الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بنفيِ الكَرامَات؛ فانتصَرَ الباقِلَّانيُّ لابنِ أبي زيدٍ، وبيَّن قولَهُ (1)؛ وقد قال في ابنِ أبي زيدٍ:"شَيْخُنا"(2).
*
أسبابُ انتشارِ علمِ الكلامِ في المَغرِب:
وقد كانت غالبُ البِدَعِ الكلاميَّةِ في المغربِ يَحمِلُها أفرادٌ، وربَّما يَتهيَّبونَ الدعوةَ إليها، والكتابةَ بها، حتى إذا كان القرنُ الرابعُ والخامسُ، حمَلَها بعضُ المَغارِبةِ إلى بُلْدانِهم مِن بعضِ شيوخِ المَشرِق، وبدَأَ الخوضُ في الكلامِ والفلسفةِ، وبدَأَتْ رياحُ المشرِقِ الكلاميَّةُ تصلُ وتؤثِّرُ في المغرِبِ، بأسبابٍ ثلاثةٍ:
أوَّلُها: ارتحالُ المَغارِبةِ إلى المشرقِ الأدنى والأقصى، والأخذُ والسماعُ مِن عُلَمائِها؛ فسَمِعُوا منهم القرآنَ والسُّنَّةَ والأثَرَ، والفقهَ والكلامَ، ورحَلَ فرَجُ بنُ سَلَّامٍ القرطبيُّ، ولَقِيَ الجاحظَ، وأخَذَ كُتُبَهُ، ورحَلَ عبدُ اللهِ بن مَسَرَّةَ بنِ نَجِيحٍ، وأبو بكرٍ يحيى بنُ السَّمِينة، وإبراهيمُ القَلَانِسِيُّ، ودَرَّاسُ بن إسماعيلَ؛ القيروانيُّونَ، وغيرُهم.
ولم يأخُذْ -فيما أعلَمُ- أحدٌ مِن أعيانِ المَغارِبةِ المعتَبَرِينَ مِن أبي الحسَنِ الأشعريِّ عِلْمَ الكلامِ مباشَرةً، وإنما كان هناك مَن التَقَى ببعضِ أصحابِهِ؛ كابنِ مجاهِدٍ الطائيِّ؛ فقد ارتحَلَ إلى العراقِ: أبو بكرٍ إسماعيلُ بن إسحاقَ بنِ عُذْرةَ، ومحمَّدُ بنُ خَلْدُونَ؛ وكلاهما مِن تلامذةِ ابنِ أبي زيدٍ القَيْرَوانيِّ، والتقيا ابنَ مجاهدٍ مِن جملةِ مَن التقياهُ بالعراق، وقد استجاز ابنُ مجاهِدٍ كتابَ "المختَصَر" لابنِ أبي زَيْدٍ القَيْرَوانيِّ، وأرسَلَ إليه مع تلاميذِهِ بذلك، ورحَلَ إلى المشرقِ: أبو بكر محمَّدُ بن مَوْهَبٍ، وهو جَدُّ أبي الوليدِ الباجيِّ، وحَكَمُ بن مُنذِرٍ البَلُّوطِيُّ.
(1)"البيان"(ص 5).
(2)
في نفس الموضع السابق.
وأكثَرُ المتكلِّمينَ أثرًا في المغرِبِ: أبو بكرٍ الباقِلَّانِيُّ، وصاحبُهُ أبو ذَرٍّ الهَرَويُّ، ثُمَّ الجُويْنِيُّ:
فالأوَّلُ: أخَذَ عنه المَغارِبةُ في العراق، وبلَغَت بعضُ كُتبِه المغرِبَ، كـ "التمهيد"؛ فقد شرَحَه أبو القاسِم عبدُ الجَلِيل الرَّبعيُّ القيروانيُّ، وسَمَّى شَرْحَه:"التَّسْدِيد، في شرحِ التَّمْهِيد"، وكان منتَصَفَ القَرنِ الخامس.
والثاني: أخَذُوا عنه في مَكَّةَ؛ لأنَّه جاوَرَ فيها، وأسمَعَ البخاريَّ والفقهَ والكلامَ أزيَدَ مِن ثلاثينَ عامًا، وكان يَمِيلُ إلى مذهبِ مالك، وكان يُعجَبُ مِن مذهبِهِ، وهو هَرَوِيٌّ، وكان يُسأَلُ: مِن أينَ تَمَذْهَبْتَ بمذهبِ مالكٍ ورأيِ الأشعريِّ، معَ أنَّك هَرَوِيٌّ؟ !
وأمَّا الثالثُ: فقد انتشَرَتْ كتبُهُ وتلاميذُهُ في المغرِبِ وغيرِه.
وقد سَمِعَ مِن الباقلَّانيِّ جماعةٌ مِن أهلِ المغربِ وساكنيها؛ كأبي عِمْرانَ الفاسيِّ، وأبي طاهِرٍ البغداديِّ، والحُسَيْنِ بنِ حاتمٍ الأَذَريِّ نزيلِ القَيْرَوانِ، وأبي عَمْرٍو الدانيِّ.
وسَمِعَ مِنْ تلامذةِ الباقِلَّانيُّ جماعةٌ مِن المغارِبة؛ كعبدِ الجَلِيل الرَّبعيِّ القيروانيِّ.
وسَمِعَ مِن أبي ذَرٍّ الهَرَويِّ -وقد سكَنَ مكَّةَ عقودًا- وأخَذَ عنه جماعةٌ كثيرةٌ مِن أهلِ المغربِ، وكان يُقصَدُ لروايتِهِ للبخاريِّ، وصحةِ ضبطِهِ له، وكان أكثَرَ مَن أدخَلَ أَهلَ الحديثِ المغاربةَ في علمِ الكلام؛ فقد أخَذَ عنه أبو عِمْرانَ الفاسيُّ، وأبو الوليدِ الباجيُّ، ومَكِّيُّ بن أبي طالبٍ، وجماعةٌ.
وسَمِعَ مِن الجوينيِّ جماعةٌ مِن المغاربةِ؛ كابنِ أبي حَمْزةَ الأندلسيِّ، ومحمَّدٍ المَيُّورَقِيِّ، وأبي القاسمِ المَعَافِرِيِّ، ورحَلَ بعضُ أصحابِهِ المشارِقةِ إلى المغربِ معلِّمِينَ؛ كأبي نَصْرٍ سهلِ بنِ عثمانَ النَّيْسابُوريِّ، ثُمَّ
لَقِيَ أبو بكرِ بن العَرَبيِّ أصحابَ الجُوَيْنيِّ في المشرقِ؛ كالغَزَاليِّ، ولكنَّه لم يَلْقَ الجوينيَّ نَفْسَهُ؛ فأخَذَ علمَهُ ونشَرَهُ في المغربِ واتسَعَ.
ولم يكنْ مذهبُ المتكلِّمينَ -التأويلُ والتفويضُ التامُّ- منتظِمًا في المغربِ الأقصى والأدنى، ولا رَوَاجَ له مستمِرٌّ، وإنما في أفرادٍ وزوايا، حتى آخِرِ القرنِ الخامسِ؛ كما قال ابنُ حَزْم:"إنَّ الأشعريَّةَ قامَتْ لهم سُوقٌ بصِقِلِّيَّةَ والقَيْرَوانِ، ثم رَقَّ أمرُهم"(1).
وكان أوَّلُ أمرِهم وإدخالِهم علمَ الكلامِ في الاعتقادِ يستنكِرُهُ علماءُ المغربِ، وربَّما بالَغُوا في ذلك، وقد كان الأندلسيُّ أبو محمَّدٍ عبدُ اللهِ القَحْطانيُّ يَصِفُهم في "قصيدتِهِ" بـ "الزنادقةِ"، وكان ذلك في منتصَفِ القرنِ الرابع (2)، ومِن بعدِهِ فعَلَ ابنُ حزمٍ، وسمَّى مَقَالَتَهم بـ "الملعونةِ"(3)، حتى ذكَرَ المَرَّاكُشِيُّ في "المُعجِب": أنَّ أهلَ المغرِبِ أوَّلَ الأمرِ كفَّروا كلَّ مَن دخَلَ في علمِ الكلامِ (4)، وكان بعضُ الأئمَّةِ يُسأَلُ عن حكمِ لعنِ مَن استعمَلَ علمَ الكلامِ وسبِّهم؛ كما سُئِلَ ابنُ أبي زيدٍ، وابنُ رشدٍ (5).
والإشاراتُ في تفويضِ الحقيقةِ في كلامِ بعضِ أئمَّةِ المغارِبةِ، لا تعني: أنهم يؤصِّلون لذلك، وإنما هي تقريراتٌ عارِضةٌ يقرِّرونَ في نظائِرِها خلافَها؛ مما يدُلُّ على أنَّهم لم يكونوا على أصولِ الكلام في التأويلِ والتفويضِ التامِّ، وإشاراتُ التفويضِ عند بعضِ المغارِبةِ المتقدِّمينَ نظيرُ إشاراتِ التشبيهِ في كلامِ بعضِ المشارِقةِ التي ليست أصلًا لَدَيْهِم؛ يقرِّرونَ خلافَها في مواضعَ أُخرى مِن النظائر.
وقد كان المتقدِّمونَ مِن المالكيَّةِ على إثباتِ حقيقةِ الصفاتِ وإمرارِ
(1)"الفصل"(4/ 155).
(2)
"النونية"(187).
(3)
"الفصل"(4/ 34).
(4)
"المعجب"(ص 131).
(5)
"مسائل ابن رشد"(153 و 215).
نصوصِها؛ بلا تكييفٍ ولا تفسيرٍ ولا تشبيهٍ؛ حتى كانوا يُسمَّوْنَ مِن خُصُومِهم بـ: "الحَشَويَّةِ"؛ كما قال أبو القاسمِ بنُ حَوْقَلٍ في أهلِ السُّوسِ: "والمالكيَّةُ مِن فُظَّاظِ الحَشَويَّة"(1).
وكلما تقدَّم الزمَنُ في المغرِبِ، اتسَعَ القولُ بالكلامِ مع الأعوامِ، حتى تقرَّر وثبَتَ ورسَخَتْ أصولُهُ في مجالسِ العلمِ والكتبِ بأيدي المغارِبةِ أنفسِهم، بعدما كان بأيدي غيرِهم.
وثانيها: انتقالُ كتبِ المشارِقةِ إلى المغرِبِ مع الرُّسُلِ والنُّسَّاخ، وقد كان بعضُ المعتزِلةِ ممَّن يزعُمُ اتباعَ مذهبِ مالكٍ في العراق، يُكاتِبُ أصحابَ مالكٍ بالمغربِ بالاعتزالِ ويدعوهم إليه؛ فقد كتَبَ عليُّ بنُ أحمَدَ البغداديُّ رسالةً إلى أهلِ المغرب بالقَيْرَوانِ يدعوهم إلى الاعتزالِ، ونَفْيِ القَدَرِ، وخَلْقِ القرآنِ، ويزعُمُ أنَّ هذا مذهبُ مالكِ بنِ أنَسٍ؛ لأنه يَعلَمُ إجلالَهم لمالكٍ وقولِه، وقد رَدَّ عليه جماعةٌ مِن المغارِبة، ومنهم ابنُ أبي زَيْدٍ في رسالتِهِ "الرَّدِّ على القدريَّة"(2).
وكانت بعضُ كتبِ ابنِ مجاهِدٍ صاحبِ أبي الحسَنِ قد أُدخِلَتِ المغرِبَ؛ ككتابِهِ: "عُقُودِ أهلِ السُّنَّةِ"، ورسالتِهِ فيما التمَسَهُ أهلُ الثَّغْرِ مِن شرحِ أصولِ مذاهبِ المتعبِّدين.
وثالثُها: انتقالُ بعضِ المشارِقةِ إلى المغرِبِ ممَّن له نظَرٌ في الفلسفةِ والكلامِ، وهذا قليلٌ؛ كالحُسَيْنِ بنِ حاتِمٍ الأَذَرِيِّ نزيلِ القيروانِ، صاحبِ أبي بكرٍ الباقلَّانيِّ (3)، ولكِنِ الأَذَريُّ موصوفٌ بالضَّعْفِ في علمِ الكلام، وكان أبو محمَّدِ بن عَطِيَّةَ الأندَلُسيُّ في فِهرِسِه يَصِفُه ببَلادةِ الذِّهْنِ في علمِ
(1)"صورة الأرض"(1/ 191).
(2)
انظر: "ترتيب المدارك"(6/ 218)، و"شجرة النَّوْر"(ص 96).
(3)
"تاريخ دمشق"(41/ 471).