المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الحذر من التشبيه، وحكم التعبير عن الصفات بما لم يرد في الشريعة من الإشارة والكلام: - المغربية في شرح العقيدة القيروانية

[عبد العزيز الطريفي]

فهرس الكتاب

- ‌ فضلُ العلم وأفضَلُه:

- ‌ حفظُ العقلِ والنقلِ:

- ‌ فضلُ قُرْبِ الزمانِ والمكانِ الأوَّلِ:

- ‌ المَغرِبُ في زمَنِ الصحابةِ والتابعين:

- ‌ السُّنَّةُ والأثَرُ وعلمُ الكلامِ في المَغرِب:

- ‌ أثَرُ المَشرِقِ على المَغرِب:

- ‌ فلسفة اليُونان وأثَرُها على المتكلِّمِين:

- ‌ اعتقاد أهلِ المغرب:

- ‌ وجودُ الاعتزالِ في المغرِبِ، وموقفُ العلماءِ منه:

- ‌ بدايةُ رَدِّ المغاربةِ على المشارِقةِ في الفروعِ لا في الأصول:

- ‌ أسبابُ تأخُّرِ ذيوعِ علمِ الكلامِ في المَغرِب:

- ‌ أسبابُ انتشارِ علمِ الكلامِ في المَغرِب:

- ‌ أثَرُ الاعتزالِ في قَبُولِ علمِ الكلامِ على طريقةِ الأشاعِرةِ:

- ‌ مراتبُ المخالفينَ تقتضي مدحَ الأقرَبِ واللِّينَ معه:

- ‌ كتابةُ أهلِ المَغرِبِ في العقائد:

- ‌ أصولُ مالكٍ وفروعُهُ، وأحوالُ أصحابِهِ في المَغرِب:

- ‌ الحديثُ والكلام، وأثرهما في الخلاف:

- ‌ ثباتُ أهلِ المغربِ، وامتحانُهم بعلمِ الكلام:

- ‌ التأويلُ والتفويضُ في كلامِ بعضِ أهلِ السُّنَّة:

- ‌ علمُ الكلامِ والإمامُ مالكُ بن أَنَس:

- ‌ الرأيُ وعِلْمُ الكلام:

- ‌ نهيُ مالكٍ عن علمِ الكلامِ، ومرادُه:

- ‌ الاسترسالُ في علمِ الكلامِ وأثُره:

- ‌ التعرُّف على الله بعلم الكلام يورِثُ الوحشة:

- ‌ اعتقادُ السلفِ في الصفاتِ:

- ‌ اللغةُ وعلمُ الكلام، وأسبابُ انتشارِ البِدْعة:

- ‌ خطأ المتكلِّمينَ في استعمال اللغة:

- ‌ سَعَةُ الحلال، وضِيقُ الحرام:

- ‌ بيانُ المؤلِّفِ لمُوجِبِ التأليف:

- ‌ فضلُ الصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومَواضِعُه:

- ‌ حكمُ الصلاةِ على غيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌ مُجمَلُ اعتقِادِ أهلِ السُّنَّةِ في اللهِ تعالى:

- ‌ حكمُ التفكُّرِ في ذات الله:

- ‌ أنواعُ ظاهرِ الصفاتِ:

- ‌ معرِفةُ اللهِ بآياتِه الكونية:

- ‌ سببُ الوقوع في الشِّرك:

- ‌ عقيدةُ التفويض:

- ‌ تاريخ مَذهَبِ التفويض:

- ‌ نسبةُ التفويضِ للسَّلَفِ:

- ‌ الغُلُوُّ في التنزيهِ يؤدِّي إلى توهُّم التعظيم في التفويضِ والتعطيل:

- ‌ روايةُ الأئمة لأحاديث الصِّفات، واحترازُهم مِن سوء فهمِها:

- ‌ توهُّمُ اللوازمِ الباطِلةِ يُفضِي إلى التفويضِ والتأويلِ والتعطيل:

- ‌ العلوُّ والمَعِيَّة:

- ‌ نفيُ بعضِ الصفات لأجل توهُّم إحاطةِ المخلوقاتِ بالخالق:

- ‌ الاستواءُ على العَرْش:

- ‌ الكُرْسِيّ:

- ‌ إحاطةُ عِلْمِ اللهِ بكلِّ شيء:

- ‌ عودةٌ إلى الكلامِ على استواءِ اللهِ على العَرْش:

- ‌ الحذرُ مِن التشبيه، وحكمُ التعبيرِ عن الصفات بما لم يَرِدْ في الشريعةِ مِن الإشارةِ والكَلَام:

- ‌ الأسماء والصفات:

- ‌ ما وَرَدَ مِن الأسماءِ والصفاتِ عن الصحابةِ والتابِعِين:

- ‌ أسماءُ اللهِ:

- ‌ حقيقةُ الصفاتِ:

- ‌ الإقرار بإثبات الصفة يُبطِلُ التفويض:

- ‌ كلامُ اللهِ:

- ‌ شِدَّة مالك وأصحابِه على القول بخَلْقِ القرآن:

- ‌ ظهورُ القول بخَلقِ القرآن في المغرب:

- ‌ أصلُ فِتنة خَلْق القرآن، والكلام النَّفْسي:

- ‌ الحَرْفُ والصَّوْت:

- ‌ من حُجَجِ نُفَاةِ الصوت والحرف لله:

- ‌ الواقفةُ في خَلْقِ القرآن، وسببُ التشديد عليهم:

- ‌ مِن أدلة القائلينَ بخَلقِ القرآن:

- ‌ صفةُ التَّجَلِّي للهِ تعالى:

- ‌ صِفَةُ نُزولِ الله تعالى:

- ‌ القرآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوق:

- ‌ الإيمانُ بالقَدَرِ:

- ‌ تقديرُ الخَيْرِ والشَّرّ:

- ‌ لا يُنسَبُ الشرُّ إلى الله:

- ‌ الجدالُ في القَدَرِ:

- ‌ أفعالُ العِبَادِ وخَلْقُها:

- ‌ أمرُ اللهِ ونهيُهُ وقدَرُهُ، وتوهُّمُ بعضِ النفوسِ الظُّلْمَ:

- ‌ العلمُ بالأسباب لا يُخرِجُ صاحبَه مِن قَدَرِ الله:

- ‌ عِلْمُ اللهِ بكلِّ شيءٍ:

- ‌ مشيئةُ اللهِ وقدرتُهُ على خلقِ أفعالِ العِبَادِ:

- ‌ المُخالِفونَ في القَدَر:

- ‌ الحتميَّةُ السَّبَبِيَّةُ:

- ‌ نفيُ القَدَر يَلزَمُ منه العجز:

- ‌ رسالةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكتابُه:

- ‌ خِتَامُ رسالةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للرِّسالات:

- ‌ حكمُ اتِّباعِ دِينٍ غيرِ الإسلام:

- ‌ والكفرُ -حينئذٍ- جاء مِن جهاتٍ، أعظَمُها:

- ‌ الإسلامُ وحُرِّيَّةُ الدِّين:

- ‌ شُبُهاتٌ في حُرِّيَّةِ تَركِ الإسلام:

- ‌ الإيمانُ بالكُتُبِ السماويَّة، والحِكْمةُ مِن إرسالِ الرسلِ:

- ‌ مصدرُ تفسير القرآن:

- ‌ الإيمانُ بالقيامةِ وما فيها:

- ‌ النَّفْخ في الصُّور:

- ‌ بعثُ الأجسادِ وجزاؤُها:

- ‌ أشراطُ الساعةِ:

- ‌ تنزيلُ أشْراطِ الساعةِ عَلَى الواقعِ:

- ‌ الحسابُ والعقابُ:

- ‌ حكمُ مَن ماتَ ولم يَتُبْ مِن ذَنْبِه:

- ‌ مصيرُ مَن دخَلَ النارَ مِن عُصاةِ المُسلِمِين:

- ‌ وخالَفَ في هذا الخوارجُ والمعتزِلةُ، والمرجِئةُ:

- ‌ الشفاعةُ وأحكامُها:

- ‌ رؤيةُ اللهِ في الآخِرة:

- ‌ الجَنَّةُ والنَّارُ، ولِمَنْ أَعَدَّهُما اللهُ:

- ‌ خَلْقُ الجَنَّةِ والنارِ:

- ‌ خُلود الجَنَّة والنار:

- ‌ صفةُ المجيءِ للهِ:

- ‌ المِيزَانُ والوَزْن:

- ‌ صحائفُ الأعمال، وكيفيَّةُ استلامِها يومَ القيامة:

- ‌ الصراطُ وأحوالُ الناسِ فيه:

- ‌ الحَوْضُ المورودُ:

- ‌ حقيقةُ الإيمان:

- ‌ والطوائِفُ المخالِفةُ في هذا البابِ على سبيلِ الإجمالِ طائفتان:

- ‌ أسبابُ الافتتانِ برَأْيِ الخوارِج:

- ‌ الصِّفَةُ الجامِعةُ للخَوارجِ:

- ‌ الموقِفُ عند اجتماع الضلالات:

- ‌ المُوازنةُ بين المُرجِئَةِ والخَوارجِ:

- ‌ زيادةُ الايمانِ ونقصانُه:

- ‌ زوال الإيمان وكماله:

- ‌ نُقصان الإيمان عند مالك:

- ‌ الاستثناءُ في الإيمانِ:

- ‌ الإيمانُ قولٌ وعمَل:

- ‌ حكمُ تاركِ العمل كلِّه:

- ‌ أَثَرُ إِخْرَاجِ العَمَلِ مِن الإِيمانِ:

- ‌ التكفيرُ بالذنوبِ، وأحوالُ الطوائفِ:

- ‌ أرواحُ المَوْتَى وأحوالُها:

- ‌ القَبْرُ وفِتْنَتُهُ:

- ‌ كتابةُ الأعمالِ على المكلَّفين

- ‌ الأرواحُ وقَبْضُها:

- ‌ فضلُ خيرِ القُرُون:

- ‌ معنى القَرْن:

- ‌ فضلُ الصحابةِ، وتفاضُلُهُمْ:

- ‌ الوقوعُ في الصَّحَابةِ:

- ‌ التفاضُلُ بين الصحابةِ:

- ‌ التوسُّع في التفضيل بين الصحابة:

- ‌ ظُهورُ الطَّعْنِ في الصحابةِ في المَغْربِ:

- ‌ ما شجَرَ بين الصحابة:

- ‌ امتحانُ أهلِ المَغْربِ بالصحابةِ:

- ‌ فِتْنةُ الرَّافضةِ إذا تمكَّنُوا:

- ‌ الطاعةُ لأئمَّةِ المسلِمِينَ بالمعروفِ:

- ‌ الخُرُوجُ على الأَئِمَّةِ وأحوالُه:

- ‌ نُصحُ الأَئِمَّةِ:

- ‌ الخطأُ في نُصوص السَّمْع والطاعة:

- ‌ ابتلاءُ المُصلِح:

- ‌ تجرُّد المُصلِح:

- ‌ فضلُ السَّلَفِ واتِّباعِهم:

- ‌ سببُ تَفْضِيلِ السَّلفِ:

- ‌ تعظيمُ فقه الصَّحَابَةِ:

- ‌ الاستدلالُ بحديثٍ يخالِفُ الصحابةَ:

- ‌ حقيقةُ العملِ الذي يقدَّمُ عَلى الحديثِ:

- ‌ تركُ المِرَاءِ والجِدَالِ:

- ‌ طُرُقُ معرفةِ حقِّ الله:

- ‌ المجتهِدُ ببِدْعة:

- ‌ التحذيرُ مِن الجِدَالِ والمِرَاءِ في الدِّين:

- ‌ حسنُ القصدِ وسُوءُهُ، وأثَرُهُ على فهمِ القرآن:

- ‌ هَجْرُ الجِدَالِ والمِرَاءِ وأهلِهِ:

- ‌فهرس الآثار وأقوال الأئمة والعلماء

- ‌فهرس القواعد والكليات

- ‌معجم الموضوعات ورؤوس المسائل

- ‌فهرس المذاهب والأقوال

- ‌فهرس حكمة التشريع ومقاصد الشريعة

- ‌فهرس الحكم والأمثال ومأثور الأقوال

- ‌فهرس الفوائد

الفصل: ‌ الحذر من التشبيه، وحكم التعبير عن الصفات بما لم يرد في الشريعة من الإشارة والكلام:

وكان أبو العبَّاسِ بن طالبٍ يخطُبُ في القَيْرَوان، ويقولُ:"الحمدُ للهِ الذي على عَرْشِهِ استَوَى، وعلى مُلْكِهِ احتَوَى، وهو في الآخِرةِ يُرَى"(1)، وإثباتُهم للاستواءِ على الحقيقة، لا يَحمِلُهم على القول بالتشبيه، وتوهُّمُ لزومِ إثبات الحقيقةِ للتشبيه لا يَحمِلُهم على التفويض؛ ولهذا يقولُ القرطبيُّ: "لم يُنكِرْ أحدٌ مِن السلفِ الصالح أنَّه استَوَى على عرشِه حقيقةً

وإنَّما جَهِلُوا كيفيةَ الاستواء" (2).

والعرَبُ تُطلِقُ العرشَ على السريرِ؛ كما قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100]، وقال أُمَيَّةُ بن أبي الصَّلْتِ:

مَجِّدُوا اللهَ وَهْوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ

رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كبِيرَا

بِالبِنَاءِ الأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّا

سَ وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرَا (3)

وإثباتُ هذا التعبيرِ لا يعني إثباتَ التشبيهِ بين عرشِ الخالقِ وعرشِ المخلوقِ، ولا بين استوائِهما، ومثلُ ذلك السريرُ؛ فإنَّ للمخلوقِ عرشًا، وورودُ المشابَهةِ في الاسمِ لا تعني المشابَهةَ في الحقيقة؛ فضلًا عن المشابَهةِ بين الخالقِ والمخلوقِ في الفعلِ.

*‌

‌ الحذرُ مِن التشبيه، وحكمُ التعبيرِ عن الصفات بما لم يَرِدْ في الشريعةِ مِن الإشارةِ والكَلَام:

ويُقتصَرُ على اللفظِ الواردِ في الوحيِ؛ وهو: "الاستواء"، ولو تقارَبَ مع اللفظِ غيرُهُ بالمعنى أو اتحَدَ؛ التزامًا باللفظِ المشروعِ الذي اختارَهُ اللهُ لِنَفْسِه، ودفعًا لتوهُّمِ اللَّبْسِ الذي قد يقَعُ في قلوبِ الناسِ مِن

(1)"ترتيب المدارك"(4/ 214).

(2)

"تفسير القرطبي"(9/ 239).

(3)

"تأويل مختلف الحديث"(ص 119 و 396).

ص: 122

الألفاظِ المجمَلةِ غيرِ المحكَمة، وقد كان مالكُ بن أَنَسٍ يَكرَهُ التحديثَ ببعضِ أحاديثِ الصفاتِ للعامَّة؛ وذلك حتى لا يَسبِقَ إلى أذهانِهم معنًى محظورٌ مِن التشبيه؛ كما قاله يحيى بنُ مُزَيْنٍ (1)، وابنُ عبد البَرِّ القُرطبيانِ (2).

فإذا كان هذا عند مالكٍ في اللفظِ الواردِ في الحديث، فكيف بألفاظٍ لم تَرِدْ تقَعُ في ذهنِ السامعِ مَوقِعًا لا يليقُ بالله، وكان مالكٌ يشدِّدُ في إشارةِ الإنسانِ بيدِهِ عند ذكرِهِ لصفاتِ الله بما يُوهِمُ تشبيهًا؛ قال مالكٌ:"مَن وصَفَ شيئًا مِنْ ذاتِ اللهِ؛ مِثْلُ قولِهِ تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وأشارَ بِيَدِهِ إلى عُنُقِه، ومثلُ قولِهِ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فأَشَارَ إِلَى عَيْنِهِ وأُذُنَيْهِ، أو شَيِء مِن بَدَنِهِ -: قُطِعَ ذلك منه؛ لأنَّه شَبَّهَ اللهَ بِنَفْسِهِ".

وهذا مِن مالك فيمَن قصَدَ التشبيهَ، أو فُهِمَ منه ذلك، وأمَّا عند الأمنِ مِن ذلك عند مَن صَحَّ معتقَدُهُ، وسَلِمَ لسانُهُ، لإثباتِ حقيقةِ الصفةِ لا تكييفِها -: فذلك ورَدَ فيه الحديثُ؛ كما في حديثِ أبي هُرَيْرةَ؛ أنه قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، وَوَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِه، وَسَبَّابَتَهُ عَلَى عَيْنِهِ"؛ رواه أبو داودَ (3).

وربَّما أجاز بعضُ السلفِ التعبيرَ بلفظٍ آخَرَ طابَقَ المعنى في موضعٍ، فيَظُنُّهُ بعضُ الناسِ جائزًا في غيرِه، فيقَعُ التشبيهُ والتعطيلُ؛ ولهذا

(1)"التمهيد"(7/ 151).

(2)

انظر: "التمهيد"(7/ 150).

(3)

سبق تخريجه.

ص: 123

يقولُ ابنُ عبد البَرِّ: "نقولُ: استوَى مِنْ لَا مَكَانٍ إلى مَكَانٍ، ولا نقولُ: انتَقَلَ؛ وإنْ كان المعنى في ذلك واحدًا؛ أَلَا تَرَى أنَّا نقولُ: له عَرْشٌ، ولا نقولُ: له سَرِيرٌ؛ ومعناهما واحدٌ؟ ! ونقولُ: هو الحَكِيمُ، ولا نقولُ: هو العاقِلُ، ونقولُ: خليلُ إبراهيمَ، ولا نقولُ: صَدِيقُ إبراهيمَ؛ وإنْ كان المعنى في ذلك كلِّه واحدًا؟ ! لا نسمِّيه، ولا نَصِفُهُ، ولا نُطلِقُ عليه، إلَّا ما سَمَّى به نَفْسَهُ"(1).

وقد كان بعضُ السلَفِ يعبِّرُ عن الاستواءِ بغيرِه؛ كما صَحَّ عن خارجةَ بنِ مُصعَبٍ (2)، والحسَنِ البَصْريِّ، وعِكْرِمةَ: أنهم عبَّروا عن الاستواءِ بالجلوسِ (3)، وجاء عن الشَّعْبيِّ، عن ابنِ مسعود أيضًا؛ وفيه انقطاع (4)، وتَبِعَهم وكيعٌ، وأحمَدُ؛ كما نقَلَهُ ابنُهُ عبدُ اللهِ في "السُّنَّة"(5)، والدارِميُّ في "رَدِّهِ على بِشْر"(6)، والدارَقُطْنيُّ في بعضِ كتبِهِ (7)، وهذا الذي أرادَهُ النَّسَائيُّ في "سننه" في بابِ {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (8) [فصلت: 11]؛ حيثُ أورَدَ حديثَ ابنِ عُمَرَ في استواءِ المسافِر، وقد عبَّر عن الاستواءِ عبدُ الوهَّابِ الورَّاقُ بالقعودِ (9)، وجاء عن مُجاهِدٍ تفسيرُ قولِهِ:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]: "يُقعِدُهُ مَعَهُ على العَرْش"(10)،

(1)"التمهيد"(7/ 136 - 137).

(2)

"السُّنَّة" لعبد الله (10)، وعنه الخلال (1691).

(3)

الرواية للحكم بن معبد؛ انظر: فتح المجيد (4/ 1675).

(4)

انظر: كتاب "إثبات الحد" لأبي محمد بن بدران الدشتي (ص 170).

(5)

(1/ 302) وانظر: "الرد على الجهمية"(ص 300).

(6)

(1/ 215).

(7)

"الصفات"(ص 10)، وانظر:"إبطال التأويلات"(ص 492).

(8)

"السنن الكبرى"(10/ 245)، حديث رقم (11402).

(9)

"بيان تلبيس الجهمية"(3/ 14).

(10)

ابن أبي شيبة (32309)، والآجري في "الشريعة"(1101 - 1105)

ص: 124

وبهذا عبَّر ابنُ العربيِّ في سورة الأحزاب من "أحكام القرآن"، وهو على طريقة المتكلِّمِين.

والثابتُ في الحديثِ المرفوعِ: أنَّ المقامَ المحمودَ هو الشفاعةُ العُظْمَى (1).

وكثيرٌ مِن الأئمَّةِ: يذكُرُونَ الاستواءَ، ويذكُرُونَ معناه في اللغةِ؛ كالجلوسِ، والاستقرارِ، والتمكُّنِ في الشيءِ؛ كما فعَلَ ابنُ عبد البَرِّ (2)، وغيرُهُ (3)، ويريدونَ مِن ذلك: بيانَ الحقائقِ، والابعادَ عن المجازِ؛ وليس التمثيلَ؛ تعالى اللهُ!

وربَّما نَفَى بعضُ الأئمَّةِ مثلَ هذه الألفاظِ؛ كالجلوسِ؛ لِمَا يرى لها مِن لوازمَ تليقُ بالمخلوق؛ كابنِ رشدٍ في "البيان والتحصيل"(4)؛ فقد جعَلَ الجلوسَ عليه، والتحيُّزَ فيه، والمماسَّةَ، مستحيلًا في صفاتِ اللهِ تعالى؛ لأنه مِن التكييفِ الذي هو مِن صفاتِ المخلوق، مع أنَّ ابنَ رشدٍ لم يَمنَعْ أن يكونَ الاستواءُ مِن صفاتِ اللهِ الفعليَّة.

وهذه اللوازمُ والأعراضُ التي ذكَرَها لم تَرِدْ في الشريعة، وإنما لمَّا لَزِمَتْ للجواهِر، نفاها عن الخالق، ولو تُرِكَتْ تلك اللوازمُ، وسُكِتَ عنها لسكوتِ الشارعِ، وأُثبِتَ ما جاء في الوحي وفسَّرَهُ السلفُ-: لكان أسلَمَ وأعلَمَ وأحكَم.

وتعبيرُ بعضِ السلَفِ بالجلوسِ والقعودِ (5): مِن بابِ إثباتِ

(1) البخاري (7439)، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد.

(2)

"التمهيد"(7/ 131).

(3)

"تأويل مختلف الحديث"(ص 271).

(4)

"البيان والتحصيل"(16/ 368 - 369).

(5)

انظر: "إثباتَ الحَدِّ للهِ عز وجل، وبأنه قاعِدٌ وجالسٌ على عرشِهِ" للدَّشْتيّ.

ص: 125

الحقيقةِ، ونفيِ التأويلِ عن الظاهِر، لا لتقريرِ لفظٍ مغايِرٍ، وتجويزِ مِثْلِهِ في كلِّ موضعٍ؛ فهؤلاءِ حينما يعبِّرونَ عنِ الاستواءِ بغيرِه، لا يَجعَلُونَ تعبيرَهم تشبيهًا؛ فهم يُثبِتُونَ اللفظَ الآخَرَ بلا تشبيهٍ ولا تمثيل؛ فيذكُرُونَهُ دفعًا للتعطيلِ والتأويل، وإثباتًا للحقيقةِ التي تليقُ بالخالق، ونفيًا لِمَا يليقُ بالمخلوق؛ فكما أنَّهم يَنفُونَ التشبيهَ عند التعبيرِ بالاستواء، فكذلك يَنفُونَهُ عند التعبيرِ بالجلوسِ والقعودِ.

ولمَّا كان بعضُ المفوِّضةِ الذين يتوقَّفون في إثباتِ حقيقةِ الاستواءِ التي تليقُ بالله، وبعضُ المتأوِّلةِ الذين يَحمِلُونَهُ على معنًى غيرِ الحقيقة، يَستنكِرُونَ على بعضِ السلفِ إطلاقَ مِثْلِ هذه التعابيرِ؛ لأنَّهم يفوِّضونَ أو يتأوَّلونَ اللفظَ الوارِدَ، فيَستثقِلُونَ اللفظَ غيرَ الواردِ -: فهم فوَّضوا وتأوَّلوا؛ فرارًا مِن التشبيهِ المتوهَّمِ؛ فتأويلُهُمْ للتعبيرِ بغيرِ الواردِ ثقيلٌ على ما يعتقِدُونَ؛ لأنه يرسِّخُ إثباتَ الحقيقة، وهم يَفِرُّون منها؛ وإلَّا فإنَّ السلَفَ الذين يعبِّرون بما لم يَرِدْ، لا يُرِيدُونَ التشبيهَ به؛ فهم إذا لم يشبِّهوا باللفظِ الواردِ في النصِّ، فغيرُ الوارِدِ مِن بابِ أَوْلى.

وقد جاء في حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ: "إِذَا جَلَسَ الرَّبُّ عز وجل عَلَى الْكُرْسِيِّ"(1)؛ رواه عنه عبدُ اللهِ بن خَلِيفَةَ؛ أَخرجَهُ الدارِميُّ، وعبدُ اللهِ بن أحمدَ في "السُّنَّة".

وربَّما عبَّر بعضُ السلفِ عن الاستواءِ ببعضِ لوازمِهِ؛ كالعلوِّ، والارتفاعِ؛ لأنَّه لا يَستوِي إلا مرتفِعٌ وعالٍ على غيرِه، ويَظهَرُ هذا في قولِهِ تعالى:{عَلَى الْعَرْشِ} [طه: 5]؛ فـ "على" تَدُلُّ على العلوِّ والفوقيَّة.

ولا يَلزَمُ مِن إثباثِ حقيقةِ الاستواءِ: القولُ بالتشبيه؛ وهذا اللازمُ

(1)"نقض الدارمي"(1/ 425 - 426)، و "السُّنَّة"(585 و 587 و 1019).

ص: 126

المتوهَّمُ هو الذي دفَعَ إلى تعطيلِ الصفاتِ وتأويلِها، والجهلُ بكيفيَّةِ الشيءِ لا يُجِيزُ تأويلَهُ أو نفيَهُ؛ كما قال ابنُ عبد البَرِّ:"لقد أَدْرَكْنا بحَوَاسِّنا: أنَّ لنا أَرْوَاحًا بأبدانِنا، ولا نَعلَمُ كيفيَّةَ ذلك، وليس جَهْلُنَا بكيفيَّةِ الأرواحِ يُوجِبُ أنْ ليس لنا أرواحٌ، وكذلك ليس جهلُنا بكيفيَّةِ [استوائِه] على عرشِه، يُوجِبُ أنه ليس على عَرْشِه"(1).

فيجبُ إثباتُ الاستواءِ حقيقة، وتفويضُ كيفيَّته؛ لأنَّ اللهَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقد قال رجلٌ لمالكٍ:"يا أبا عبد اللهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]؛ كَيْفَ استَوَى؟ قال: الاستواءُ غيرُ مجهولْ، والكيفُ منه غيرُ معقولْ، والسؤالُ عنه بِدْعة، والإيمانُ به واجب، وأَرَاكَ صاحبَ بِدْعةٍ؛ أَخْرِجُوهُ! "(2).

فقد نفى مالكٌ معرفةَ الكيفيَّةِ وفوَّضَها، ولم يفوِّضِ الحقيقةَ؛ ولذا قال:"الاستواءُ معلومْ، والكيفُ مجهولْ"، ولا يكونُ الكيفُ إلَّا لِمَا له حقيقةٌ، وما لا حقيقةَ له لا يُحتاجُ إلى تفويضِ تكييفِهِ؛ لأنه ليس صفةً للذاتِ التي ليس كمِثْلِها شيءٌ.

وقد نفَتِ المعتزِلةُ الاستواءَ، وفسَّروه بالاستيلاءِ؛ وهذا ما لا تَعرِفُهُ العرَبُ ولا هو جائزٌ في كلامِها؛ كما قاله الخليلُ بنُ أحمَدَ (3).

وكلُّ ما لا مَجَالَ للعقلِ فيه، فلا يجوزُ الخوضُ فيه، ومِن ذلك: ذاتُ اللهِ وصفاتُهُ، وإنما يُكتفَى بالقَدْرِ الوارِدِ في السمع، ولا يُزادُ عليه؛ فما دَلَّ السياقُ على حقيقتِهِ تُثبَتُ حقيقتُهُ؛ لأنَّ هذا مقتَضَى اللسانِ العرَبيِّ الأوَّلِ بلا تكلُّفٍ، وتفوَّضُ كيفيَّتُه.

(1)"التمهيد"(7/ 137).

(2)

"الرد على الجهمية" للدارمي (104)، و "شرح أصول الاعتقاد"(664).

(3)

"العرش وما روي فيه"(ص 165 - 166).

ص: 127

وقد كان غيرُ واحدٍ مِن الأئمَّةِ المَغارِبةِ على هذا؛ كما قال ابنُ رُشْدٍ في "المقدِّمات": "وأمَّا ما وصَفَ به نفسَهُ تعالى في كتابِهِ: أنَّ له وجهًا ويَدَيْنِ وعينَيْنِ، فلا مَجَالَ للعقلِ في ذلك، وإنَّما يُفهَمُ ذلك مِن جهةِ السمعِ؛ فيجبُ اعتقادُ ذلك والإيمانُ به مِن غيرِ تكييفٍ ولا تحديدٍ"(1).

وقد كان بعضُ أهلِ المَغرِبِ يتأوَّلونَ ما ثبَتَ مِن الصفاتِ بالسمعِ، ويصفونَ المُثبِتةَ بـ "المجسِّمةِ"، و "المشبِّهةِ"، و "الحَشَويَّةِ"؛ توهُّمًا أنَّ مَن يُثبِتُ الحقيقةَ يأخُذُ بلوازمِها التي يَستحضِرُها الذهنُ عند التفكُّر.

وهذه لوازمُ لا يجوزُ الإلزامُ بها؛ لأنَّ مَن كانت ذاتُهُ لا شبيهَ لها، فصفاتُهُ لا شبيهَ لها كذلك، ومَن كانت لوازمُ ذاتِهِ لا شبيهَ لها، فلوازمُ صفاتِهِ لا شبيهَ لها كذلك.

وقد تَعقَّبَ الإلبيريُّ ابنَ رشدٍ في إثباتِهِ ما ثبَتَ بالسمعِ مِن الصفات (2)، وقد أخطَأَ لأجلِ تلك المقدِّماتِ والإلزاماتِ والتوهُّمات.

وأصلُ تأويلِ الاستواءِ: توهُّمُ التشبيهِ بالمخلوقِ: إمَّا بذاتِ الصفة، وإمَّا بلوازمِها مِن الحَدِّ وغيرِه؛ وهذا يَرِدُ على المخلوق، ولا يَرِدُ على الخالقِ؛ لأنه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]؛ كما سَمِعَتِ امرأةُ جَهْمِ بنِ صَفْوانَ رجلًا يقولُ: اللهُ على عَرْشِه، فقالتْ: محدودٌ على محدودٍ؛ فقال الأصمعيُّ: "هي كافِرةٌ بهذه المَقَالَة"(3)؛ فقد توهَّمَتْ تشبيهًا؛ فصارت إلى التعطيل، ولو سَلِمَتْ مِن التشبيهِ، لم تعطِّلْ.

(1)"المقدمات"(1/ 20).

(2)

له رسالة في الرد على أبي الوليد بن رشد في مسألة الاستواء.

(3)

"الأربعين في صفات رب العالمين"(12)، و "العلو"(436)، و "اجتماع الجيوش"(2/ 225).

ص: 128