الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان أبو العبَّاسِ بن طالبٍ يخطُبُ في القَيْرَوان، ويقولُ:"الحمدُ للهِ الذي على عَرْشِهِ استَوَى، وعلى مُلْكِهِ احتَوَى، وهو في الآخِرةِ يُرَى"(1)، وإثباتُهم للاستواءِ على الحقيقة، لا يَحمِلُهم على القول بالتشبيه، وتوهُّمُ لزومِ إثبات الحقيقةِ للتشبيه لا يَحمِلُهم على التفويض؛ ولهذا يقولُ القرطبيُّ: "لم يُنكِرْ أحدٌ مِن السلفِ الصالح أنَّه استَوَى على عرشِه حقيقةً
…
وإنَّما جَهِلُوا كيفيةَ الاستواء" (2).
والعرَبُ تُطلِقُ العرشَ على السريرِ؛ كما قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100]، وقال أُمَيَّةُ بن أبي الصَّلْتِ:
مَجِّدُوا اللهَ وَهْوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ
…
رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كبِيرَا
بِالبِنَاءِ الأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّا
…
سَ وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرَا (3)
وإثباتُ هذا التعبيرِ لا يعني إثباتَ التشبيهِ بين عرشِ الخالقِ وعرشِ المخلوقِ، ولا بين استوائِهما، ومثلُ ذلك السريرُ؛ فإنَّ للمخلوقِ عرشًا، وورودُ المشابَهةِ في الاسمِ لا تعني المشابَهةَ في الحقيقة؛ فضلًا عن المشابَهةِ بين الخالقِ والمخلوقِ في الفعلِ.
*
الحذرُ مِن التشبيه، وحكمُ التعبيرِ عن الصفات بما لم يَرِدْ في الشريعةِ مِن الإشارةِ والكَلَام:
ويُقتصَرُ على اللفظِ الواردِ في الوحيِ؛ وهو: "الاستواء"، ولو تقارَبَ مع اللفظِ غيرُهُ بالمعنى أو اتحَدَ؛ التزامًا باللفظِ المشروعِ الذي اختارَهُ اللهُ لِنَفْسِه، ودفعًا لتوهُّمِ اللَّبْسِ الذي قد يقَعُ في قلوبِ الناسِ مِن
(1)"ترتيب المدارك"(4/ 214).
(2)
"تفسير القرطبي"(9/ 239).
(3)
"تأويل مختلف الحديث"(ص 119 و 396).
الألفاظِ المجمَلةِ غيرِ المحكَمة، وقد كان مالكُ بن أَنَسٍ يَكرَهُ التحديثَ ببعضِ أحاديثِ الصفاتِ للعامَّة؛ وذلك حتى لا يَسبِقَ إلى أذهانِهم معنًى محظورٌ مِن التشبيه؛ كما قاله يحيى بنُ مُزَيْنٍ (1)، وابنُ عبد البَرِّ القُرطبيانِ (2).
فإذا كان هذا عند مالكٍ في اللفظِ الواردِ في الحديث، فكيف بألفاظٍ لم تَرِدْ تقَعُ في ذهنِ السامعِ مَوقِعًا لا يليقُ بالله، وكان مالكٌ يشدِّدُ في إشارةِ الإنسانِ بيدِهِ عند ذكرِهِ لصفاتِ الله بما يُوهِمُ تشبيهًا؛ قال مالكٌ:"مَن وصَفَ شيئًا مِنْ ذاتِ اللهِ؛ مِثْلُ قولِهِ تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وأشارَ بِيَدِهِ إلى عُنُقِه، ومثلُ قولِهِ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فأَشَارَ إِلَى عَيْنِهِ وأُذُنَيْهِ، أو شَيِء مِن بَدَنِهِ -: قُطِعَ ذلك منه؛ لأنَّه شَبَّهَ اللهَ بِنَفْسِهِ".
وهذا مِن مالك فيمَن قصَدَ التشبيهَ، أو فُهِمَ منه ذلك، وأمَّا عند الأمنِ مِن ذلك عند مَن صَحَّ معتقَدُهُ، وسَلِمَ لسانُهُ، لإثباتِ حقيقةِ الصفةِ لا تكييفِها -: فذلك ورَدَ فيه الحديثُ؛ كما في حديثِ أبي هُرَيْرةَ؛ أنه قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، وَوَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِه، وَسَبَّابَتَهُ عَلَى عَيْنِهِ"؛ رواه أبو داودَ (3).
وربَّما أجاز بعضُ السلفِ التعبيرَ بلفظٍ آخَرَ طابَقَ المعنى في موضعٍ، فيَظُنُّهُ بعضُ الناسِ جائزًا في غيرِه، فيقَعُ التشبيهُ والتعطيلُ؛ ولهذا
(1)"التمهيد"(7/ 151).
(2)
انظر: "التمهيد"(7/ 150).
(3)
سبق تخريجه.
يقولُ ابنُ عبد البَرِّ: "نقولُ: استوَى مِنْ لَا مَكَانٍ إلى مَكَانٍ، ولا نقولُ: انتَقَلَ؛ وإنْ كان المعنى في ذلك واحدًا؛ أَلَا تَرَى أنَّا نقولُ: له عَرْشٌ، ولا نقولُ: له سَرِيرٌ؛ ومعناهما واحدٌ؟ ! ونقولُ: هو الحَكِيمُ، ولا نقولُ: هو العاقِلُ، ونقولُ: خليلُ إبراهيمَ، ولا نقولُ: صَدِيقُ إبراهيمَ؛ وإنْ كان المعنى في ذلك كلِّه واحدًا؟ ! لا نسمِّيه، ولا نَصِفُهُ، ولا نُطلِقُ عليه، إلَّا ما سَمَّى به نَفْسَهُ"(1).
وقد كان بعضُ السلَفِ يعبِّرُ عن الاستواءِ بغيرِه؛ كما صَحَّ عن خارجةَ بنِ مُصعَبٍ (2)، والحسَنِ البَصْريِّ، وعِكْرِمةَ: أنهم عبَّروا عن الاستواءِ بالجلوسِ (3)، وجاء عن الشَّعْبيِّ، عن ابنِ مسعود أيضًا؛ وفيه انقطاع (4)، وتَبِعَهم وكيعٌ، وأحمَدُ؛ كما نقَلَهُ ابنُهُ عبدُ اللهِ في "السُّنَّة"(5)، والدارِميُّ في "رَدِّهِ على بِشْر"(6)، والدارَقُطْنيُّ في بعضِ كتبِهِ (7)، وهذا الذي أرادَهُ النَّسَائيُّ في "سننه" في بابِ {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (8) [فصلت: 11]؛ حيثُ أورَدَ حديثَ ابنِ عُمَرَ في استواءِ المسافِر، وقد عبَّر عن الاستواءِ عبدُ الوهَّابِ الورَّاقُ بالقعودِ (9)، وجاء عن مُجاهِدٍ تفسيرُ قولِهِ:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]: "يُقعِدُهُ مَعَهُ على العَرْش"(10)،
(1)"التمهيد"(7/ 136 - 137).
(2)
"السُّنَّة" لعبد الله (10)، وعنه الخلال (1691).
(3)
الرواية للحكم بن معبد؛ انظر: فتح المجيد (4/ 1675).
(4)
انظر: كتاب "إثبات الحد" لأبي محمد بن بدران الدشتي (ص 170).
(5)
(1/ 302) وانظر: "الرد على الجهمية"(ص 300).
(6)
(1/ 215).
(7)
"الصفات"(ص 10)، وانظر:"إبطال التأويلات"(ص 492).
(8)
"السنن الكبرى"(10/ 245)، حديث رقم (11402).
(9)
"بيان تلبيس الجهمية"(3/ 14).
(10)
ابن أبي شيبة (32309)، والآجري في "الشريعة"(1101 - 1105)
وبهذا عبَّر ابنُ العربيِّ في سورة الأحزاب من "أحكام القرآن"، وهو على طريقة المتكلِّمِين.
والثابتُ في الحديثِ المرفوعِ: أنَّ المقامَ المحمودَ هو الشفاعةُ العُظْمَى (1).
وكثيرٌ مِن الأئمَّةِ: يذكُرُونَ الاستواءَ، ويذكُرُونَ معناه في اللغةِ؛ كالجلوسِ، والاستقرارِ، والتمكُّنِ في الشيءِ؛ كما فعَلَ ابنُ عبد البَرِّ (2)، وغيرُهُ (3)، ويريدونَ مِن ذلك: بيانَ الحقائقِ، والابعادَ عن المجازِ؛ وليس التمثيلَ؛ تعالى اللهُ!
وربَّما نَفَى بعضُ الأئمَّةِ مثلَ هذه الألفاظِ؛ كالجلوسِ؛ لِمَا يرى لها مِن لوازمَ تليقُ بالمخلوق؛ كابنِ رشدٍ في "البيان والتحصيل"(4)؛ فقد جعَلَ الجلوسَ عليه، والتحيُّزَ فيه، والمماسَّةَ، مستحيلًا في صفاتِ اللهِ تعالى؛ لأنه مِن التكييفِ الذي هو مِن صفاتِ المخلوق، مع أنَّ ابنَ رشدٍ لم يَمنَعْ أن يكونَ الاستواءُ مِن صفاتِ اللهِ الفعليَّة.
وهذه اللوازمُ والأعراضُ التي ذكَرَها لم تَرِدْ في الشريعة، وإنما لمَّا لَزِمَتْ للجواهِر، نفاها عن الخالق، ولو تُرِكَتْ تلك اللوازمُ، وسُكِتَ عنها لسكوتِ الشارعِ، وأُثبِتَ ما جاء في الوحي وفسَّرَهُ السلفُ-: لكان أسلَمَ وأعلَمَ وأحكَم.
وتعبيرُ بعضِ السلَفِ بالجلوسِ والقعودِ (5): مِن بابِ إثباتِ
(1) البخاري (7439)، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد.
(2)
"التمهيد"(7/ 131).
(3)
"تأويل مختلف الحديث"(ص 271).
(4)
"البيان والتحصيل"(16/ 368 - 369).
(5)
انظر: "إثباتَ الحَدِّ للهِ عز وجل، وبأنه قاعِدٌ وجالسٌ على عرشِهِ" للدَّشْتيّ.
الحقيقةِ، ونفيِ التأويلِ عن الظاهِر، لا لتقريرِ لفظٍ مغايِرٍ، وتجويزِ مِثْلِهِ في كلِّ موضعٍ؛ فهؤلاءِ حينما يعبِّرونَ عنِ الاستواءِ بغيرِه، لا يَجعَلُونَ تعبيرَهم تشبيهًا؛ فهم يُثبِتُونَ اللفظَ الآخَرَ بلا تشبيهٍ ولا تمثيل؛ فيذكُرُونَهُ دفعًا للتعطيلِ والتأويل، وإثباتًا للحقيقةِ التي تليقُ بالخالق، ونفيًا لِمَا يليقُ بالمخلوق؛ فكما أنَّهم يَنفُونَ التشبيهَ عند التعبيرِ بالاستواء، فكذلك يَنفُونَهُ عند التعبيرِ بالجلوسِ والقعودِ.
ولمَّا كان بعضُ المفوِّضةِ الذين يتوقَّفون في إثباتِ حقيقةِ الاستواءِ التي تليقُ بالله، وبعضُ المتأوِّلةِ الذين يَحمِلُونَهُ على معنًى غيرِ الحقيقة، يَستنكِرُونَ على بعضِ السلفِ إطلاقَ مِثْلِ هذه التعابيرِ؛ لأنَّهم يفوِّضونَ أو يتأوَّلونَ اللفظَ الوارِدَ، فيَستثقِلُونَ اللفظَ غيرَ الواردِ -: فهم فوَّضوا وتأوَّلوا؛ فرارًا مِن التشبيهِ المتوهَّمِ؛ فتأويلُهُمْ للتعبيرِ بغيرِ الواردِ ثقيلٌ على ما يعتقِدُونَ؛ لأنه يرسِّخُ إثباتَ الحقيقة، وهم يَفِرُّون منها؛ وإلَّا فإنَّ السلَفَ الذين يعبِّرون بما لم يَرِدْ، لا يُرِيدُونَ التشبيهَ به؛ فهم إذا لم يشبِّهوا باللفظِ الواردِ في النصِّ، فغيرُ الوارِدِ مِن بابِ أَوْلى.
وقد جاء في حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ: "إِذَا جَلَسَ الرَّبُّ عز وجل عَلَى الْكُرْسِيِّ"(1)؛ رواه عنه عبدُ اللهِ بن خَلِيفَةَ؛ أَخرجَهُ الدارِميُّ، وعبدُ اللهِ بن أحمدَ في "السُّنَّة".
وربَّما عبَّر بعضُ السلفِ عن الاستواءِ ببعضِ لوازمِهِ؛ كالعلوِّ، والارتفاعِ؛ لأنَّه لا يَستوِي إلا مرتفِعٌ وعالٍ على غيرِه، ويَظهَرُ هذا في قولِهِ تعالى:{عَلَى الْعَرْشِ} [طه: 5]؛ فـ "على" تَدُلُّ على العلوِّ والفوقيَّة.
ولا يَلزَمُ مِن إثباثِ حقيقةِ الاستواءِ: القولُ بالتشبيه؛ وهذا اللازمُ
(1)"نقض الدارمي"(1/ 425 - 426)، و "السُّنَّة"(585 و 587 و 1019).
المتوهَّمُ هو الذي دفَعَ إلى تعطيلِ الصفاتِ وتأويلِها، والجهلُ بكيفيَّةِ الشيءِ لا يُجِيزُ تأويلَهُ أو نفيَهُ؛ كما قال ابنُ عبد البَرِّ:"لقد أَدْرَكْنا بحَوَاسِّنا: أنَّ لنا أَرْوَاحًا بأبدانِنا، ولا نَعلَمُ كيفيَّةَ ذلك، وليس جَهْلُنَا بكيفيَّةِ الأرواحِ يُوجِبُ أنْ ليس لنا أرواحٌ، وكذلك ليس جهلُنا بكيفيَّةِ [استوائِه] على عرشِه، يُوجِبُ أنه ليس على عَرْشِه"(1).
فيجبُ إثباتُ الاستواءِ حقيقة، وتفويضُ كيفيَّته؛ لأنَّ اللهَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقد قال رجلٌ لمالكٍ:"يا أبا عبد اللهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]؛ كَيْفَ استَوَى؟ قال: الاستواءُ غيرُ مجهولْ، والكيفُ منه غيرُ معقولْ، والسؤالُ عنه بِدْعة، والإيمانُ به واجب، وأَرَاكَ صاحبَ بِدْعةٍ؛ أَخْرِجُوهُ! "(2).
فقد نفى مالكٌ معرفةَ الكيفيَّةِ وفوَّضَها، ولم يفوِّضِ الحقيقةَ؛ ولذا قال:"الاستواءُ معلومْ، والكيفُ مجهولْ"، ولا يكونُ الكيفُ إلَّا لِمَا له حقيقةٌ، وما لا حقيقةَ له لا يُحتاجُ إلى تفويضِ تكييفِهِ؛ لأنه ليس صفةً للذاتِ التي ليس كمِثْلِها شيءٌ.
وقد نفَتِ المعتزِلةُ الاستواءَ، وفسَّروه بالاستيلاءِ؛ وهذا ما لا تَعرِفُهُ العرَبُ ولا هو جائزٌ في كلامِها؛ كما قاله الخليلُ بنُ أحمَدَ (3).
وكلُّ ما لا مَجَالَ للعقلِ فيه، فلا يجوزُ الخوضُ فيه، ومِن ذلك: ذاتُ اللهِ وصفاتُهُ، وإنما يُكتفَى بالقَدْرِ الوارِدِ في السمع، ولا يُزادُ عليه؛ فما دَلَّ السياقُ على حقيقتِهِ تُثبَتُ حقيقتُهُ؛ لأنَّ هذا مقتَضَى اللسانِ العرَبيِّ الأوَّلِ بلا تكلُّفٍ، وتفوَّضُ كيفيَّتُه.
(1)"التمهيد"(7/ 137).
(2)
"الرد على الجهمية" للدارمي (104)، و "شرح أصول الاعتقاد"(664).
(3)
"العرش وما روي فيه"(ص 165 - 166).
وقد كان غيرُ واحدٍ مِن الأئمَّةِ المَغارِبةِ على هذا؛ كما قال ابنُ رُشْدٍ في "المقدِّمات": "وأمَّا ما وصَفَ به نفسَهُ تعالى في كتابِهِ: أنَّ له وجهًا ويَدَيْنِ وعينَيْنِ، فلا مَجَالَ للعقلِ في ذلك، وإنَّما يُفهَمُ ذلك مِن جهةِ السمعِ؛ فيجبُ اعتقادُ ذلك والإيمانُ به مِن غيرِ تكييفٍ ولا تحديدٍ"(1).
وقد كان بعضُ أهلِ المَغرِبِ يتأوَّلونَ ما ثبَتَ مِن الصفاتِ بالسمعِ، ويصفونَ المُثبِتةَ بـ "المجسِّمةِ"، و "المشبِّهةِ"، و "الحَشَويَّةِ"؛ توهُّمًا أنَّ مَن يُثبِتُ الحقيقةَ يأخُذُ بلوازمِها التي يَستحضِرُها الذهنُ عند التفكُّر.
وهذه لوازمُ لا يجوزُ الإلزامُ بها؛ لأنَّ مَن كانت ذاتُهُ لا شبيهَ لها، فصفاتُهُ لا شبيهَ لها كذلك، ومَن كانت لوازمُ ذاتِهِ لا شبيهَ لها، فلوازمُ صفاتِهِ لا شبيهَ لها كذلك.
وقد تَعقَّبَ الإلبيريُّ ابنَ رشدٍ في إثباتِهِ ما ثبَتَ بالسمعِ مِن الصفات (2)، وقد أخطَأَ لأجلِ تلك المقدِّماتِ والإلزاماتِ والتوهُّمات.
وأصلُ تأويلِ الاستواءِ: توهُّمُ التشبيهِ بالمخلوقِ: إمَّا بذاتِ الصفة، وإمَّا بلوازمِها مِن الحَدِّ وغيرِه؛ وهذا يَرِدُ على المخلوق، ولا يَرِدُ على الخالقِ؛ لأنه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]؛ كما سَمِعَتِ امرأةُ جَهْمِ بنِ صَفْوانَ رجلًا يقولُ: اللهُ على عَرْشِه، فقالتْ: محدودٌ على محدودٍ؛ فقال الأصمعيُّ: "هي كافِرةٌ بهذه المَقَالَة"(3)؛ فقد توهَّمَتْ تشبيهًا؛ فصارت إلى التعطيل، ولو سَلِمَتْ مِن التشبيهِ، لم تعطِّلْ.
(1)"المقدمات"(1/ 20).
(2)
له رسالة في الرد على أبي الوليد بن رشد في مسألة الاستواء.
(3)
"الأربعين في صفات رب العالمين"(12)، و "العلو"(436)، و "اجتماع الجيوش"(2/ 225).