الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالله لا يَحرِمُ مريدَ الخيرِ منه؛ وقد قال ابنُ أبي زَيْدٍ في "جامعِه": "وَكُلٌّ يَنْتَهِي إِلَى سَابِقِ عِلْمِهْ؛ لَا مَحِيصَ لِأَحَدٍ عَنْه"(1)، وقال:"وَخَذَلَ مَنْ عَصَاهُ وَكَفَرَ بِهْ، فَأَسْلَمَهُ وَيَسَّرَهُ لِذَلِكَ فَحَجَبَهُ وَأَضَلَّهْ؛ {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] "(2)، وقال هنا:"يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ فَيَخْذُلُهُ بِعَدْلِهْ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَيُوَفِّقُهُ بِفَضْلِهْ".
وأمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم بالإمساكِ عما سكَتَ عنه الشرعُ في القدَر، ووجوبِ الإيمانِ والتسليمِ؛ لعجزِ العقولِ عن الإدراكِ؛ فمَن دخَلَهُ، بحَثَ فيما تَعجِزُ عنه العقولُ والأفكارُ، فتتحيَّرُ وتَضِلُّ وتَزِيغ، وقد دخَلَ في هذا البابِ طوائفُ، فانتهى بهم إلى ضلال.
*
المُخالِفونَ في القَدَر:
وقد خالَفَ في القدَرِ طوائفُ: جُفَاةٌ، وغُلَاةٌ، وأشباهُ غُلَاةٍ قائلونَ بالكَسْب:
* أمَّا الجُفَاةُ الذين يَنفُونَ القدَرَ: فيَجعَلُونَ تصرُّفَ المخلوقِ منفرِدًا كتصرُّفِ الخالق، ولا مشيئةَ للخالِقِ فوقَ مشيئةِ المخلوق بعدَ خَلْقِه، وأنَّ اللهَ خلَقَهُمْ ودبَّرهم، وسبَّب لهم وترَكَهُم.
وهؤلاءِ هم القدريَّة، وقد أظهَرَ هذا القولَ مَعْبَدٌ الجُهَنيُّ، وغَيْلانُ الدِّمَشْقِيُّ، وغيرُهما مِن أهلِ الاعتزال.
وقد قال مالكٌ: "والقَدَريَّةُ أشَرُّ الناسِ، ورأَيْتُهم أهلَ طَيْشٍ وسَخَافةِ عقولٍ وبِدَعٍ، بآيٍ كثيرةٍ عليهم؛ منها قولُ اللهِ عز وجل:{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 110]، ومنها: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ
(1)"الجامع"(ص 110).
(2)
الموضع السابق.
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، وقال:{وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27]، وقال:{مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 162 - 163]، وقال:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46]، في آيٍ كثيرة" (1).
والقَدَرِيَّةُ أصَّلوا لقولِهم بالكلامِ والنَّظَر، ثُمَّ استدَلُّوا بأدلَّةٍ متشابِهةٍ في قلوبِهم، توهَّموها حُجَّة لقولِهم:
وذلك كالآياتِ التي تبيِّن أنَّ العبادَ يَفعَلُونَ ويترُكُونَ، فيُؤمِنونَ ويَكْفُرونَ ويفسُقُونَ، ويطيعون ويَعصُون.
وهذا كلُّه داخلٌ في مشيئةِ العبد، ولا يُخرِجُ مشيئةَ الله النافِذةَ عليه.
وكاستدلالِهم بأدلَّةِ إتقانِ الله لخلقِهِ وصنعتِهِ؛ كقولِهِ تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]؛ فجعَلُوا لازمَ ذلك نَفْيَ نِسْبةِ تصرُّفاتِ الناسِ إلى الله؛ لِمَا تتضمَّنُهُ مِن عدَمِ إتقانٍ وإخلالٍ، وضلالٍ وكفر.
واللهُ سبحانه يُرِيدُ أصلَ خلقِهِ حيثُ أبدَعَهُ وأتقَنَهُ، وأمَّا فسادُ أعمالِ الناسِ: فمِن مشيئَتِهِمُ التي أَذِنَ اللهُ بها لِحِكْمةٍ، فلم يخرُجُوا عن إرادتِهِ وتقديرِه، والآيةُ نفسُها دالَّةٌ على إثباتِ الفعلِ للناسِ؛ فالله قال:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]، فلمَّا ذكَرَ صُنْعَ الخالقِ، أضافَهُ إلى نفسِهِ:{صُنْعَ اللَّهِ} ؛ لأنه لا مشيئةَ لأحدٍ معه فيه، ولمَّا ذكَرَ فعلَ الناسِ، أضافَهُ إليهم:{بِمَا تَفْعَلُونَ} ؛ لِمَا لهم مِن اختيارٍ ومشيئةٍ بعد مشيئتِه.
وليس ما يَستقبِحُهُ الناسُ مِن ذواتٍ وأفعالٍ دليلًا على نِسْبَتِها
(1)"الجامع" لابن أبي زيد (ص 121).
لغيرِ اللهِ؛ فاللهُ يقولُ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وهناك مِن الناسِ مَن يُولَدُ مشوَّهًا مريضًا خَدِيجًا؛ كالمبتورِ والمشلولِ، ومَن يُولَدُ برِجْلٍ أو يَدٍ أو عَيْنٍ، أو بأكثَرَ مِن عشَرةِ أصابِعَ، أو برأسَيْنِ؛ وهذا كلُّه لا يُجِيزُ نِسْبةَ تلك الأجسادِ لخالقٍ غيرِ الله؛ وإنما جعَلَها اللهُ كذلك لِحِكْمةٍ.
وقد كان لازمُ قولِهم: أنَّ العبادَ يَخلُقُونَ ما يَفعَلُونَ؛ فجعَلُوا إلهَيْنِ وخالقًا غيرَ الله؛ فشابَهُوا بذلك المَجُوسَ الذين يَتَّخِذُونَ إلهَيْنِ: إلهَ الخير، وهو النُّورُ، وإلهَ الشَّرِّ، وهو الظُّلْمة.
* وأمَّا الغُلَاةُ: فهم الذين يقولونَ بالجَبْرِ؛ أي: أنَّه لا اختيارَ للمكلَّفين، ولا مشيئةَ، وحالُ المكلَّفِ كحالِ الجَمَاداتِ؛ فالملائكةُ والإنسانُ والجانُّ؛ كالكواكبِ والأجرامِ؛ فالإنسانُ مسيَّرٌ بلا اختيارٍ: يقومُ ويقعُدُ ويتكلَّمُ، كما تطلُعُ الشمسُ وتغرُبُ.
وهؤلاءِ هم الجبريَّة، وقابَلُوا نفاةَ القَدَرِ بغُلُوٍّ، وأَوَّلُ مَن أشهَرَهُ: الجَهْمُ بن صَفْوانَ، وقد كان شيخُهُ الجَعْدُ بن دِرْهَمٍ يقولُ به.
وهم كسابِقِيهِمْ قالوا بالجبر، أرادوا تنزيهَ اللهِ مِن وجهٍ مقابِلٍ للنفاةِ بالكلامِ والنَّظَر، ثُمَّ استدَلُّوا بأدلَّةِ الوحيِ:
- وذلك؛ كالآياتِ الدالَّةِ على أنَّ الله خالقُ كلِّ شيءٍ، وعلى نفيِ خالقٍ غيرِهِ؛ كقولِهِ تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 62]، وقولِه:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3].
- وكذلك الأدلَّةُ التي تَجعَلُ تصرُّفَ الإنسانِ تحتَ مشيئةِ الله وتدبيرِهِ؛ كقولِهِ تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، وجعَلُوا ذلك سَلْبًا لإرادةِ الإنسانِ.
وحمَّلُوا الأدلَّةَ ما لا تَحتمِل، وهي أدلَّةٌ عليهم لا لهم، أدلَّةٌ للحقِّ الذي يقولُ به السلفُ؛ فالله تعالى خَلَقَ الناسَ وأفعالَهم؛ فهو خالقُ كلِّ شيءٍ، وجعَلَ لهم مشيئةً تدُلُّ على اختيارِهم وتصرُّفِهم، ولكنْ بعدَ إذنِ الله ومشيئتِه، فلو كان للكواكبِ مشيئةٌ كمشيئةِ الناس، لَذَكَرَها، وهم يَجعَلُونَ الناسَ كالكواكبِ وسائرِ الجَمَادات؛ فلماذا خَصَّ اللهُ الناسَ بالمشيئةِ، ولم يَخُصَّ الكواكبَ بمِثْلِها إلا لتمايُزٍ بينهم، وقد قال الله مضيفًا فعلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالرميِ إليه:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]؛ فأثبَتَ لنبيِّهِ رميًا واختيارًا: {إِذْ رَمَيْتَ} ، وأثبَتَ لنفسِهِ القُدْرةَ والمشيئةَ المُمضِيَةَ لذلك:{وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} .
ولازمُ قولهم: أنَّ التكاليفَ الشرعيَّةَ جَبْرٌ، وأنَّ الطاعةَ والمعصيةَ مِن العبادِ جَبْر.
وقد أثبَتَ الله لعبادِهِ مشيئةً بعدَ مشيئتِه، وإرادةً بعد إرادتِه؛ قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]، وقال:{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29 - 30]، وقال:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 11 - 12].
فقولُه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28]، إبطالٌ لقولِ الجَبْريَّة، وقولُه:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29]، إبطالٌ لقولِ القَدَريَّة؛ فكيف لعبدٍ أن يَفعَلَ ما لا يَشاؤُهُ اللهُ؟ ! لا يَفعَلُ أحدٌ في الكونِ شيئًا بغيرِ عِلْمِهِ وإِذْنِه.
وأدلَّةُ الجَبْريَّةِ هي أدلَّةٌ يُعرَفُ بها فسادُ قولِ القَدَريَّة، وأدلَّةُ القَدَريَّةِ هي أدلَّةٌ يُعرَفُ بها فسادُ قولِ الجَبْريَّة، وكثيرًا ما يُعرَفُ فسادُ قولِ طائفةٍ
بأدلَّةِ خصومِها عليها، وفي طوائفِ الضلالِ مِن المجادَلةِ والنَّقْضِ بعضِها لبعضٍ ما لا يُوجَدُ عند غيرِهم، خاصَّةً في الطوائفِ التي تَتقابَلُ في قولٍ باطلٍ: واحدةٍ في أقصاهُ يمينًا، وثانيةٍ في أقصاهُ شمالًا.
وكان أئمَّةُ السُّنَّةِ في المغرِبِ يَرُدُّونَ قولَ القَدَريَّةِ والجَبْريَّة، ويُحاجُّونَ مَن قال به؛ يقولُ عَوْنُ بن يُوسُفَ الخُزَاعيُّ -وهو مِن علماءِ القَيْرَوان، وكان أكبَرَ مِن سُحْنُونٍ، ومِن أصحابِ عبد الله بنِ وَهْبٍ-:"إذا أَرَدتَّ أن تكفِّرَ القَدَريَّ، فقُلْ له: ما أرادَ الله عز وجل مِن خَلْقِه؟ فإنْ قال: أراد منهم الطاعةَ، فقد كفَرَ؛ لأنَّ منهم مَن عَصَى؛ وكلُّ إلهٍ لا تَتِمُّ إرادتُهُ، فليس بإله، وإنْ قال: أراد منهم المعصيةَ، فقد كفَرَ؛ لأنَّ منهم مَن أطاعَ؛ وكلُّ إلهٍ لا تَتِمُّ إرادتُهُ، فليس بإله"(1).
* وأمَّا القائلونَ بالكَسْبِ: فجمهورُ الأشاعِرةِ ومتأخِّروهم؛ يُثبِتُونَ لله الخلقَ والمشيئةَ، ولكنَّهم يَجعَلُونَ أفعالَ العبادِ الاختيارَيَّةَ بإرادةِ الله وقُدْرتِهِ وحدَهُ، لا باختيارِ العبدِ ولا قُدْرَتِه، ولا أثَرَ له في ذلك، وإنَّما هو كاسِبٌ لها، وكسبُ العبدِ عندَهم هو مقارَنَتُهُ لقدرتِهِ مِن غيرِ أن يكونَ هناك مِن تأثيرٍ أو مَدخَلٍ في وجودِهِ سوى كونِهِ مَحَلًّا له؛ كما يقولُهُ صاحبُ "المَواقِف"(2).
وقد تأثَّر الأشاعِرةُ القائلُونَ بالكَسْبِ بالضِّرَاريَّةِ والنَّجَّاريَّةِ قَبْلَهم.
وهذا القولُ يُشابِهُ قولَ الجَبْريَّة، ومِن أشَدِّ ما شنَّع به المعتزِلةُ عليهم؛ فهم يَنفُونَ أيَّ قدرةٍ للعبدِ أو تأثيرٍ في أفعالِه؛ فإنَّ الله قادِرٌ على إيجادِ الحوادِثِ التي يُرِيدُها الإنسانُ بدونِ فِعْلِه، فهو مُوجِدُها وحدَهُ، ولو كان الإنسانُ مشارِكًا مقتَرِنًا في إحداثِها في الظاهِر، فلا أثَرَ له في الحقيقة.
(1)"رياض النفوس"(1/ 386).
(2)
"المواقف"(3/ 208 - 214).