الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكلُّ مَن صحَّ له العقلُ، آمَنَ أنَّ مَن ثبَتَ له كمالُ العلم، فإنه يثبُتُ له كمالُ التقدير، وهذا الكونُ والخلقُ بنظامِهِ ودِقَّتِهِ وثباتِه، وتلازُمِ أسبابِهِ بمسبَّباتِه، آمادًا لا يُحصِيهَا إلا اللهُ، لا يكونُ إلَّا بتمامِ علمٍ، وإحكامِ خلقٍ، ودِقَّةِ تقدير.
وقد جعَلَ اللهُ ذلك الخلقَ متلازِمًا مع العلمِ والتقدير؛ قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} [الطلاق: 12].
وإذا كان لله كمالُ العلمِ والقُدْرةِ، فذلك يُثبِتُ له التقديرَ؛ لأنه لا يقدِّرُ إلا عالمٌ قادر، ومَن نفى التقديرَ، فيُلزَمُ بنفيِ العلمِ والقُدْرةِ؛ فالقادرُ على خلقِ الأشياءِ هو الأعلَمُ بها؛ قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، وقال:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101]؛ والعالِمُ والقادِرُ هو المقدِّرُ لها أفعالَها، والمدبِّرُ لها أرزاقَها، ونظامَ حَيَاتِها؛ كما قال تعالى:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 3].
وقد كان غيرُ واحدٍ مِن الأئمَّةِ؛ كأحمدَ، يسمِّي القدَرَ:"قُدْرةَ اللهِ"(1).
وكان مالكٌ يشدِّدُ على مُنكِري القدَر، ويرى أنَّهم يُستتابُونَ: فإنْ تابوا، وإلا قُتِلُوا، وكان لا يَرَى الصلاةَ خَلْفَهم، ولا يَرَى تزويجَهم؛ ويستدِلُّ بقولِهِ تعالى:{وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221].
*
تقديرُ الخَيْرِ والشَّرّ:
وكلُّ شيءٍ بتقديرِ اللهِ؛ خيرًا كان أو شرًّا؛ كما في حديثِ جبريلَ؛
(1)"السُّنَّة" للخلال (904).
قال صلى الله عليه وسلم: (وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)(1)، ويُروَى في حديثِ جابرٍ؛ قال صلى الله عليه وسلم:(لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)(2).
واللهُ لا يقدِّرُ لعبادِهِ شرًّا محضًا، كما أنَّه لا يخلُقُ شرًّا محضًا ولا راجحًا على الخيرِ ولا مساوِيًا له، إلَّا وهو يَؤُولُ إلى خيرٍ في عمومِه، وقد يَرَى العبادُ وجهًا مِن وجوهِ التقدير، فيَرَوْنَ شرًّا محضًا أو غالبًا أو مساويًا، ويخفى عنهم ما لَوْ رأَوْهُ، لَعَلِموا عظيمَ خلقِ الله وتقديرِهِ وحكمتِه.
وقد شرَعَ اللهُ الاستعاذةَ مِن الشرِّ النِّسْبيِّ الذي يراهُ العبدُ مِن القضاءِ عليه؛ كما في "الصحيحَيْنِ"؛ قال صلى الله عليه وسلم: (تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ جَهْدِ البَلَاءْ، وَدَرَكِ الشَّقَاءْ، وَسُوءِ القَضَاءْ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءْ)(3).
والعقلُ قبلَ النقلِ دالٌّ على أنَّ الخالقَ لا يَخلُقُ شرًّا محضًا، بل يُقِرُّ بهذا فلاسفةٌ؛ كبَارُوخْ سِبِينُوزَا؛ كما في "الرسالةِ الموجَزةِ في الله والإنسان"، وكان مِن أصلٍ يهوديٍّ، فيَرَى بُدُوَّ الشرِّ في الدنيا؛ لأنَّ إدراكَ الناسِ ضعيفٌ محدودٌ؛ لكونِهِ ينظُرُ مِن ناحيةٍ؛ فينقُصُ نظرُهُ للأحداثِ؛ حيثُ يتلقَّى الشرَّ مِن ناحيتِهِ التي يَرَى فحسبُ.
ومَن لم يسلِّمْ للنقلِ، لم يَستقِرَّ له رأيٌ على قدَمٍ؛ فالعقولُ مهما بلَغَتْ، تتبايَنُ نتائجُها في الأمرِ الواحدِ:
فأَفْلَاطُونُ يَرَى الشرَّ مِن الجهل، ليس مِن الآلهةِ وتقديرِها، وسُقْراطُ ينفي القدَرَ كلَّه.
(1) مسلم (8) من حديث عمر.
(2)
الترمذي (2144).
(3)
البخاري (6347 و 6616)، ومسلم (2707) من حديث أبي هريرة.