد يكون لها بعض الأثر -فيما يراه- بإذن الله.
ثانيهما: أن يذكر المصادر التي اطلع عليها جملة واحدة؛ مخافة إثقال كاهل النص بكثرة الإحالات، ما دام الكلام في هذه القضية مكرورًا منشورًا، وذكرها حسب الترتيب الهجائي:
الاستدلال بالأحاديث النبوية الشريفة على إثبات القواعد النحوية 5، الاستشهاد بالحديث النبوي الشريف عند ابن عقيل 24، الأصول دراسة إبستيمولوجية للفكر العربي عند العرب 94، الاقتراح في أصول النحو وجدله 96، الحديث النبوي في النحو العربي 133، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب 12 - 13، السير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث في النحو العربي 63، القضايا النحوية والصرفية في كتاب التوضيح لشرح الجامع الصحيح 23 - 64، الكفاية في علم الرواية 177، موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث الشريف 46.
من أسباب امتناعهم عن الاستشهادِ بالحديث الشريف: فُشُوُّ اللحن بدخول الأعاجم في الإسلام، مع إجازة العلماء روايةَ الحديث بالمعنى، فيصعبُ التيقنُ من أنَّ ما ورد في الحديث هو من ألفاظه صلى الله عليه وسلم، وممن يُمثِّلُ هذه الطائفة: ابن الضائع، وأبو حيَّان الأندلسي.
ثالثُها- طائفةٌ انتهجت منهجًا وسطًا -لا هي إلى الأخذ المطلق أقربُ، ولا إلى المنع المطلق أقرب؛ إذ كان منظورُهم لهذه المسألة مبنيًّا على غلبة الظن بأن ما ورد في حديثٍ ما هو من قوله عليه السلام لفظًا؛ فما ترجَّح لديهم أنه رُوي باللفظ فإنه يُستدل به، وما لم يكن كذلك فلا، وكان ممَّن سار على هذا النهج: الشاطبيُّ.
وبعد القراءة والتأمل لأبرزِ ما دار حولَ القضية من اتجاهاتٍ متعددة وآراءٍ متآلفة أو متخالفة، انتهى الباحثُ إلى أمرين:
أحدُهما: دراسةُ أسباب منع الاحتجاج بالحديث الشريف، والاحترازاتِ التي وضعها العلماءُ فيما رُوي بالمعنى، وستكون هذه الدراسة موجزة.
الثاني: إبداءُ الرأي في هذه القضية من خلال ما وقف عليه الباحثُ من الأدلة.
وليس من موضوعِ حديثِنا مسألةُ الحديث الموضوع أو الضعيف ونحوه مما لم يثبُت أنه حديثٌ، فهو ليس محلَّ خلافٍ أنه لا يُستشهدُ به.
وإنما الكلامُ عن الأحاديثِ الصحيحة الثابتة عند أهل الحديث في كتبه المعتمدة.
أولُ أسباب رفض الاستشهاد بالحديث: دخولُ الأعاجم الإسلامَ، ومشاركتُهم في رواية الحديث مع تفشِّي اللحن بعد الصدر الأول من الإسلام، ويبدو أن هذا الكلامَ لا يؤخذُ على إطلاقه؛ لأن الواقعَ يخالفُه، وكثيرٌ من علماء العربية أيضًا ليسوا من أصول عربية، وكذلك العلوم الأخرى، فمَن دخل الإسلامَ تعلمَ العربيةَ ووصل فيها إلى ما يكفي للمشاركة في العلم روايةً ودراية، ولهذا يبدو للباحث أن هذا السبب لا يُعد مانعًا من الاستشهاد بالحديث، خاصةً مع حرص كل مسلم على نقل الكلام بلفظه، خاصةً كلامَه صلى الله عليه وسلم الذي اعتنى به المسلمون عنايةً خاصة؛ حرصًا عليه وخوفًا من الكذب الذي حذَّر منه في مثل قوله:(مَن كذبَ عليَّ متعمدًا فليتبوأْ مقعدَه من النار)(1).
(1) صحيح البخاري 1/ 33، صحيح مسلم 1/ 10.
وإن قيلَ: إن أئمةَ النحو القدماءَ لم يستشهدوا بالأحاديث النبوية، فهذا القولُ خطأٌ بهذا الإطلاق؛ فقد كتب غيرُ واحد من العلماء والباحثين مبينًا استدلالَ القدماء بالحديث؛ على تفاوُتٍ بينهم، وأسبابُ ذلك مذكورةٌ في الكتب التي أحلتُ إليها سابقًا.
ولو كان ذلك صوابًا فيُمكنُ القولُ بأن عدم الاستدلال لا يعني الرفضَ؛ إذ من المعروف في الأصول الفقهية والعلمية: أنه لا يُنسب إلى ساكت قولٌ، وأن السكوتَ لا يُقدَّم على التصريح.
ولا يغيبُ عن ذي لبٍّ أن في الشعر أبياتًا مصنوعةً، وأن في بعضها لحنًا، وألفاظًا مختلفة للبيت الواحد، وبعضُ قائليها أعاجمُ، وبعضُها مجهولٌ قائلُه، لكنَّ ذلك لم يمنعْ من الاستشهادِ بالشعر جملةً واحدة.
وخلاصةُ ما تبيَّن لي من دراسة الموضوع هو: جوازُ الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف على القواعد النحوية إذا استوفى شروط الاحتجاج.