الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما سلَكَ أحدٌ طريقًا غيرَ الوحيِ لِيَصِلَ به إلى اللهِ، إلا كَثُرَ تحوُّلُهُ وتنقُّلُهُ مِن قولٍ إلى قول، ومِن مذهبٍ إلى مذهب، ومِن رأيٍ إلى رأي؛ لأنه يَبدَأُ يريدُ شيئًا فيستأنِسُ في البداية، ثم يَستوحِشُ بالنهاية، فيتحوَّلُ؛ كسالكِ طريقِ البَرِّيَّةِ بلا دليلٍ: يَستوحِشُ كلَّما طال سَيْرُهُ، حتى يتخبَّطَ يَمْنةً ويَسْرةً مِن الحَيْرة، عكسَ مَن كان على بيِّنةٍ مِن ربِّه في أوَّلِ طريقِهِ وأوسَطِهِ ومنتهاهُ؛ قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ:"مَنْ جعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ، أكثَرَ التنقُّلَ"(1).
*
هَجْرُ الجِدَالِ والمِرَاءِ وأهلِهِ:
وهذا النوعُ من الجدالِ والمراءِ في كلامِ اللهِ وسُنَّةِ نبيِّه: مِن الخوضِ المحرَّم، وقد نَهَى اللهُ عنه في كتابِهِ:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
وإنما نُهِيَ عن المخالَطةِ للباطِلِ؛ لأنَّ القلوبَ تتشرَّبُ ما تَسمَعُ، فتَستنكِرُ أوَّلَ مرَّةٍ، ثُمَّ ينقُصُ استنكارُها حتى تَألَفَهُ، فأمَرَ اللهُ بالهجرِ حتى لا تَألَفَهُ القلوبُ، فربَّما تأثَّر القلبُ حتى يَعجِزَ صاحبُهُ عن تركِه؛ لضعفِ قلبِهِ، ولقُوَّةِ الشبهةِ عليه؛ فمِن الشبهاتِ مَا يتعلَّقُ بقلبِ صاحبِه، كما يتعلَّقُ به المرَضُ المُعدِي يَكرَهُهُ ولا يَجِدُ خلاصًا منه.
كما قال مالكٌ: وكان يقالُ: "لا تمكِّنْ زائغَ القلبِ مِن أُذُنَيْكَ؛ فإنَّكَ لا تَدرِي ما يَعْلَقُكَ مِن ذلك، ولقد سَمِعَ رجلٌ مِن الأنصارِ مِن أهلِ المدينةِ شيئًا مِن بعضِ أهلِ القدَرِ، فعَلِقَ بقَلْبِه؛ فكان يأتي إخوانَهُ الذين
(1)"الجامع" لابن أبي زيد (ص 120).
يَستنصِحُهُمْ، فإذا نَهَوْهُ، قال: فكيفَ بما عَلِقَ بقلبي، ولو عَلِمْتُ أنَّ اللهَ رَضِيَ أنْ أُلْقِيَ بنفسي مِن فوقِ هذه المَنَارةِ، لَفعَلْتُ" (1).
وقد كان السلفُ يَنْهَوْنَ عن مخالَطةِ أهلِ الأهواءِ ومُجالَسَتِهم، وقلَّما يقيِّدون؛ لأنَّ كثيرًا مِن العقولِ تَغتَرُّ بنفسِها، وتَنخدِعُ بعِلْمِها القاصِر؛ فأكثَرُ النفوسِ تَظُنُّ كمالَ عَقْلِها، وقُوَّتَها على معرِفةِ ما يَنفَعُها ويَضُرُّها، ويَغُرُّها الشيطانُ عند نفسِها، ويُظهِرُ لها مِن المعاني القليلةِ ما تُدْرِكُه، وربَّما أوحَى إليها مِن الاستنباطِ الدقيقِ ما تَنخدِعُ به:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121].
وربَّما كان القصدُ مِن هذا النوعِ مِن الوحيِ الشيطانيِّ: أنْ تسيرَ النفسُ إلى مَضَايِقِ الجَدَلِ والمراءِ؛ حتى تقَعَ في شِرَاكِ الجَهَالات، وحبالِ مَن هو أعلَمُ منها بالباطلِ؛ فتَغتَرُّ به وتنقادُ له.
وكثيرًا ما يأتي بعضُهم أهلَ الأهواءِ الذين هم أكثَرُ منه علمًا بالجدَلِ والمراءِ؛ لِيَسْمَعَ منهم، أو يَرُدَّ باطِلَهم؛ فيقَعُ في باطِلِهم حتى يَفتِنُوهُ لضعفِهِ لا لقوَّتهم؛ فإنَّ الأضعَفَ يرى الضعيفَ قويًّا.
وقد رأيتُ شابًّا جاهلًا في أوَّلِ طلَبِه يَقصِدُ صاحبَ هوًى يريدُ الانتفاعَ منه، فحذَّرْتُهُ منه، فقال:"إنَّه إناءٌ مُلِئَ عِلْمًا"، فقلتُ له: صدَقْتَ؛ هو فِنْجَانٌ، وأنتَ نَمْلةٌ؛ فتراهُ كجبَلِ أُحُدٍ، ولو كَبُرْتَ علمًا، رأيتَهُ كما هو، ولكنَّك لِصِغَرِكَ وضَعْفِكَ ترى كِبَرَهُ وقُوَّتَهُ عليك، لا في العلمِ والمعرِفة.
وقد قيل لمالكٍ: "مَن قَوِيَ على كلامِ الزنادقةِ والإباضيَّةِ والقَدَريَّةِ
(1)"الجامع" لابن أبي زيد (ص 120).
وأهلِ الأهواءِ؛ أَيُكلِّمُهم؟ قال: لا؛ وإنَّ الذين خرَجُوا إنما عابوا المَعَاصِيَ، وهؤلاءِ تكلَّموا في أمرِ الله، وقال ذلك الرجلُ -يعني: ابنَ عُمَرَ-: أمَّا أنا، فعلى بيِّنةٍ مِن ربِّي، وأمَّا أنتَ، فاذهَبْ إلى شاكٍّ مِثْلِكَ خَاصِمْهُ" (1).
* * *
* قَالَ ابْنُ أَبي زَيْدٍ: (وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا).
وقد ختَمَ مقدِّمتَه بالصلاة على النبيِّ -صلَّى الله وسلَّم عليه وآلِه وأزواجه وذرِّيَّتِه- تيمُّنًا بذلك، وإجلالًا لمبلِّغ الدِّين عن ربِّه، والتماسًا لشفاعتِه، ونَحمَدُ اللهَ على تمامه وفضلِه وإحسانه، ونسألُه السَّدَادَ والهداية، وبهذا انتهى الشرحُ لمقدِّمة الرسالة، مع بُعدٍ عن كثيرٍ مِن الكُتُب، جبَرَ اللهُ الخَلَل، وأحسَنَ القَصْد، ومنه القَبُول!
* * *
(1)"الجامع" لابن أبي زيد (ص 125).