الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
خطأ المتكلِّمينَ في استعمال اللغة:
وأمَّا المتكلِّمونَ: فيقدِّمون مِن اللغةِ ما يوافِقُ أصولَهم الكلاميَّة، ويقدِّمون الاستعمالَ الأغرَبَ على الأغلَب، ولا يَعتبِرُونَ بالسياقِ ولا القرائنِ ولا أحوالِ المتكلِّمِ والمخاطَب؛ فقد يتشابَهُ الفعلُ مع غيرِه، ولكنْ يَختلِفُ في سياقِه، ويتغيَّرُ معناه:
كالإتيانِ في قولهِ تعالى: " {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]، فإنَّه يَختلِفُ عن الإتيانِ في قولِهِ تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]، مع أنَّ الإتيانَيْنِ مضافانِ جميعًا إلى الله، ولكنَ الأوَّلَ مقرونٌ بإسقاطِ السقفِ وخرورِهِ؛ فكان مكرًا بهم، والثاني صفةٌ للهِ تعالى.
ومِن ذلك: قولُهُ صلى الله عليه وسلم: (الحَجَرُ الأَسْوَدُ يَمِينُ اللهِ فِي الأَرْضِ)(1)، وقولُهُ:(إِنِّي أَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ اليَمَنِ)(2)، وقولُهُ تعالى:{نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13]، وقولُهُ صلى الله عليه وسلم عن خالدِ بنِ الوليدِ:(سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ؛ سَلَّهُ اللهُ)(3)؛ فهذه تَعرِفُها العرَبُ بسياقِها: أنَّ الإضافةَ فيها لله، لا يعني كونَها صفةً؛ وهذا السياقُ يُعرَفُ بالوضعِ العَرَبيِّ الأوَّل، وليس مجرَّدُ التركيبِ اللفظيِّ كافيًا في الفهمِ.
ومثلُ هذا كان سببًا في خطأِ المتكلِّمينَ مِن المعتزِلةِ والأشاعِرةِ حينما ألزَمُوا المُثبِتةَ على منهجِ السلفِ بأمثالِ هذه الأحاديثِ: أن تكونَ
(1)"العلل المتناهية"(944) من حديث جابر.
(2)
أحمد (2/ 541 رقم 10978) من حديث أبي هريرة.
(3)
سبق تخريجه.
صفاتُ اللهِ كغيرِها، أو يَتِمَّ تأويلُ الجميعِ كتأويلِها، وقد فَهِمُوا الألفاظ، وجَهِلُوا السياق.
ومجرَّدُ العلمِ باللغةِ العربيَّةِ لا يُجِيزُ تقديمَ الوضعِ فيها على الوضعِ الشرعي؛ فالاصطلاحُ والوضعُ الشرعيُّ مقدَّمٌ على الوضعِ اللغوي، وما خالَفَ ما أجمَعَ عليه السلَفُ من المعاني، فهو فاسِدٌ، وإنِ احتمَلَتْهُ اللغة؛ ولذا يقولُ أبو عُبَيْدٍ القاسمُ بن سَلَّامٍ:"لأهلِ العربيَّةِ لُغَةٌ، ولأهلِ الحديثِ لُغَةٌ، ولغةُ أهلِ العربيَّةِ أقيسُ، ولا نَجِدُ بُدًّا مِن اتِّبَاعِ لغةِ أهلِ الحديثِ مِن أجلِ السماعِ"(1)، ويقولُ ثَعْلَبٌ:"السُّنَّةُ تَقضِي على اللُّغَة، واللُّغَةُ لا تَقضِي على السُّنَة"(2)؛ فالصلاةُ والزكاةُ والحجُّ والصومُ جاء الاستعمالُ الشرعيُّ فيها على معنًى مخصوصٍ يُخالِفُ الإطلاقَ اللغويَّ، ومَن حمَلَ معنى الصلاةِ والزكاةِ والصومِ والحجِّ على أحَدِ معانيها اللغويَّةِ، كان حملُهُ صحيحًا لغةً، باطلًا شرعًا.
وكثيرٌ مِن الأئمَّةِ المغاربةِ يُدرِكُونَ هذا المعنى؛ كابنِ أبي زَيْدٍ، وابنِ عبد البَرِّ، وأبي عَمْرٍو الدانيِّ؛ يقولُ أبو عمرٍو الدانيُّ:"وأئمَّةُ القُرَّاءِ لا تَعمَلُ في شيءٍ مِن حروفِ القرآنِ على الأَفشَى في اللغةِ، والأقيَسِ في العربيَّة، بل على الأثبَتِ في الأثَرِ، والأصحِّ في النقلِ والروايةِ؛ إذا ثبَتَتْ عنهم، لم يَرُدَّها قياسُ عربيَّةٍ، ولا فُشُوُّ لغةٍ؛ لأنَّ القرآنَ سُنَّة مُتَبَعةٌ يَلزَمُ قَبُولُها والمصيرُ إليها"(3).
ولمَّا استَقَرَّتْ عقائدُ المتكلِّمينَ على التأويلِ أو التفويضِ المطلَقِ، التمَسُوا مِن اللسانِ العربيِّ شواهدَ لتؤيِّدَ قولَهم؛ فاستَدَلُّوا بها، واستنَدُوا
(1)"الكفاية" للخطيب (554).
(2)
"مجالس ثعلب"(1/ 179).
(3)
"جامع البيان في القراءات السبع"(2/ 860).
إليها؛ كتفسيرِهم الاستواءَ بالاستيلاءِ؛ حيثُ استَدَلَّ القاضي عبدُ الجَبَّارِ بشواهدِ اللغةِ على ما استَقَرَّ عنده قبلَ استدلالِه؛ كما في "مُتشابِه القرآن"(1)، وكذلك تأويلُ اليَدِ بالنِّعْمة (2)، والكلامُ في قولِهِ تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]؛ حيثُ فسَّروه بالكَلْمِ، وهو الجَرْحُ؛ يعني: ابتلاهُ وجَرَحَهُ بالمِحَنِ والشدائدِ (3).
وقد تعدَّى ذلك الاستدلالُ على الألفاظِ بغيرِ المعروفِ، إلى التوسُّعِ في تقديرِ المحذوفاتِ؛ للوصولِ إلى الغايةِ؛ وهي التأويلُ، حتى عطَّلوا جميعَ الصفاتِ الفعليَّةِ عن حقيقتِها؛ ومِن ذلك قولُهُ تعالى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، جعَلُوا ثَمَّ تقديرًا محذوفًا، وهو تَجَلِّي أمرِهِ وقدرتِهِ (4)، ونحوُهُ قولُهُ تعالى:{إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210]، قدَّروا المحذوفَ: إتيانَ أمرِهِ وإرادتِه (5).
وهذا بابٌ لا حَدَّ له؛ أدخَلُوا منه أكثَرَ تأويلاتِهم؛ حتى قال القاضي عبدُ الجَبَّار: "هكذا طريقتُنا في سائِرِ المتشابِهِ: أنَّه لا بُدَّ مِن أن يكونَ له تأويلٌ صحيحٌ، يُخرَّجُ على مذهَبِ العرَبِ مِن غيرِ تكلُّفٍ ولا تعسُّف"(6).
وتوسَّعوا في إدخالِ كثيرٍ مِن تأويلاتِهم للصفاتِ مِن بابِ الكنايةِ والمبالَغةِ، والاستعارةِ والتشبيهِ وغيرِها.
وأدخَلُوا مِن بابِ المَجَازِ كثيرًا مِن الحقائقِ للخروجِ مِن الإثبات؛
(1)"متشابه القرآن"(ص 142).
(2)
"متشابه القرآن"(ص 299 - 301).
(3)
"الكشاف"(1/ 591).
(4)
"معاني القرآن" للأخفش (1/ 336)، و"الكشاف"(2/ 155).
(5)
"معاني القرآن" للأخفش (1/ 183)، و"الكشاف"(1/ 253).
(6)
"المغني في أبواب التوحيد والعدل"(16/ 380).
حتى جُعِلَ المجازُ مصطَلَحًا في العربيَّةِ يُضاهِي الحقيقةَ، وقد يفوقُها؛ كما يَظهَرُ في تقريراتِ أوائلِ مَن عبَّر عن هذا الاصطلاحِ؛ كالأخفشِ في "معاني القرآن"(1)، والجاحظِ في "البَيَان"، و"الحَيَوان" (2)؛ حتى زعَمَ ابنُ جِنِّيْ في "الخصائص" (3): أنَّ أكثَرَ اللغةِ مجازٌ، لا حقيقةٌ.
والعجَبُ: أنَّهم يَقبَلُونَ التأويلَ بعقولِهم، ويَرُدُّونَ تفسيرَ السلفِ لأنَّه مِن عقولهم؛ وعقولُ السلفِ أصَحّ، وألسنَتُهُمْ أفصَح.
ولما اتسَعَ الأخذُ بعلمِ الكلام، طُوِّعَتِ العربيَّةُ له، ولم يُطوَّعْ لها، وكَثُرَتِ البِدَعُ مِن أهلِ العربيَّةِ؛ حتى قال إبراهيمُ الحَرْبيُّ:"كان أهلُ البَصْرةِ أهلَ العربيَّة، منهم أصحابُ الأهواءِ، إلا أربعةً؛ فإنَّهم كانوا أصحابَ سُنَّةٍ: أبو عَمْرِو بن العَلَاءِ، والخليلُ بن أحمَدَ، ويُونُسُ بن حَبِيبٍ، والأَصمَعيّ"(4).
وقد ظهَرَ الاعتزالُ في كثيرٍ مِن أهلِ العربيَّةِ مع إمامَتِهم فيها؛ كهارونَ الأعوَرِ، وأبي محمَّدٍ اليَزِيدِيِّ، وقُطْرُبٍ، وسعيدٍ الأخفَشِ، وأبي عثمانَ المازنيِّ، والجاحظِ، وقد كتَبَ الجاحظُ كتبًا لنصرةِ القولِ بخلقِ القرآنِ، وتعطيلِ الصفاتِ؛ ككتابِ "خَلْق القرآن"، و"الرَّدِّ على المشبِّهة"؛ كتَبَها لأبي الوليدِ محمَّد بن أحمدَ بنِ أبي دُؤَادٍ قاضي المتوكِّل، ولم يَبْقَ لهذه الكتبِ ذِكْر، وهُجِرَتْ حتى فُقِدَت.
* * *
(1)"معاني القرآن"(1/ 61 و 84) و (2/ 529).
(2)
"الحيوان"(1/ 212 و 341) و (4/ 394 وما بعدها)(5/ 23 - 34).
(3)
"الخصائص"(2/ 449).
(4)
"تاريخ بغداد"(12/ 166 - 167).
الشَّرْح
* قَالَ ابْنُ أَبى زَيْدٍ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} :
يُشرَعُ البَدَاءةُ بذكرِ اللهِ قبلَ الشروعِ في المقاماتِ المهمَّة، والمواقفِ الجليلة، وقد استفاضت السُّنَّةُ العمليَّةُ بذلك، وقد دلَّت السُّنَّةُ على أنواعِ مِن الذكرِ يُشرَعُ البداءةُ به باختلافِ أنواعِ المقامِ المشروعِ فيه؛ فجاءت نصوصٌ بالبدءِ بالبسملة، ونصوصٌ بالبدءِ بالحَمْدلةِ والشهادةِ والصلاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم:
أمَّا البداءةُ بالحَمْدلةِ: ففي الخُطَبِ وما في حُكْمِها مِن طويلِ الكتبِ والمَقَالات، وقد استفاضتِ الأحاديثُ عند حكايةِ قيامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لخُطْبةٍ يقولونَ:(فحَمِدَ اللهَ، وأَثْنَى عَلَيْهِ)؛ كما في "الصحيحَيْنِ" مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ (1)، وأبي هُرَيْرةَ (2)، وابنِ عُمَرَ (3)، وأبي حُمَيْدٍ الساعديِّ (4)، وأنسٍ (5)، وجَرِيرٍ (6)، وعائشةَ (7)، وأسماءَ (8)، وهكذا الخلفاءُ الراشدون، وليس في فِعْلِهم التسميةُ في الخُطَب.
وأما اقترانُ الحَمْدلةِ بالتشهُّدِ: فهو مشروعٌ في صدرِ الخُطَبِ
(1) البخاري (467).
(2)
البخاري (2434)، ومسلم (1355).
(3)
البخاري (4402)، ومسلم (169).
(4)
البخاري (925)، ومسلم (1832).
(5)
البخاري (3799)، ومسلم (1401) في قصة أخرى.
(6)
مسلم (1017).
(7)
البخاري (1044)، ومسلم (901).
(8)
البخاري (86)، ومسلم (905).
والكلامِ الجليلِ بلا خلافٍ، وقد جاءت به السُّنَّةُ العَمَليَّةُ:
كما في حديثِ عائشةَ في "الصحيحَيْنِ"؛ لمَّا ائتمَّ الناسُ بصلاتِهِ بالليلِ، ولم يخرُجْ لهم في الثالثةِ، فخطَبَهم في الفجرِ، فقال:(إِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ)(1).
وتشهَّد عندما حدَّث عائشةَ بالإفكِ؛ فقال كما في "الصحيحَيْنِ": (يَا عَائِشَةُ، إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا؛ فإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ)(2).
وجاء بالتشهُّدِ السُّنَّةُ القوليَّة؛ كما في حديثِ أبي هُرَيْرةَ مرفوعًا؛ قال: (كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ، فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ)(3).
وصحَّ عن أبي بكرٍ وعليِّ بنِ أبي طالِبٍ تشهُّدُهم في خُطْبةِ غيرِ الجُمَع؛ كما في "الصحيحَيْن" عن عائشةَ، في بَيْعةِ أبي بكرٍ (4).
وتَشهَّدَ عُمَرُ في خطبتِهِ لما مات النبيُّ صلى الله عليه وسلم (5)، وتشهَّدَ عثمانُ في كلامِهِ لمَّا أقام الحَدَّ على الوليدِ بنِ عُقْبة؛ وكلاهما في "الصحيح"(6).
وكان بعضُ الصحابةِ يتشهَّدُ فيما يَهُمُّ، حتى في غيرِ صعودِ المِنْبَرِ، ولغيرِ الناسِ عامَّةً:
كما جمَعَ ابنُ عُمَرَ بَنِيهِ وأهلَهُ في إثباتِ بيعتِهِ يَزِيدَ لمَّا خلَعَهُ الناسُ؛ حيث رأى أنَّ الخَلْعَ نَكْثٌ وغَدْر؛ كما عند أحمدَ (7)، والأصلُ المرفوعُ في "مسلم"(8).
(1) البخاري (924 و 2012)، ومسلم (761).
(2)
البخاري (2661 و 4141 و 4750)، ومسلم (2770).
(3)
أبو داود (4841)، والترمذي (1106).
(4)
البخاري (4240 و 4241)، ومسلم (1759).
(5)
البخاري (7219).
(6)
البخاري (3872).
(7)
أحمد (2/ 48 رقم 5088).
(8)
البخاري (3188)، ومسلم (1735).
وجاء عن ابنِ مسعودِ: التشهُّدُ في كلِّ حاجةٍ يخطُبُ لها.
وجاء عن عطاءٍ، عن أبي البَخْتَرِيِّ؛ قال:"كلُّ حاجةٍ ليس فيها تشهُّدٌ، فهي بَتْراءُ"(1).
وأمَّا البداءةُ بالبَسْملةِ: ففي المكاتَباتِ والرسائلِ سُنَّةُ النبيِّ -صلي الله عليه وسلم- والأنبياءِ؛ كما في قولِهِ تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]، وكلَّما كان الأمرُ الذي يَشرَعُ فيه الكاتِبُ والمتكلِّمُ أعظَمَ، كان التأكيدُ بالبداءةِ بذكرِ اللهِ فيه أشدَّ.
وظاهِرُ السُّنَّةِ: التفريقُ بين الخُطَبِ والمكاتَبات؛ فالخُطَبُ يُبدَأُ فيها بالحمدَلةِ، والمكاتَباتُ يُبدَأُ فيها بالبَسْملة؛ كما في كُتُبِ النبيِّ -صلي الله عليه وسلم- إلى الملوكِ ورؤوسِ الناسِ؛ ككتابِهِ إلى هِرَقْلَ عظيمِ الرُّوم، وكِسْرَى عظيمِ فارس، والمُقَوْقِسِ عظيمِ القِبْط، والنَّجَاشيِّ مَلِكِ الحَبَشة، والمُنْذِرِ بنِ سَاوَى التميميِّ حاكمِ البَحْرَيْن، والحارثِ الغَسَّانيِّ مَلِكِ الحِيرَة، وأوَّلُ رسائلِهِ صلى الله عليه وسلم في "الصحيحَيْن" مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ (2)، وبقيَّتُها في السِّيَر.
وأكثَرُ السلفِ في القرنَيْنِ الأوَّلَيْنِ يَبدَؤُونَ كُتُبَهُمْ بالبسملةِ، ثُمَّ يَشرَعُونَ في المقصودِ؛ كمالكٍ في "الموطَّأ"(3)، وغيرِه، ثُمَّ غلَبَ على الكتبِ البداءةُ بالبسملةِ والحمدلةِ جميعًا.
والأحاديثُ الواردةُ في الأمرِ بالبداءةِ بالبَسْملةِ والحَمْدلةِ: معلولةٌ، والسُّنَّةُ العمليَّةُ أصحُّ وأشهَر.
* * *
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(27217).
(2)
البخاري (7)، ومسلم (1773).
(3)
(1/ 3).
* قَالَ ابْنُ أَبي زَيْدٍ: (الَّذِي ابْتَدَأَ الإِنْسَانَ بِنِعْمَتِهْ، وَصَوَّرَهُ فِي الأَرْحَامِ بِحِكْمَتِهْ):
التذكيرُ بنعمةِ اللهِ على عَبْدِهِ مُوجِبٌ لظهورِ حَقِّ اللهِ على عبدِه؛ فحَقُّ اللهِ سابِقٌ ولاحِق، ونِعَمُهُ لا تُحصَى، وإنما يُؤتَى الإنسانُ بغَفْلَتِهِ عن هذا؛ وضلالُهُ يكونُ مِن جهتَيْنِ:
الأُولى: أن يَنسُبَ فضلَ اللهِ ونعمتَهُ عليه إلى غيرِ الله؛ فيعبُدَهُ مِن دُونِ الله.
الثانية: أنْ يَنسَى فضلَ اللهِ عليه، ويغفُلَ عنه؛ فيغفُلَ عن عبادةِ اللهِ وحقِّه عليه بمقدارِ غَفْلَتِه.
ولهذا تأتي أسبابُ التذكيرِ بفضلِ اللهِ على عبدِهِ: إمَّا بالابتلاءِ ليرجِعَ، وإمَّا بالتوفيقِ والمراجَعةِ للحقِّ بالتذكُّرِ والعِلْمِ والفَهْم.
* * *
* قَالَ ابْنُ أَبي زَيْدٍ: (وَأَبْرَزَهُ إِلَى رِفْقِهْ، وَمَا يَسَّرَهُ لَهُ مِنْ رِزْقِهْ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْهِ عَظِيمًا، وَنَبَّهَهُ بِآثَارِ صَنْعَتِهْ، وَأَعْذَرَ إِلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ المُرْسَلِينَ الخِيَرَةِ مِنْ خَلْقِهْ؛ فَهَدَى مَنْ وَفَّقَهُ بِفَضْلِهْ، وَأَضَلَّ مَنْ خَذَلَهُ بِعَدْلِهْ، وَيَسَّرَ المُؤْمِنِينَ لِلْيُسْرَى، وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ لِلذِّكْرَى، فَآمنُوا بِاللهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ نَاطِقِينْ، وَبِقُلُوبِهِمْ مُخْلِصِينْ، وَبِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وكُتُبُهُ عَامِلِينْ، وَتَعَلَّمُوا مَا عَلَّمَهُمْ، وَوَقَفُوا عِنْدَ مَا حَدَّ لَهُمْ، وَاسْتَغْنَوْا بِمَا أَحَلَّ لَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ):
ذكَرَ المؤلِّفُ نِعْمةَ اللهِ على عبدِهِ مِن إيجادِهِ وكَفَالَتِهِ وتعليمِه، وذكَرَ دليلَ الخلقِ بقولِهِ:"وَنَبَّهَهُ بِآثَارِ صَنْعَتِهْ"؛ وهذا كثيرٌ في القرآنِ؛ يأمُرُ عبادَهُ بالنظَرِ والتفكُّرِ والسَّيْرِ في الأرضِ؛ لتدبُّرِ آياتِ اللهِ والتأمُّلِ فيها؛