الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان أبو العبَّاسِ عبدُ اللهِ بن طالبٍ يقولُ في خطبتِهِ على منبرِ جامعِ القَيْرَوانِ، والعلماءُ والعامَّةُ شهودٌ:"الحمدُ للهِ الذي يُشكَرُ على ما به أنعَمْ، والحمدُ للهِ الذي عذَّب على ما لو شاءَ منه عصَمْ، والحمدُ للهِ الذي على عرشِهِ استَوَى، وعلى مُلْكِهِ احتَوَى، وهو في الآخِرةِ يُرَى"(1).
وتَبِعَ هؤلاءِ أئمَّةٌ في المغربِ؛ كابنِ أبي زيدٍ القَيْرَوانيِّ صاحبِ "الرسالة"، وفي المغربِ الأقصى مِن الأندلس: أبو القاسمِ مَسْلَمةُ بن القاسم، وابنُ أبي زَمَنِينَ، وأبو عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيُّ، وابنُ عبد البَرِّ، ولم يَجْرُوا في أصولِهم مَجْرَى أهلِ الكلامِ والفلسفة.
وقد مَرَّ المَغرِبُ بمِحَنٍ شديدة، ومِن أشدِّ ما مَرَّ به أصحابُ مالكٍ في المَغرِبِ مِن محنٍ في تلك القرونِ: حُكْمُ الأَغالِبَة، وحكمُ الفاطميِّين، وحكمُ الموحِّدين؛ الأوَّل: حَنَفِي -معتزليٌّ وغيرُ معتزليّ-، والثاني: باطني، والثالثُ: أشعريٌّ غالٍ.
*
التأويلُ والتفويضُ في كلامِ بعضِ أهلِ السُّنَّة:
وقد يُوجَدُ في تقريراتِ بعضِ هذه الطَّبَقةِ تفريعاتٌ كلاميَّة، لا تأصيلاتٌ، أو ما يشابِهُ فروعَ أهلِ الكلام ولم يخرَّجْ على أصولهم، وتأتي في سياقِ كلامِهم وثنايا استطرادِهم، ولا يذكُرُونَ تلك الفروعَ تقريرًا، وربَّما ظَنَّ مَن يقرأُ بعضَ استطراداتِهم وتفريعاتِهم: أنَّ أصولَهُمْ كلاميَّةٌ، وليس كذلك:
• فابنُ عبد البَرِّ قرَّر عقيدةَ السلفِ وأهلِ السُّنَّةِ في الصفاتِ في قولِه: "أهلُ السُّنَّةِ مُجمِعونَ على الإقرارِ بالصفاتِ الواردةِ كلِّها في القرآنِ
(1)"ترتيب المدارك"(4/ 214).
والسُّنَّةِ، والإيمانِ بها، وحملِها على الحقيقة، لا على المَجَاز" (1)، وأَثبَتَ علوَّ الذاتِ، واستواءَ اللهِ على عَرْشِه، وأبطَلَ قولَ المتكلِّمينَ بتفسيرِ الاستواءِ بأنه الاستيلاءُ (2)، ولكنَّه في النزولِ حُكِيَ عنه في أحد المواضع أنه نزولُ الأمرِ والرحمةِ، وهذا ليس موافَقةً للمتكلمينَ في أصلِهم في الصِّفات الاختيارية؛ فإنه يَنقُضُ أصلَهم في ذلك في مواضع، وفي مواضعَ أخرى يُثبِتُ نزولَ الله تعالى على الحقيقةِ على ما يليقُ به سبحانَه ويُنكِرُ غيرَه.
ويُوجَدُ مِن هذه الطبقةِ بعضُ الأئمَّةِ الذين ربَّما وافَقُوا المتكلِّمينَ في بعضِ الأصولِ لا كلِّها؛ كأبي عمرٍو الدانيِّ، فهو مِن تلامِذةِ الباقِلَّانيُّ، وله مَيْلٌ إلى بعضِ كلامِهِ في "الرسالةِ الوافية"، وفي "الأُرْجُوزة"، ورسالتُهُ "الوافيةُ" أخَذَ مَعانِيَها مِن كتابِ "الإنصاف" للباقِلَّانيِّ، وقد وافَقَ فيها الباقلانيَّ في الصفات.
وربَّما كان فيهم مَن خالَفَ في الإثباتِ؛ كما في قولِ أبي عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيِّ في إثباتِ الجَنْبِ للهِ (3)؛ لقوله: {يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56]؛ وذلك أنه نظَرَ لمجرَّدِ الإضافةِ للهِ، ومجرَّدُ الإضافةِ لا تُفِيدُ إثباتَ الصفةِ؛ فللسياقِ معنًى يجبُ الأخذُ به؛ كما هو معروفٌ في لسانِ العرَبِ عند نزولِ الوحي، ولا يُنظَرُ لمجرَّدِ اللفظِ، فقد يُضِيفُ اللهُ إليه شيئًا، وليس منه، بل هو مخلوقٌ مِن مخلوقاتِه؛ كقولِهِ تعالى:{نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13]، وقولِهِ:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان: 63]، وقولِهِ صلى الله عليه وسلم في خالدِ بنِ الوَلِيدِ:(سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ)(4).
(1)"التمهيد"(7/ 145).
(2)
"التمهيد"(7/ 130 - 131).
(3)
"سير أعلام النبلاء"(17/ 569).
(4)
البخاري (3757 و 4262) من حديث أنس.
والمرادُ مِن جنبِ اللهِ: هو القُرْبُ؛ فمَن فرَّط فيما يقرِّبُهُ مِن أحدٍ، فقد فرَّط في جَنْبِه.
* الطائفةُ الثانية: طائفةٌ كَثُرَ فيها تقريرُ العقائدِ على طريقةِ أهلِ الكلامِ، وكان ذلك في كثيرٍ مِن أصولِهِم، ولم يكنْ ذلك في فرعٍ منها ولا في أصلٍ واحدٍ، وإنما كان ذلك كثيرًا أو غالبًا؛ وذلك كأبي الوليدِ الباجيِّ، وأبي بكرِ بنِ العَرَبيِّ، وتلميذِهِ القاضي عِيَاضٍ، ومِن هؤلاءِ مَن يَرُدُّ على المتقدِّمِينَ ويُخطِّئُهم كابنِ العَرَبيِّ في رَدِّهِ على ابنِ أبي زيدٍ في قولِهِ في استواءِ الذات، وعلى ابنِ عبد البَرِّ وغيرِه؛ كما في كتابِهِ "العارِضة"، و "العواصم".
وهذا يَدُلُّ على البَوْنِ بين الطائفتَيْن، وسَيْرِ الأوَّلينَ على طريقةِ السلف.
* وبين الطائفتَيْنِ: مَن له أصولٌ يُوافِقُ في بعضِها أهلَ الكلام، وله أُخرى أكثَرُ: خلافُ ذلك؛ كأبي الحسَنِ القابِسيِّ في جعلِ الإيمانِ هو التصديقَ فقطْ، ويَنُصُّ على إخراجِ العمَلِ منه، وله كتابُ "المُنقِذِ في شُبَهِ التأويل"، ولم أَرَه، وله كتابٌ في الاعتقاد، ذكَرَ فيه:"أنَّ الاعتمادَ على السمعِ، وأنَّ الجدَلَ وعلمَ الكلامِ مذمومٌ، وأنَّ للهِ يَدَيْنِ؛ كما يقولُ أهلُ الحديثِ والأثر"(1)؛ ولهذا عدَّهُ أبو نَصرٍ السِّجزيُّ ممن سلَكَ طريقَ السلف في الاعتقاد.
ومنهم: مَن يقرِّرُ على أصولِ بعضِ أهلِ الكلامِ في موضعٍ، وفي مواضعَ على أصولِ السلَفِ وأهلِ الأثَرِ؛ كمَكِّيِّ بنِ أبي طالبٍ؛ فإنَّ له شيئًا مِن التأويلِ في كتابِهِ:"الهِدَايَهْ، إلى بلوغِ النِّهَايَهْ"، وكان مِن تلاميذِ
(1)"رسالة السجزي"(ص 351).
أبي ذَرٍّ الهَرَويِّ، وابنِ أبي زَيْد، وقد تأوَّل الاستواءَ وصفةَ اليدِ؛ فجعلَهُما بمعنى القُدْرةِ في موضع (1)، والأكثَرُ تصريحُهُ بالإثبات، وقد قال:"وأحسَنُ الأقوالِ في هذه: "عَلَا"، والذي يعتقِدُهُ أهلُ السُّنَّةِ ويقولونَهُ في هذا: أنَّ اللهَ جلَّ ذكرُهُ: فوقَ سمواتِهِ على عرشِهِ دونَ أرضِه، وأنَّه في كلِّ مكانٍ بعلمِه، وله -تعالى ذِكرُه- كُرْسيٌّ وَسِعَ السمواتِ والأرضَ؛ كما قال جلَّ ذكرُه؛ وكذلك ذكَرَ شيخُنا أبو محمَّدِ بن أبي زَيْدٍ رحمه الله"(2).
ومِن الأئمَّةِ: مَن يفسِّرُ الخبَرَ بما يَظهَرُ منه التأويلُ، وهو أرادَ معنًى مِن معانيه، لا حقيقتَهُ؛ فإنَّ مِن معاني العُلُوِّ: القُدْرةَ؛ فلا يعلو إلا قادِرٌ قاهِرٌ؛ كما أنَّ مِن معاني القُدْرةِ والقهرِ: العلوَّ؛ فلا يَقْهَرُ ويَقْدِرُ إلا عالٍ؛ فيُظَنُّ أنه يَتأوَّلُ، ولو نُظِرَ إلى قولِهِ في موضعٍ آخَرَ، لبان معتقَدُهُ، وإنْ قصُرَ قولُهُ في موضعٍ آخَر.
والكلامُ في المتأخِّرينَ مِن المالكيَّةِ أكثَرُ مِن المتقدِّمينَ، حتى كان مِن هذه الطَّبَقةِ: مَن يُنكِرُ على مَن لم يَجْرِ على طريقةِ أهلِ الكلامِ؛ كما حطَّ ابنُ العَرَبيِّ على ابنِ خُوَيْزْ مِنْدَادَ، وابنِ أبي زَيْد.
وإنما ظهَرَ بعضُ كلامِ الأشعريِّ في قليلٍ من كلامِ أبي الحسَنِ بنِ القابِسِيِّ، وبعضِ تلامذتِهِ؛ كأبي عِمْرانَ الفاسيِّ على ما تقدَّم، وتوسَّع في بعضِ تلامذةِ أبي عِمْرانَ؛ كأبي محمَّدٍ عبد الحميدِ بنِ الصائغِ القَيرَوانيِّ، وفي بعضِ تلامذةِ الصائغِ؛ كمحمَّدِ بنِ عليٍّ المازَرِيِّ شارحِ "مسلِمٍ" بكتابِهِ "المُعلِم".
ومِن طَبَقةِ الصائغِ في المغرِبِ: أبو بكرٍ محمَّدُ بن الحسَنِ المُرَادِيُّ الحَضْرَميُّ القَيْرَوانيُّ، صاحبُ "التجريد، في علمِ الكلام"، وتلاميذُهُ؛
(1)"الهداية"(1/ 209 و 5/ 3664).
(2)
"الهداية"(7/ 4610).
كأبي الحَجَّاجِ يُوسُفَ بنِ موسى الكَلْبيِّ، وأبي عبد اللهِ محمَّدِ بنِ خلَفٍ الإِلْبِيرِيِّ صاحبِ "الأصولْ، إلى معرفةِ اللهِ والرسولْ"، و"الرَّدِّ على أبي الوليدِ بنِ رُشْدٍ، في مسألةِ الاستواء"، وكان الإلبيريُّ معظِّمًا للجُوَيْنِيِّ.
وقد أخَذَ علمَ الكلامِ عن هذه الطَّبَقةِ: القاضي عِيَاضٌ؛ فقد أخَذَ عن أبي الحجَّاجِ يُوسُفَ بنِ موسى الضَّرِير، وقد كان نَظَمَ "الإرشاد" للجُويْنيِّ وتأثَّرَ به.
وقد أذاعَهُ ابنُ تُومَرْتَ في منتصَفِ المئةِ السادسةِ بسلطانِه، وأبو بكرِ بن العَرَبيِّ بمنقولِه؛ وكلاهما أخَذَ عن الغَزَاليِّ في المشرِق.
وليس في عامَّةِ المغرِبِ الأدنى والأقصى حتى المئةِ الخامسةِ أشعريٌّ خالصُ الأشعريَّةِ على طريقةِ المتأخِّرين، وإنْ قيل، فهي ظنونٌ لا بُرْهانَ عليها؛ فليس الثناءُ ولا التَّلْمذَةُ يُدخِلُ أحدًا في مذهَبِ أحد، ولا المُوافَقةُ في قولٍ يُدخِلُ أحدًا مع أحدٍ في الموافَقةِ على الأصول.
وإنْ كان بعضُ المتكلِّمينَ على طريقةِ الأشعريِّ مِن المتأخِّرينَ ينسُبُ بعضَ المتقدِّمينَ لطريقتِهم، فلأنَّه وافَقَهم في موضعٍ أو مَواضِع، وليس لهم كتبٌ ولا أصولٌ منقولةٌ تدُلُّ على تلك النِّسْبةِ التامَّة.
ومِن ذلك: ما يُنسَبُ إلى إبراهيمَ بنِ عبد اللهِ الزُّبَيْريِّ القَلَانِسيِّ، ودَرَّاسِ بنِ إسماعيلَ؛ القَيْرَوانيَّيْن، وكانا قبلَ ابنِ أبي زَيْد، وليس لهما كتبٌ في العقائدِ بين أيدي الناسِ اليومَ، ووجودُ بعضِ المسائلِ المنقولةِ عنهم المشابِهةِ لما عليه الأشاعِرةُ شبيهٌ بما عليه بعضُ الأئمَّةِ قبلَ الأشعريِّ بما يُشابِهُهُ في بعضِ أصولِه؛ فالموافَقةُ في مسائلَ لا تعني الموافَقةَ في المَدرَسة والأصول.
ولمَّا تمكَّن محمَّدُ بن تُومَرْتَ في القرنِ السادسِ مِن المغربِ، نشَرَ
الأشعريَّةَ المتأخِّرةَ المفوِّضةَ بالجملةِ والمتأوِّلةَ، وأطَرَ الناسَ عليها، وفتَنَ المخالِفِينَ وشَرَّدَهم، وسمَّى أتباعَ مذهبِهِ:"الموحِّدينَ"؛ لَمْزًا للمخالِفِينَ، وكان يسمِّي مَن سبَقَهُ مِن أهلِ المغرِبِ بـ:"المجسِّمةِ"؛ يُريدُ: المثبِتةَ التي لا تَتأوَّلُ، مِن المُرابِطِينَ وغيرِهم.
وفي زَمَنِ ابنِ تُومَرْتَ وما بعدَه: قَوِيَ علمُ الكلامِ في المَغرِبِ، وأُطِرَ الناسُ على الظاهِرِيَّةِ في الفروع، وعلى الأشعريَّةِ في الأصول، وشُنِّعَ على المخالِفِين، وأُحرِقَتْ كُتُبُ المالكيَّة، وكُفِّرَ أهلُ السُّنَّةِ بحُجَّةِ أنَّهم مجسِّمةٌ، وذكَرَ أبو بكرٍ البَيْذَقُ: أنَّه سُبِيَتْ نساؤُهُم لأجل ذلك، وانتشَرَتْ كتبُ ابنِ تُومَرْتَ "المُرشِدَةُ"، و"أَعَزُّ ما يُطلَب"، وشاع تدريسُ كتابِ "الإرشاد" للجُوَيْنِيِّ.
ثم جاء أبو عَمْرٍو السلالجيُّ في القرنِ السادس، وتصدَّى لتعليمِ عقيدةِ ابنِ تُومَرْتَ، وألَّف "العقيدةَ البُرْهانِيَّة"(1)، وبَقِيَتْ عمدةَ المغاربةِ في علمِ أصولِ الدِّينِ إلى اليومِ، ولا يزاحِمُها إلا كتبُ المتأخِّرِينَ؛ كالسُّنُوسيِّ في القرنِ التاسعِ في رسالتِهِ "أُمِّ البَرَاهِينِ"، و"العقيدةِ الصُّغْرى"، وقد كانت في المغرِبِ دولةُ المُرابِطِين، وكان أوَّلُها خيرًا مِن آخِرِها، ثم تَبِعَتْها دولةُ الموحِّدِين، وكان آخِرُها خيرًا مِن أوَّلِها.
وكان في المغرب قبل الموحِّدينَ مَن يصنِّفُ في الاعتقادِ على طريقةِ المتكلِّمين؛ كأبي بكرٍ المُرَاديِّ الحضرميِّ، وكان يَعُدُّهُ عياضٌ مَن أدخَلَ علمَ العقائدِ بهذه الطريقةِ إلى المغرِب.
وقد أخَذَ ابنُ تُومَرْتَ مذهَبَهُ مِن رحلتِهِ إلى المَشارِقةِ المتكلِّمين؛
(1) وهو مطبوع بتحقيق: نزار حمادي.
كما ذكَرَ ذلك: أبو الحَجَّاجِ بن طمْلُوسٍ (1)، والناصِريُّ (2)، وابنُ خَلْدونَ (3)، وابنُ تيميَّة (4).
ولم يكنِ ابنُ تُومَرْتَ يدَّعي الاعتزالَ، وقد نسَبَهُ إلى الأشعريَّةِ جماعة؛ كالسُّبْكيِّ (5) وغيرِه، وربَّما نسَبَهُ إلى الاعتزالِ بعضُ مَن يَستبشِعُ أفعالَهُ وظُلْمَهُ وبغيَهُ مِن الأشاعرة، وعلمُ الكلامِ سبَقَ إليه المعتزِلةُ، ومنهم أخَذَهُ الأشاعرة، والاعتزالُ فكرٌ انتشَرَ في طوائفَ، وليست جماعةً منتظِمةً لها أصولُها وفروعُها؛ لأنَّ الاعتزالَ علمٌ كلاميٌّ، وقد تغلغَلَ في الرافضةِ والزيديةِ والإباضية، والأشاعِرةِ وغيرِهم.
والمذهبُ الأشعريُّ تدرَّج حتى آلَ إلى ما آلَ إليه، ولم يكنْ أئمَّتُهُ في المُبتدَى كأئمَّتِهِ في المُنتهَى، ومذهبُ المتأخِّرينَ غيرُ مذهبِ المتقدِّمين.
وعلمُ العقائدِ علمٌ ثابتٌ لا يَتوسَّعُ كعلمِ الفقهِ، وإنما اتسَعَ لدى المتكلِّمينَ وتدرَّجوا في تطويرِهِ؛ لأنَّهم أَجرَوْا فيه علمَ الكلامِ، كما أجرى الفقهاءُ في الفقهِ علمَ الرأي.
فالمتقدِّمونَ الأشعريُّ وأصحابُهُ؛ كأبي الحسَنِ الطَّبَريِّ، وابنِ مجاهِدٍ، وتلامذتِهما؛ كالقاضي الباقِلَّانِيِّ: يُثبِتُونَ الصفاتِ الخَبَريَّةَ، ولا يتأوَّلونها؛ كالوجهِ واليد، والعلوِّ والاستواء، وأمَّا الطَّبَقةُ التي تليهم؛ كالجُوَيْنِيِّ، والغَزَاليِّ، فيَنفُونَها.
والأشاعِرةُ منهَجٌ قبلَ أبي الحسَنِ الأشعريِّ، وإنْ سُمِّيَ به، وهو
(1)"المدخل لصناعة المنطق"(ص 10).
(2)
"الاستقصا"(1/ 196).
(3)
"تاريخ ابن خلدون"(6/ 301 - 302).
(4)
"مجموع الفتاوى"(11/ 476).
(5)
"طبقات الشافعية الكبرى"(6/ 109 و 8/ 138).