الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم يكنِ السلفُ وأئمَّةُ الصَّدْرِ الأوَّلِ يَشُكُّونَ في خلقِ أفعالِ العباد، حتى قيل بنفيِ القدَرِ؛ فتَبِعَهُ القولُ بخلقِ العبادِ لأفعالِهم، وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللهَ خَلَقَ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ)(1)، وقال حُذَيْفةُ:"إِنَّ الله خَلَقَ صَانِعَ الْخَزَمِ وَصَنْعَتَهُ"(2).
وقد نشَأَ القولُ بنفيِ القدَرِ في المشرِقِ، ولم يكن معروفًا في المغرِبِ، حتى انتقَلَتْ أقوالُ المعتزِلةِ إلى المغرِبِ، وكان الأئمَّةُ يُنكِرُونَهُ على مَن أظهَرَهُ فيهم، وقد كان محمَّدُ بن سُحْنُونٍ يقولُ في رَدِّ قولِ بعضِ أهلِ الاعتزالِ:"الإقرارُ غيرُ مخلوقٍ، وما سوى ذلك مِن الأعمالِ مخلوقة"(3).
وجعَلَ الله للمكلَّفِينَ مشيئةً يختارونَ بها الخيرَ والشرَّ، ثُمَّ يُحاسِبُهم على ما اختارُوه، فإذا ارتفَعَ الاختيارُ منهم، ارتفَعَ التكليفُ عليهم؛ كالفَرْقِ بين القائِمِ والنائِم، والعاقِلِ والمجنون، والعامِدِ والمخطِئ، والذاكِرِ والناسي، والعالِمِ والجاهِل؛ فهؤلاءِ قد يتساوَى تصرُّفهم في الظاهِرِ بالذنبِ بفعلِ المحظور، وتركِ المأمور؛ فيُحاسَبُ الأوَّلُ، ولا يُحاسَبُ الثاني؛ لأنَّ الاختيارَ في الأوَّلِ وُجِدَ، وفي الثاني فُقِدَ؛ فتَبِعَهُ الحسابُ والعقابُ، وجودًا وعدَمًا.
*
أمرُ اللهِ ونهيُهُ وقدَرُهُ، وتوهُّمُ بعضِ النفوسِ الظُّلْمَ:
وقد توهَّمَتِ القَدَريَّةُ -مِن المعتزِلةِ وغيرِهم-: أنَّ القولَ بإثباتِ القدَرِ يَلزَمُ منه القولُ بظلمِ الله لعبادِهِ؛ فيكونُ ذلك حُجَّةً للعبادِ على
(1)"خلق أفعال العباد"(124)، و"السُّنَّة" لابن أبي عاصم (357 و 358) من حديث حذيفة؛ مرفوعًا.
(2)
"خلق أفعال العباد"(125).
(3)
"رياض النفوس"(1/ 454).
ربِّهم؛ فيريدون تنزيهَ اللهِ عن فعلِ القبيحِ مِنَ الظلمِ والتعسُّف؛ فنفَوُا القدَرَ بشيءٍ متوهَّم دخَلُوا فيه؛ فشبَّهوا قدَرَ الله بإكراهِ المخلوقِ للمخلوق.
والتشبيهُ المتوهَّمُ: أصلُ ضلالِ الفِرَقِ في الله، وفي أسمائِهِ وصفاتِه؛ قال الله مثبِتًا لِقَدَرِهِ:{كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال مثبِتًا لحُجَّتِهِ التامَّةِ على الخلقِ:{فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149]، وقال نافيًا الظلمَ عن نفسِهِ:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
ولا يَلزَمُ مِن إثباتِ ما في هذه الآياتِ القولُ بالتناقُض، وقد كان توهُّمُ الظلمِ يقَعُ في بعضِ النفوسِ حتى في الصدرِ الأوَّلِ؛ وذلك لضعفِ العقلِ وقصورِهِ عن فهمِ دقائقِ القدَرِ وسِرِّه:
ففي "صحيح مسلم"، عن أبي الأسوَدِ الدِّيَلِيِّ؛ قال: "قال لي عِمْرانُ بن الحُصَيْنِ: أَرَأَيْتَ ما يَعمَلُ الناسُ اليَوْمَ، ويَكدَحُونَ فيه؛ أَشَيْءٌ قُضِيَ عليهم، ومَضَى عليهم مِن قَدَرٍ مَّا سبَقَ، أو فيما يَستقبِلُونَ به مما أَتَاهُمْ به نبيُّهم، وثبَتَتِ الحُجَّةُ عليهم؟
فقلتُ: بل شيءٌ قُضِيَ عليهم، ومَضَى عليهم.
قال: فقال: أفلا يكونُ ظُلْمًا؟
قال: ففَزِعْتُ فَزَعًا شديدًا، وقلتُ: كلُّ شيءٍ خَلْقُ الله، ومِلْكُ يَدِهِ؛ فـ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
فقال لي: يَرْحَمُكَ اللهُ؛ إنِّي لم أُرِدْ بما سأَلْتُكَ إلَّا لِأَحْزِرَ عَقْلَكَ" (1).
وكان الأئمَّةُ مِن السلَفِ -ومَن تَبِعَهم مِن أهلِ الحديثِ والفقهِ والعربيَّةِ- يُدرِكُونَ أنْ لا تناقُضَ بين الإيمانِ بالقدَر، وبين إيجابِ العمَلِ
(1) مسلم (2650).