الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة
تَكرار (لا) الناهية
في قوله عليه السلام: "لا تَحَرَّوْا بصلاتكم طلوعَ الشمس ولا غروبَها"(1).
قال ابن الملقن:
"و (لا) الناهية دخلت بعد الواو؛ لتفيد النهيَ عن كل منهما"(2).
بيان المسألة:
ذكر ابن الملقن أن (لا) الناهيةَ قد يُنهى بها عن أمور عدة، وقد ينهى بها عن شيء بعينه، وبيان ذلك فيما يلي:
مثَّل سيبويه وغيره بـ: "لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبن"، وذلك عندما أرادوا النهي عن الجمع بين اللبن والسمك، ولو أنهم أرادوا النهي عن أكل السمك على كل حال، أو شرب اللبن على كل حال لقالوا:"لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن"(3).
وعكسُ ذلك في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ} (4)، أي: لا يسخر قومٌ من قوم، ولا يسخر نساءٌ من نساء.
ومثله قولُ البُوصِيري (5):
ولا تُطع منهما خَصْمًا ولا حكمًا
…
فأنت تعرفُ كيدَ الخصمِ والحكمِ (6)
أي: ولا تطع حكمًا.
وبناء عليه -كما في الحديث السابق- فإن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينهى عن تحري طلوع الشمس، وأن ينهى عن تحري غروب الشمس، بنهيين لا بنهيٍ واحد، ولو أنه أراد النهيَ عن
(1) صحيح البخاري 1/ 120، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس.
(2)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح 6/ 264.
(3)
الكتاب 3/ 42، المقتضب 2/ 25، الأصول في النحو 2/ 154.
(4)
الحجرات: 11.
(5)
هو: محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي، شاعر مصري من القرن السابع الهجري، ت: 698 هـ، وترجمته في: الوافي بالوفيات 3/ 93، العمدة في إعراب البردة قصيدة البوصيري 1/ 15.
(6)
العمدة في إعراب البردة قصيدة البوصيري 1/ 84.
تحري الطلوع والغروب بالصلاة لقال: لا تحرَّوا بصلاتكم طلوعَ الشمس وغروبها.
هذا، وقد اختلف العلماءُ في جواز حذف الفعل المجزوم على أقوال: منهم مَن يرى الاكتفاءَ بما سُمع عن العرب (1)، ومنهم من يمنعُ حذفَ المجزوم إلا ما جزم بـ (لَمَّا)؛ وذلك لفهم المعنى، ومثالُ ذلك: سرتُ إلى المدينة ولَمَّا، أي: ولما أدخلْها، وخُصت بذلك (لما) لأنها نفيُ (قد فَعَل)(2)، ومنهم مَن يرى جوازَ حذف المجزوم إذا دَلَّ عليه دليل، كما عند ابن عصفور (3).
ومما قد يُختلف فيه: كونُ (لا) في (ولا غروبها) نافيةً، فيقال بأن (لا) نافية؛ لأنه جاء بعد (لا) اسمٌ نكرةٌ، و (لا) الناهيةُ لا تدخل إلا على الفعل المضارع.
لكن يرى السهيلي أن (لا) الناهيةَ هي نافيةٌ، والجزم بعدها بلام الأمر مضمرةً قبلها حُذفت كراهةَ اجتماع لامين في اللفظ (4). وقد عُدَّ هذا الرأي ضعيفًا (5).
ومثلُ ذلك في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} (6)، فـ (لا) مختلَفٌ فيها على قولين:
1 -
(على النهي)، أي: لا تتعرضوا للفتنة فتصيبكم.
2 -
و (على النفي)؛ لأن الجملة صفة للفتنة، ولا حاجة إلى إضمار قول؛ لأن الجملة خبرية، أو لأن الفعل جواب الأمر (7).
(1) ارتشاف الضَرب 4/ 1858.
(2)
شرح جمل الزجاجي لابن عصفور 2/ 305.
(3)
نقلا: ارتشاف الضرَب 4/ 1858، ولم أجد -حسب اطلاعي- في كلام ابن عصفور ما يدل على ذلك، غير هذه العبارة في المقرب 272: "
…
وكل جملة غير محتملة للصدق والكذب إذا ضُمنت معنى الشرط فإنها لا تحتاج إلى جواب فتجزمه، إلا جملة النهي إذا ضمنت معنى الشرط فإنما تتقدر بفعل منفي
…
"، ومثل أبو حيان بعدما نسب الرأي لابن عصفور بالمثال التالي: اضرب زيدًا إن أساء وإلا فلا، أي: فلا تضربه، وما ذكر ابن عصفور في شرح جمل الزجاجي مخصوص بمجزوم (لما).
(4)
نتائج الفكر في النحو 112.
(5)
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب 1/ 327، الجنى الداني 300.
(6)
الأنفال: 25.
(7)
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب 1/ 325.
ومن ذلك قوله عليه السلام: "لا يشيرُ أحدُكم إلى أخيه بالسلاح"(1)، قال ابنُ حجر: بإثبات الياء، وهو نفيٌ بمعنى النهي، ووقع لبعضهم (لا يُشِرْ) بغير ياء، وهو بلفظ النهي، وكلاهما جائز (2). وقال النووي: نهيٌ بلفظ الخبر، وأن هذا أبلغ من لفظ النهي (3).
وربما يقعُ الاختلافُ في (لا) أناهية هي أم نافية؛ وذلك لشبه (لا) النافية بـ (لا) الناهية (4).
والذي يترجَّحُ عندي أن (لا) في الحديث ناهية، وأنه يجوزُ حذفُ المجزوم إذا دَلَّ عليه دليل، وذلك لِمَا ثبت من الدليل في القرآن والحديث والشعر، ولِمَا فيه من الاختصار.
وإنْ قيل بأن الحذف يقتضي التقدير، والأصل عدمه، فهذا صحيح (5)، لكن وضوح المعنى هو الذي خوَّل لنا الحذف، ولو لم نقدِّر لما احتيج إليه، ومثالُ ذلك:(اضرب زيدًا إن أساء وإلا فلا)، أي: فلا تضربه إن لم يُسئ.
ومن دراسة المسألة يتبيَّن أن ما ذكره ابن الملقن معروف عند النحويين، وله ما يعضده من الشواهد والسماع.
(1) صحيح البخاري 9/ 49، باب من حمل علينا السلاح فليس منا.
(2)
فتح الباري 13/ 24.
(3)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 16/ 170.
(4)
مغني اللبيب عن كتب الأعاريب 1/ 325.
(5)
الفصول المفيدة في الواو المزيدة 60، شرح التسهيل 2/ 373، موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب 83.