الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]؛ فالكافِرُ لا يَشفَعُ، ولا يُشفَعُ له؛ لأنَّ الله لا يرضى عن الكافِرِينَ؛ كما قال تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96]، والشفاعةُ لا بُدَّ فيها مِن رضاهُ سبحانَهُ، والكافِرُ لا يَنتفِعُ بالشفاعةِ؛ كما قال تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48].
وقد أنكَرَ بعضُ الطوائفِ الشفاعةَ بحسَبِ أصولِهم، وفرَّعوا على ذلك نَقْضَها وإبطالَها، ومنهم: مَن يُنكِرُها عامَّةً، ومنهم: مَن يُنكِرُ بعضَها:
فالخوارجُ والمعتزِلةُ لا يَرَوْنَ صاحبَ الكبيرةِ مؤمِنًا؛ وعلى هذا: فلا شفاعةَ عندَهم للعصاةِ مِن المسلِمِينَ؛ لأنَّهم سلَبُوهم اسمَ الإيمان، ويُقابِلُهم المرجِئةُ الذين لا يَرَوْنَ الشفاعةَ للعصاة أيضًا؛ لأنَّ المعصيةَ لا تؤثِّرُ على الإيمانِ عندَهم؛ وعلى هذا: فلا يدخُلُونَ النارَ بها أصلًا، فضلًا عن تخفيفِ العذابِ عليهم؛ فلا يدخُلُ النارَ عندَ الخوارجِ والمعتزِلةِ والمُرجِئةِ إلا نَفْسٌ كافِرة.
فالخوارجُ والمعتزِلةُ والمرجِئةُ أنكَرُوا باعتبارِ ما قرَّروا.
وإطلاقُ أنَّ الخوارِجَ والمعتزِلةَ والمرجِئةَ يقولونَ بإنكارِ جميعِ أنواعِ الشفاعةِ غلَطٌ عليهم.
*
رؤيةُ اللهِ في الآخِرة:
* قَالَ ابْنُ أَبي زَيْدٍ: (وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ خَلَقَ الجَنَّةَ فَأَعَدَّهَا دَارَ خُلُودٍ لِأَوْليَائِهْ، وَأَكْرَمَهُمْ فِيهَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمْ):
استفاضَتِ النصوصُ على رؤيةِ اللهِ في الآخِرة، ولم يَختلِفِ الصحابةُ والتابِعُونَ ولا معروفٌ بعلمٍ مِن أَتْباعِهم في ذلك:
قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]؛ أي: تنظُرُ إلى ربِّها بعينَيْ رَأْسِها؛ وهذا ما قرَّره السلَفُ في تأويلِها.
وقد سأَلَ أَشْهَبُ مالكَ بنَ أنسٍ عنها؟ فقال: "أَيَنظُرُونَ إلى اللهِ؟ قال: نَعَمْ؛ بأَعْيُنِهم هاتَيْن، قال أَشْهَبُ: فإنَّ قَوْمًا يقولونَ: ناظِرةٌ، بمعنى: منتظِرةٌ إلى الثوابِ، قال: كذَبُوا، بل تنظُرُ إلى اللهِ؛ أَمَا سَمِعْتَ قولَ موسى:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]؛ أَتُرَاهُ سَأَلَ مُحَالًا؟ !
…
وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] " (1).
فإذا كان هناك محجوبونَ، فهناك ناظِرون؛ وهذا لازِمُ القول، وقد استدَلَّ بهذه الآيةِ على الرؤيةِ: مالكٌ (2)، والشافِعِيُّ (3)، وجماعةٌ مِن أهلِ العربيَّةِ؛ كثَعْلَبٍ (4)، وغيرِه (5).
وقد جاء اللقاءُ بالله يومَ القيامةِ في مواضِعَ مِن الوحيِ؛ ومِن ذلك قولُهُ تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44] ولازِمُ اللقاءِ: الرؤيةُ عندَ العرَب (6)، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك؛ كما حكاهُ ثَعْلَبٌ (7).
وقد كان سُحْنُونٌ يلقِّنُ ابنَ القَصَّارِ في مرَضِ موتِهِ: "أنَّ اللهَ يُرَى يومَ القيامةِ"(8)، وكان أبو العَبَّاسِ بنُ طالبٍ يَستفتِحُ خُطْبةَ الجُمُعةِ على
(1)"شرح أصول الاعتقاد"(871)، و"ترتيب المدارك"(2/ 43).
(2)
"شرح أصول الاعتقاد"(808).
(3)
"شرح أصول الاعتقاد"(809).
(4)
"ياقوتة الصراط"(ص 561).
(5)
"تأويل مختلف الحديث"(ص 300 - 301)، و"الرد على الجهمية" للدارمي (166 و 167).
(6)
"الشريعة" للآجري (2/ 981).
(7)
"الإبانة" لابن بطة (7/ 62).
(8)
"رياض النفوس"(1/ 367 - 368)، وقد سبق.
مِنْبَرِ القَيْرَوانِ بإثباتِ رؤيةِ اللهِ في الآخِرة (1).
ومِن الأدلَّةِ: قولُهُ تعالى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]؛ فاللهُ منَعَ مُوسَى مِن رؤيتِهِ في الدنيا، ولازمُ ذلك تمكينُهُ منها في الآخِرة.
ثُمَّ إنَّ موسى لا يَسأَلُ إلا المُمكِنَ، لا يَسأَلُ المُحَالَ.
وكذلك: فإنَّ اللهَ تَجَلَّى للجبَلِ بنفسِهِ؛ لِيُرِيَ موسى أنْ لا طاقةَ في خِلْقَتِهِ -التي هو عليها في الدنيا- على رؤيةِ اللهِ؛ لأنَّ الجبَلَ -وهو أقوَى منه، وأشَدُّ خَلْقًا- لم يَتحمَّلْ؛ فأصبَحَ دكًّا.
وقد جعَلَ ابنُ عبد البَرِّ دَلَالةَ الآيةِ واضحةً على رؤيةِ اللهِ في الآخِرة (2)؛ وبهذا يقولُ أهلُ العربيَّةِ في معنى التجلِّي؛ كالخليلِ وغيرِه؛ قالوا: "تَجَلَّى: ظهَرَ وبان"(3).
ومَن يُعارِضُ هذه الآيةَ بقولِهِ تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فقد أخطَأ؛ لأنَّ الإدراكَ هنا؛ بمعنى: الإحاطة، وعدَمُ الإدراكِ والإحاطةِ لا ينفي الرؤيةَ؛ فقد تَرَى مَن لا تُدرِكُهُ ولا تحيطُ به، والإدراكُ في الآيةِ الإحاطةُ، وهي قدرٌ زائدٌ عن مجرَّدِ الرؤية، وهو ممتنِعٌ في الدنيا والآخِرة؛ فاللهُ فرَّق بين الرؤيةِ والإدراكِ بقولِهِ عن أصحاب موسى وفِرْعَوْنَ:{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]؛ رأَوْهم أوَّلًا، ثُمَّ خافوا إدراكَهُمْ ثانيًا.
وكان مالكٌ وأصحابُهُ يشدِّدونَ على منكِرِ رؤيةِ اللهِ مِن أهلِ الكلام،
(1)"ترتيب المدارك"(4/ 214).
(2)
"التمهيد"(7/ 153).
(3)
"العين"(6/ 180)، و"معاني القرآن" للزجاج (2/ 373)، و "تهذيب اللغة"(11/ 185 - 186).
قيل لمالكٍ: "إنَّهم يزعُمُونَ أنَّ اللهَ لا يُرَى! "، فقال مالكٌ:"السَّيْفَ السَّيْفَ"(1).
وقد ضرَبَ أسدُ بن الفُرَاتِ في مجلسِهِ بالمسجِدِ بنَعْلَيْهِ رَجُلًا أنكَرَ رؤيةَ اللهِ في الآخِرة، وكان يقولُ:"واللهِ، لو أُدخِلْتُ الجَنَّةَ، فحُجِبْتُ عن رؤيةِ الله، لَشَكَكْتُ، ولَأَنَا أَسَرُّ برؤيةِ رَبِّي مِنِّي بالجَنَّةِ"(2).
وللشافعيِّ كلامٌ قريبٌ مِن هذا (3).
وقال ابنُ الماجِشُونِ: "مَن زعَمَ أنَّ اللهَ لا يُرَى يومَ القيامة، استُتِيبَ"(4).
وصنَّف غيرُ واحدٍ مِن المغارِبةِ في رؤيةِ اللهِ رَدًّا على المُنكِرِينَ لها مِن المتكلِّمينَ؛ فكتَبَ يحيى بن عُمَرَ كتابَ "الرؤيةِ"، وكتَبَ ابنُ وضَّاحٍ كتابَ "ما جاء مِن الحديثِ في النظَرِ إلى اللهِ تعالى"، وأكثَرَ مِن روايةِ الحديثِ والأثَرِ في الرؤيةِ؛ حتى كان عُمْدةً للمغارِبةِ في هذا البابِ؛ حتى قال أبو موسى الأنصاريُّ:"كان المَغارِبةُ يَرْوُونَ أقوالَ رؤيةِ اللهِ عن محمَّدِ بنِ وَضَّاحٍ الأَنْدَلُسيِّ".
قال ابنُ أبي زيد في "الجامع": "وَأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَرَاهُ أَوْلِيَاؤُهُ فِي المَعَادِ بِأَبْصَارِ وُجُوهِهِمْ لَا يُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ؛ كَمَا قَالَ عز وجل فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ؛ قَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِ اللهِ سُبْحَانَهُ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، قَالَ: (الحُسْنَى: الجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى
(1)"شرح أصول الاعتقاد"(808 و 872).
(2)
"رياض النفوس"(1/ 264).
(3)
"شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة"(3/ 560).
(4)
نسَبَه وغيرَه من آثارٍ للسلف والأئمةِ محمد بن وضَّاح في كتاب "الرؤية".