المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المخالفون في القدر: - المغربية في شرح العقيدة القيروانية

[عبد العزيز الطريفي]

فهرس الكتاب

- ‌ فضلُ العلم وأفضَلُه:

- ‌ حفظُ العقلِ والنقلِ:

- ‌ فضلُ قُرْبِ الزمانِ والمكانِ الأوَّلِ:

- ‌ المَغرِبُ في زمَنِ الصحابةِ والتابعين:

- ‌ السُّنَّةُ والأثَرُ وعلمُ الكلامِ في المَغرِب:

- ‌ أثَرُ المَشرِقِ على المَغرِب:

- ‌ فلسفة اليُونان وأثَرُها على المتكلِّمِين:

- ‌ اعتقاد أهلِ المغرب:

- ‌ وجودُ الاعتزالِ في المغرِبِ، وموقفُ العلماءِ منه:

- ‌ بدايةُ رَدِّ المغاربةِ على المشارِقةِ في الفروعِ لا في الأصول:

- ‌ أسبابُ تأخُّرِ ذيوعِ علمِ الكلامِ في المَغرِب:

- ‌ أسبابُ انتشارِ علمِ الكلامِ في المَغرِب:

- ‌ أثَرُ الاعتزالِ في قَبُولِ علمِ الكلامِ على طريقةِ الأشاعِرةِ:

- ‌ مراتبُ المخالفينَ تقتضي مدحَ الأقرَبِ واللِّينَ معه:

- ‌ كتابةُ أهلِ المَغرِبِ في العقائد:

- ‌ أصولُ مالكٍ وفروعُهُ، وأحوالُ أصحابِهِ في المَغرِب:

- ‌ الحديثُ والكلام، وأثرهما في الخلاف:

- ‌ ثباتُ أهلِ المغربِ، وامتحانُهم بعلمِ الكلام:

- ‌ التأويلُ والتفويضُ في كلامِ بعضِ أهلِ السُّنَّة:

- ‌ علمُ الكلامِ والإمامُ مالكُ بن أَنَس:

- ‌ الرأيُ وعِلْمُ الكلام:

- ‌ نهيُ مالكٍ عن علمِ الكلامِ، ومرادُه:

- ‌ الاسترسالُ في علمِ الكلامِ وأثُره:

- ‌ التعرُّف على الله بعلم الكلام يورِثُ الوحشة:

- ‌ اعتقادُ السلفِ في الصفاتِ:

- ‌ اللغةُ وعلمُ الكلام، وأسبابُ انتشارِ البِدْعة:

- ‌ خطأ المتكلِّمينَ في استعمال اللغة:

- ‌ سَعَةُ الحلال، وضِيقُ الحرام:

- ‌ بيانُ المؤلِّفِ لمُوجِبِ التأليف:

- ‌ فضلُ الصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومَواضِعُه:

- ‌ حكمُ الصلاةِ على غيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌ مُجمَلُ اعتقِادِ أهلِ السُّنَّةِ في اللهِ تعالى:

- ‌ حكمُ التفكُّرِ في ذات الله:

- ‌ أنواعُ ظاهرِ الصفاتِ:

- ‌ معرِفةُ اللهِ بآياتِه الكونية:

- ‌ سببُ الوقوع في الشِّرك:

- ‌ عقيدةُ التفويض:

- ‌ تاريخ مَذهَبِ التفويض:

- ‌ نسبةُ التفويضِ للسَّلَفِ:

- ‌ الغُلُوُّ في التنزيهِ يؤدِّي إلى توهُّم التعظيم في التفويضِ والتعطيل:

- ‌ روايةُ الأئمة لأحاديث الصِّفات، واحترازُهم مِن سوء فهمِها:

- ‌ توهُّمُ اللوازمِ الباطِلةِ يُفضِي إلى التفويضِ والتأويلِ والتعطيل:

- ‌ العلوُّ والمَعِيَّة:

- ‌ نفيُ بعضِ الصفات لأجل توهُّم إحاطةِ المخلوقاتِ بالخالق:

- ‌ الاستواءُ على العَرْش:

- ‌ الكُرْسِيّ:

- ‌ إحاطةُ عِلْمِ اللهِ بكلِّ شيء:

- ‌ عودةٌ إلى الكلامِ على استواءِ اللهِ على العَرْش:

- ‌ الحذرُ مِن التشبيه، وحكمُ التعبيرِ عن الصفات بما لم يَرِدْ في الشريعةِ مِن الإشارةِ والكَلَام:

- ‌ الأسماء والصفات:

- ‌ ما وَرَدَ مِن الأسماءِ والصفاتِ عن الصحابةِ والتابِعِين:

- ‌ أسماءُ اللهِ:

- ‌ حقيقةُ الصفاتِ:

- ‌ الإقرار بإثبات الصفة يُبطِلُ التفويض:

- ‌ كلامُ اللهِ:

- ‌ شِدَّة مالك وأصحابِه على القول بخَلْقِ القرآن:

- ‌ ظهورُ القول بخَلقِ القرآن في المغرب:

- ‌ أصلُ فِتنة خَلْق القرآن، والكلام النَّفْسي:

- ‌ الحَرْفُ والصَّوْت:

- ‌ من حُجَجِ نُفَاةِ الصوت والحرف لله:

- ‌ الواقفةُ في خَلْقِ القرآن، وسببُ التشديد عليهم:

- ‌ مِن أدلة القائلينَ بخَلقِ القرآن:

- ‌ صفةُ التَّجَلِّي للهِ تعالى:

- ‌ صِفَةُ نُزولِ الله تعالى:

- ‌ القرآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوق:

- ‌ الإيمانُ بالقَدَرِ:

- ‌ تقديرُ الخَيْرِ والشَّرّ:

- ‌ لا يُنسَبُ الشرُّ إلى الله:

- ‌ الجدالُ في القَدَرِ:

- ‌ أفعالُ العِبَادِ وخَلْقُها:

- ‌ أمرُ اللهِ ونهيُهُ وقدَرُهُ، وتوهُّمُ بعضِ النفوسِ الظُّلْمَ:

- ‌ العلمُ بالأسباب لا يُخرِجُ صاحبَه مِن قَدَرِ الله:

- ‌ عِلْمُ اللهِ بكلِّ شيءٍ:

- ‌ مشيئةُ اللهِ وقدرتُهُ على خلقِ أفعالِ العِبَادِ:

- ‌ المُخالِفونَ في القَدَر:

- ‌ الحتميَّةُ السَّبَبِيَّةُ:

- ‌ نفيُ القَدَر يَلزَمُ منه العجز:

- ‌ رسالةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكتابُه:

- ‌ خِتَامُ رسالةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للرِّسالات:

- ‌ حكمُ اتِّباعِ دِينٍ غيرِ الإسلام:

- ‌ والكفرُ -حينئذٍ- جاء مِن جهاتٍ، أعظَمُها:

- ‌ الإسلامُ وحُرِّيَّةُ الدِّين:

- ‌ شُبُهاتٌ في حُرِّيَّةِ تَركِ الإسلام:

- ‌ الإيمانُ بالكُتُبِ السماويَّة، والحِكْمةُ مِن إرسالِ الرسلِ:

- ‌ مصدرُ تفسير القرآن:

- ‌ الإيمانُ بالقيامةِ وما فيها:

- ‌ النَّفْخ في الصُّور:

- ‌ بعثُ الأجسادِ وجزاؤُها:

- ‌ أشراطُ الساعةِ:

- ‌ تنزيلُ أشْراطِ الساعةِ عَلَى الواقعِ:

- ‌ الحسابُ والعقابُ:

- ‌ حكمُ مَن ماتَ ولم يَتُبْ مِن ذَنْبِه:

- ‌ مصيرُ مَن دخَلَ النارَ مِن عُصاةِ المُسلِمِين:

- ‌ وخالَفَ في هذا الخوارجُ والمعتزِلةُ، والمرجِئةُ:

- ‌ الشفاعةُ وأحكامُها:

- ‌ رؤيةُ اللهِ في الآخِرة:

- ‌ الجَنَّةُ والنَّارُ، ولِمَنْ أَعَدَّهُما اللهُ:

- ‌ خَلْقُ الجَنَّةِ والنارِ:

- ‌ خُلود الجَنَّة والنار:

- ‌ صفةُ المجيءِ للهِ:

- ‌ المِيزَانُ والوَزْن:

- ‌ صحائفُ الأعمال، وكيفيَّةُ استلامِها يومَ القيامة:

- ‌ الصراطُ وأحوالُ الناسِ فيه:

- ‌ الحَوْضُ المورودُ:

- ‌ حقيقةُ الإيمان:

- ‌ والطوائِفُ المخالِفةُ في هذا البابِ على سبيلِ الإجمالِ طائفتان:

- ‌ أسبابُ الافتتانِ برَأْيِ الخوارِج:

- ‌ الصِّفَةُ الجامِعةُ للخَوارجِ:

- ‌ الموقِفُ عند اجتماع الضلالات:

- ‌ المُوازنةُ بين المُرجِئَةِ والخَوارجِ:

- ‌ زيادةُ الايمانِ ونقصانُه:

- ‌ زوال الإيمان وكماله:

- ‌ نُقصان الإيمان عند مالك:

- ‌ الاستثناءُ في الإيمانِ:

- ‌ الإيمانُ قولٌ وعمَل:

- ‌ حكمُ تاركِ العمل كلِّه:

- ‌ أَثَرُ إِخْرَاجِ العَمَلِ مِن الإِيمانِ:

- ‌ التكفيرُ بالذنوبِ، وأحوالُ الطوائفِ:

- ‌ أرواحُ المَوْتَى وأحوالُها:

- ‌ القَبْرُ وفِتْنَتُهُ:

- ‌ كتابةُ الأعمالِ على المكلَّفين

- ‌ الأرواحُ وقَبْضُها:

- ‌ فضلُ خيرِ القُرُون:

- ‌ معنى القَرْن:

- ‌ فضلُ الصحابةِ، وتفاضُلُهُمْ:

- ‌ الوقوعُ في الصَّحَابةِ:

- ‌ التفاضُلُ بين الصحابةِ:

- ‌ التوسُّع في التفضيل بين الصحابة:

- ‌ ظُهورُ الطَّعْنِ في الصحابةِ في المَغْربِ:

- ‌ ما شجَرَ بين الصحابة:

- ‌ امتحانُ أهلِ المَغْربِ بالصحابةِ:

- ‌ فِتْنةُ الرَّافضةِ إذا تمكَّنُوا:

- ‌ الطاعةُ لأئمَّةِ المسلِمِينَ بالمعروفِ:

- ‌ الخُرُوجُ على الأَئِمَّةِ وأحوالُه:

- ‌ نُصحُ الأَئِمَّةِ:

- ‌ الخطأُ في نُصوص السَّمْع والطاعة:

- ‌ ابتلاءُ المُصلِح:

- ‌ تجرُّد المُصلِح:

- ‌ فضلُ السَّلَفِ واتِّباعِهم:

- ‌ سببُ تَفْضِيلِ السَّلفِ:

- ‌ تعظيمُ فقه الصَّحَابَةِ:

- ‌ الاستدلالُ بحديثٍ يخالِفُ الصحابةَ:

- ‌ حقيقةُ العملِ الذي يقدَّمُ عَلى الحديثِ:

- ‌ تركُ المِرَاءِ والجِدَالِ:

- ‌ طُرُقُ معرفةِ حقِّ الله:

- ‌ المجتهِدُ ببِدْعة:

- ‌ التحذيرُ مِن الجِدَالِ والمِرَاءِ في الدِّين:

- ‌ حسنُ القصدِ وسُوءُهُ، وأثَرُهُ على فهمِ القرآن:

- ‌ هَجْرُ الجِدَالِ والمِرَاءِ وأهلِهِ:

- ‌فهرس الآثار وأقوال الأئمة والعلماء

- ‌فهرس القواعد والكليات

- ‌معجم الموضوعات ورؤوس المسائل

- ‌فهرس المذاهب والأقوال

- ‌فهرس حكمة التشريع ومقاصد الشريعة

- ‌فهرس الحكم والأمثال ومأثور الأقوال

- ‌فهرس الفوائد

الفصل: ‌ المخالفون في القدر:

فالله لا يَحرِمُ مريدَ الخيرِ منه؛ وقد قال ابنُ أبي زَيْدٍ في "جامعِه": "وَكُلٌّ يَنْتَهِي إِلَى سَابِقِ عِلْمِهْ؛ لَا مَحِيصَ لِأَحَدٍ عَنْه"(1)، وقال:"وَخَذَلَ مَنْ عَصَاهُ وَكَفَرَ بِهْ، فَأَسْلَمَهُ وَيَسَّرَهُ لِذَلِكَ فَحَجَبَهُ وَأَضَلَّهْ؛ {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] "(2)، وقال هنا:"يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ فَيَخْذُلُهُ بِعَدْلِهْ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَيُوَفِّقُهُ بِفَضْلِهْ".

وأمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم بالإمساكِ عما سكَتَ عنه الشرعُ في القدَر، ووجوبِ الإيمانِ والتسليمِ؛ لعجزِ العقولِ عن الإدراكِ؛ فمَن دخَلَهُ، بحَثَ فيما تَعجِزُ عنه العقولُ والأفكارُ، فتتحيَّرُ وتَضِلُّ وتَزِيغ، وقد دخَلَ في هذا البابِ طوائفُ، فانتهى بهم إلى ضلال.

*‌

‌ المُخالِفونَ في القَدَر:

وقد خالَفَ في القدَرِ طوائفُ: جُفَاةٌ، وغُلَاةٌ، وأشباهُ غُلَاةٍ قائلونَ بالكَسْب:

* أمَّا الجُفَاةُ الذين يَنفُونَ القدَرَ: فيَجعَلُونَ تصرُّفَ المخلوقِ منفرِدًا كتصرُّفِ الخالق، ولا مشيئةَ للخالِقِ فوقَ مشيئةِ المخلوق بعدَ خَلْقِه، وأنَّ اللهَ خلَقَهُمْ ودبَّرهم، وسبَّب لهم وترَكَهُم.

وهؤلاءِ هم القدريَّة، وقد أظهَرَ هذا القولَ مَعْبَدٌ الجُهَنيُّ، وغَيْلانُ الدِّمَشْقِيُّ، وغيرُهما مِن أهلِ الاعتزال.

وقد قال مالكٌ: "والقَدَريَّةُ أشَرُّ الناسِ، ورأَيْتُهم أهلَ طَيْشٍ وسَخَافةِ عقولٍ وبِدَعٍ، بآيٍ كثيرةٍ عليهم؛ منها قولُ اللهِ عز وجل:{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 110]، ومنها: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ

(1)"الجامع"(ص 110).

(2)

الموضع السابق.

ص: 168

يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، وقال:{وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27]، وقال:{مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 162 - 163]، وقال:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46]، في آيٍ كثيرة" (1).

والقَدَرِيَّةُ أصَّلوا لقولِهم بالكلامِ والنَّظَر، ثُمَّ استدَلُّوا بأدلَّةٍ متشابِهةٍ في قلوبِهم، توهَّموها حُجَّة لقولِهم:

وذلك كالآياتِ التي تبيِّن أنَّ العبادَ يَفعَلُونَ ويترُكُونَ، فيُؤمِنونَ ويَكْفُرونَ ويفسُقُونَ، ويطيعون ويَعصُون.

وهذا كلُّه داخلٌ في مشيئةِ العبد، ولا يُخرِجُ مشيئةَ الله النافِذةَ عليه.

وكاستدلالِهم بأدلَّةِ إتقانِ الله لخلقِهِ وصنعتِهِ؛ كقولِهِ تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]؛ فجعَلُوا لازمَ ذلك نَفْيَ نِسْبةِ تصرُّفاتِ الناسِ إلى الله؛ لِمَا تتضمَّنُهُ مِن عدَمِ إتقانٍ وإخلالٍ، وضلالٍ وكفر.

واللهُ سبحانه يُرِيدُ أصلَ خلقِهِ حيثُ أبدَعَهُ وأتقَنَهُ، وأمَّا فسادُ أعمالِ الناسِ: فمِن مشيئَتِهِمُ التي أَذِنَ اللهُ بها لِحِكْمةٍ، فلم يخرُجُوا عن إرادتِهِ وتقديرِه، والآيةُ نفسُها دالَّةٌ على إثباتِ الفعلِ للناسِ؛ فالله قال:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]، فلمَّا ذكَرَ صُنْعَ الخالقِ، أضافَهُ إلى نفسِهِ:{صُنْعَ اللَّهِ} ؛ لأنه لا مشيئةَ لأحدٍ معه فيه، ولمَّا ذكَرَ فعلَ الناسِ، أضافَهُ إليهم:{بِمَا تَفْعَلُونَ} ؛ لِمَا لهم مِن اختيارٍ ومشيئةٍ بعد مشيئتِه.

وليس ما يَستقبِحُهُ الناسُ مِن ذواتٍ وأفعالٍ دليلًا على نِسْبَتِها

(1)"الجامع" لابن أبي زيد (ص 121).

ص: 169

لغيرِ اللهِ؛ فاللهُ يقولُ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وهناك مِن الناسِ مَن يُولَدُ مشوَّهًا مريضًا خَدِيجًا؛ كالمبتورِ والمشلولِ، ومَن يُولَدُ برِجْلٍ أو يَدٍ أو عَيْنٍ، أو بأكثَرَ مِن عشَرةِ أصابِعَ، أو برأسَيْنِ؛ وهذا كلُّه لا يُجِيزُ نِسْبةَ تلك الأجسادِ لخالقٍ غيرِ الله؛ وإنما جعَلَها اللهُ كذلك لِحِكْمةٍ.

وقد كان لازمُ قولِهم: أنَّ العبادَ يَخلُقُونَ ما يَفعَلُونَ؛ فجعَلُوا إلهَيْنِ وخالقًا غيرَ الله؛ فشابَهُوا بذلك المَجُوسَ الذين يَتَّخِذُونَ إلهَيْنِ: إلهَ الخير، وهو النُّورُ، وإلهَ الشَّرِّ، وهو الظُّلْمة.

* وأمَّا الغُلَاةُ: فهم الذين يقولونَ بالجَبْرِ؛ أي: أنَّه لا اختيارَ للمكلَّفين، ولا مشيئةَ، وحالُ المكلَّفِ كحالِ الجَمَاداتِ؛ فالملائكةُ والإنسانُ والجانُّ؛ كالكواكبِ والأجرامِ؛ فالإنسانُ مسيَّرٌ بلا اختيارٍ: يقومُ ويقعُدُ ويتكلَّمُ، كما تطلُعُ الشمسُ وتغرُبُ.

وهؤلاءِ هم الجبريَّة، وقابَلُوا نفاةَ القَدَرِ بغُلُوٍّ، وأَوَّلُ مَن أشهَرَهُ: الجَهْمُ بن صَفْوانَ، وقد كان شيخُهُ الجَعْدُ بن دِرْهَمٍ يقولُ به.

وهم كسابِقِيهِمْ قالوا بالجبر، أرادوا تنزيهَ اللهِ مِن وجهٍ مقابِلٍ للنفاةِ بالكلامِ والنَّظَر، ثُمَّ استدَلُّوا بأدلَّةِ الوحيِ:

- وذلك؛ كالآياتِ الدالَّةِ على أنَّ الله خالقُ كلِّ شيءٍ، وعلى نفيِ خالقٍ غيرِهِ؛ كقولِهِ تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 62]، وقولِه:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3].

- وكذلك الأدلَّةُ التي تَجعَلُ تصرُّفَ الإنسانِ تحتَ مشيئةِ الله وتدبيرِهِ؛ كقولِهِ تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، وجعَلُوا ذلك سَلْبًا لإرادةِ الإنسانِ.

ص: 170

وحمَّلُوا الأدلَّةَ ما لا تَحتمِل، وهي أدلَّةٌ عليهم لا لهم، أدلَّةٌ للحقِّ الذي يقولُ به السلفُ؛ فالله تعالى خَلَقَ الناسَ وأفعالَهم؛ فهو خالقُ كلِّ شيءٍ، وجعَلَ لهم مشيئةً تدُلُّ على اختيارِهم وتصرُّفِهم، ولكنْ بعدَ إذنِ الله ومشيئتِه، فلو كان للكواكبِ مشيئةٌ كمشيئةِ الناس، لَذَكَرَها، وهم يَجعَلُونَ الناسَ كالكواكبِ وسائرِ الجَمَادات؛ فلماذا خَصَّ اللهُ الناسَ بالمشيئةِ، ولم يَخُصَّ الكواكبَ بمِثْلِها إلا لتمايُزٍ بينهم، وقد قال الله مضيفًا فعلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالرميِ إليه:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]؛ فأثبَتَ لنبيِّهِ رميًا واختيارًا: {إِذْ رَمَيْتَ} ، وأثبَتَ لنفسِهِ القُدْرةَ والمشيئةَ المُمضِيَةَ لذلك:{وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} .

ولازمُ قولهم: أنَّ التكاليفَ الشرعيَّةَ جَبْرٌ، وأنَّ الطاعةَ والمعصيةَ مِن العبادِ جَبْر.

وقد أثبَتَ الله لعبادِهِ مشيئةً بعدَ مشيئتِه، وإرادةً بعد إرادتِه؛ قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]، وقال:{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29 - 30]، وقال:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 11 - 12].

فقولُه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، إبطالٌ لقولِ الجَبْريَّة، وقولُه:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29]، إبطالٌ لقولِ القَدَريَّة؛ فكيف لعبدٍ أن يَفعَلَ ما لا يَشاؤُهُ اللهُ؟ ! لا يَفعَلُ أحدٌ في الكونِ شيئًا بغيرِ عِلْمِهِ وإِذْنِه.

وأدلَّةُ الجَبْريَّةِ هي أدلَّةٌ يُعرَفُ بها فسادُ قولِ القَدَريَّة، وأدلَّةُ القَدَريَّةِ هي أدلَّةٌ يُعرَفُ بها فسادُ قولِ الجَبْريَّة، وكثيرًا ما يُعرَفُ فسادُ قولِ طائفةٍ

ص: 171

بأدلَّةِ خصومِها عليها، وفي طوائفِ الضلالِ مِن المجادَلةِ والنَّقْضِ بعضِها لبعضٍ ما لا يُوجَدُ عند غيرِهم، خاصَّةً في الطوائفِ التي تَتقابَلُ في قولٍ باطلٍ: واحدةٍ في أقصاهُ يمينًا، وثانيةٍ في أقصاهُ شمالًا.

وكان أئمَّةُ السُّنَّةِ في المغرِبِ يَرُدُّونَ قولَ القَدَريَّةِ والجَبْريَّة، ويُحاجُّونَ مَن قال به؛ يقولُ عَوْنُ بن يُوسُفَ الخُزَاعيُّ -وهو مِن علماءِ القَيْرَوان، وكان أكبَرَ مِن سُحْنُونٍ، ومِن أصحابِ عبد الله بنِ وَهْبٍ-:"إذا أَرَدتَّ أن تكفِّرَ القَدَريَّ، فقُلْ له: ما أرادَ الله عز وجل مِن خَلْقِه؟ فإنْ قال: أراد منهم الطاعةَ، فقد كفَرَ؛ لأنَّ منهم مَن عَصَى؛ وكلُّ إلهٍ لا تَتِمُّ إرادتُهُ، فليس بإله، وإنْ قال: أراد منهم المعصيةَ، فقد كفَرَ؛ لأنَّ منهم مَن أطاعَ؛ وكلُّ إلهٍ لا تَتِمُّ إرادتُهُ، فليس بإله"(1).

* وأمَّا القائلونَ بالكَسْبِ: فجمهورُ الأشاعِرةِ ومتأخِّروهم؛ يُثبِتُونَ لله الخلقَ والمشيئةَ، ولكنَّهم يَجعَلُونَ أفعالَ العبادِ الاختيارَيَّةَ بإرادةِ الله وقُدْرتِهِ وحدَهُ، لا باختيارِ العبدِ ولا قُدْرَتِه، ولا أثَرَ له في ذلك، وإنَّما هو كاسِبٌ لها، وكسبُ العبدِ عندَهم هو مقارَنَتُهُ لقدرتِهِ مِن غيرِ أن يكونَ هناك مِن تأثيرٍ أو مَدخَلٍ في وجودِهِ سوى كونِهِ مَحَلًّا له؛ كما يقولُهُ صاحبُ "المَواقِف"(2).

وقد تأثَّر الأشاعِرةُ القائلُونَ بالكَسْبِ بالضِّرَاريَّةِ والنَّجَّاريَّةِ قَبْلَهم.

وهذا القولُ يُشابِهُ قولَ الجَبْريَّة، ومِن أشَدِّ ما شنَّع به المعتزِلةُ عليهم؛ فهم يَنفُونَ أيَّ قدرةٍ للعبدِ أو تأثيرٍ في أفعالِه؛ فإنَّ الله قادِرٌ على إيجادِ الحوادِثِ التي يُرِيدُها الإنسانُ بدونِ فِعْلِه، فهو مُوجِدُها وحدَهُ، ولو كان الإنسانُ مشارِكًا مقتَرِنًا في إحداثِها في الظاهِر، فلا أثَرَ له في الحقيقة.

(1)"رياض النفوس"(1/ 386).

(2)

"المواقف"(3/ 208 - 214).

ص: 172