الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنْ تقارَبَتْ أو شَكَّ، توقَّف واعتزَلَ؛ فهو أسلَمُ لدِينِه ونَفْسِه.
والخوارِجُ يَجعَلُون رأيَهم دِينًا، والزنادقةُ يَجعَلُونَ الدِّينَ رأيًا، وأهلُ السُّنَّةِ يَفرُقُونَ بين الدِّينِ والرَّأْي، ومواضِعِ القطعِ ومواضِعِ الاجتهاد، وأئمَّةُ الجَوْرِ والمُرجِئةُ يُحِبُّونَ الإكثارَ مِن ذَمِّ الخوارِج، والخوارِجُ يُحِبُّونَ الإكثارَ مِن ذمِّ أئمَّةِ الجَوْرِ والمُرجِئة.
وكُلُّ فِئَةٍ تَسحَبُ ذَمَّ الأخرى على كلِّ مخالِفِيها ولو كان وَسَطًا بينهم مِن أهلِ الاعتدال.
والعالِمُ المُنصِفُ لا يتكلَّمُ بما تُحِبُّهُ كُلُّ فئةٍ في خَصْمِها، بل بما يُحِبُّهُ اللهُ فيهم؛ فكم تأذَّى الحَقّ، بمحاباةِ الخَلْق!
*
المُوازنةُ بين المُرجِئَةِ والخَوارجِ:
والمُرجِئةُ أشَدُّ خطَرًا وأثَرًا على الإسلامِ مِن الخوارجِ في البلاد، والخوارجُ أشَدُّ عليه مِن المُرجِئةِ في مواضعِ الجهاد؛ لأنَّهم يقدِّمونَ قتالَ المسلِمينَ في زمَنِ شِدَّةِ الحاجةِ بصدِّ عادِيَةِ الكافِرِين، ويُعِينُونَ -وإنْ لم يشعُرُوا- الكُفَّارَ على الإسلامِ مِن خارِجِه، والمُرجِئةُ عليه مِن داخِلِه، وبفعلِ الخوارجِ ذلك يتخلَّلُ الكفرُ والبِدْعةُ مِن خلالِ ثغورٍ شَغَلُوا المسلِمِينَ عن حِمَايَتِها، وربَّما أعانَهم الكُفَّارُ على المسلِمِينَ خديعةً بما يتوهَّمونه غنيمةً ونصرًا.
*
زيادةُ الايمانِ ونقصانُه:
* قَالَ ابْنُ أَبي زَيْدٍ (يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الأَعْمَالِ، وَيَنْقُصُ بِنَقْصِهَا؛ فَيَكُونُ فِيهَا النَّقْصُ، وَبِهَا الزِّيَادَةُ):
والإيمانُ يزيدُ وينقُصُ؛ يزيدُ بالطاعة، وينقُصُ بالمعصية، وقد عبَّر
ابنُ أبي زيدٍ بنحوِ هذا في كتابِهِ "الجامع"(1)، ولكنَّه هنا جعَلَ الزيادةَ والنقصانَ بزيادةِ الأعمالِ ونقصِها؛ ليكونَ أشمَلَ في المعنى؛ فإنَّ الإيمانَ ينقُصُ إنْ نقصَتِ الطاعاتُ ولو لم يَرتكِبِ المؤمِنُ معصيةً؛ فمَن كان يقومُ الليلَ ويُحْيِيه، يزيدُ إيمانُهُ، فإنْ ترَكَ قيامَ الليلِ، لم يكنْ إيمانُهُ بدونِ القيامِ مِثْلَهُ مع القيام.
وقد تواتَرَتِ الأدلَّةُ في زيادةِ الإيمانِ ونقصانِهِ مِن الكتابِ والسُّنَّة؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، وقال:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وقال:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4].
وفي "الصحيحِ" مِن حديثِ أبي سَعِيدٍ رضي الله عنه مرفوعًا: (يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ عز وجل: أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ
…
) (2).
ومِن ذلك: قولُهُ صلى الله عليه وسلم (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً) - وَفِي رِوَايَة: (بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً) - (أَفْضَلُهَا: شَهَادَةُ أَنْ لَا اِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا: اِمَاطَةُ الأذَى مِنَ الطَّرِيق، وَالْحَيَاءُ: شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ)(3).
وليس في المسألةِ خلافٌ عند الصحابةِ والتابِعِينَ وأَتْباعِهم؛ جاء
(1)"الجامع"(ص 110).
(2)
البخاري (22)، ومسلم (184).
(3)
البخاري (9)، ومسلم (35).
ذلك عن معاذٍ (1)، وأبي هُرَيْرة (2)، وابنِ عبَّاسٍ (3)، وجُنْدُبٍ (4)، وعُمَيْرِ بنِ حَبِيبٍ (5)، وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ (6)؛ قال يحيى بن سعيدٍ القَطَّانُ:"ما أدرَكْتُ أحدًا مِن أصحابِنا إلا على سُنَّتِنا في الإيمانِ، ويقولونَ: الإيمانُ يزيدُ وينقُصُ"(7).
وقد حكَى الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ؛ كعبدِ الرزَّاقِ (8)، وأحمدَ (9)، والبخاريِّ (10)، وأبي حاتمٍ (11)، وأبي زُرْعةَ (12)، وأبي عُبَيْدٍ (13)، وابنِ عبد البَرِّ (14)، وغيرِهم (15)، ولصراحةِ الأدلَّةِ على ذلك من الكِتاب والسُّنةِ جَزَم بعضُ أصحابِ مالكٍ بكفرِ منكِر زيادة الإيمان ونقصانِه؛ كأبي مُصعَبٍ أحمدَ بنِ أبي بكرٍ فقيهِ المدينة (16).
والإيمانُ كما يزيدُ بالطاعة، فإنَّه ينقُصُ بتَرْكِها، ولو لم يكنِ التركُ حرامًا؛ كما في الخَبَرِ في الحائِضِ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِهَا؟ قَالَ: (تَمْكُثُ كَذَا
(1) علَّقه البخاري (1/ 11) عن معاذ قال: "اجلِسْ بنا نُؤمِنْ ساعةَ".
(2)
"السُّنَّة" للخلال (1118)، و"شرح أصول الاعتقاد"(1711).
(3)
ابن ماجه (74)، واللالكائي (1712) عن ابن عباس وأبي هريرة.
(4)
"الإبانة" لابن بطة (1136/ كتاب الإيمان)، و "شرح أصول الاعتقاد"(1715).
(5)
ابن أبي شيبة (30963)، وعبد الله في "السُّنَّة"(624 و 625 و 680).
(6)
"الإبانة"(1117/ كتاب الإيمان).
(7)
"مسائل أحمد؛ رواية ابن هانئ"(1898).
(8)
"شرح أصول الاعتقاد"(1737)، و"الاستذكار"(26/ 134).
(9)
"طبقات الحنابلة"(1/ 349 - 350)، و"مناقب أحمد" لابن الجوزي (ص 172).
(10)
"شرح أصول الاعتقاد"(320)، وليس فيه لفظة: يزيد وينقص. وانظر: "فتح الباري"(1/ 47).
(11)
"شرح أصول الاعتقاد"(321).
(12)
الموضع السابق.
(13)
"الإبانة"(1117/ كتاب الإيمان).
(14)
"التمهيد"(9/ 238).
(15)
كالفسوي، والطبري، وأبي الحسن الأشعري. انظر:"صريح السُّنَّة"(27)، و"رسالة إلى أهل الثغر"(ص 272)، و"شرح أصول الاعتقاد"(1753).
(16)
ترتيب المدارك" (1/ 188).