الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحياةُ في هذه الذواتِ صفةٌ حقيقيَّةٌ؛ فتقولُ: حَيِيَتِ الأرضُ وماتَتْ، وحَيِيَتِ الشَّجَرةُ وماتَتْ، وحَيِيَ الإنسانُ وماتَ، وإثباتُ الحقيقةِ لهذه الذواتِ لا يعني تشبيهًا؛ فحياةُ كلِّ ذاتٍ تَختلِفُ عن الأُخرَى، وكذلك في بقيَّةِ الصفاتِ اللازِمةِ للذاتِ، والصفاتِ الفعليَّةِ المتعلِّقةِ بالمشيئة.
وتوهُّمُ أنَّ إثباتَ الحقيقةِ يَلزَمُ منه التشبيهُ، هو الذي حمَلَ بعضَ الطوائفِ على القولِ بالتفويضِ والتعطيلِ؛ ففَرُّوا مِن باطلٍ إلى باطِل، وفَهِمُوا آيةَ نفيِ التشبيهِ والتمثيلِ على غيرِ وَجْهِها؛ فغَلَوْا في معناها غلوًّا حَمَلَهم على القولِ بالبدعة؛ فنَفَوْا أصلَ الحقيقةِ للصفاتِ؛ خوفًا مِن إثباتِ الحقيقةِ المشابِهةِ؛ حتى قال أحمدُ في "الردِّ على الزنادقة":"قالوا: هو شيءٌ لا كالأشياءِ! فقلنا: إنَّ الشيءَ الذي لا كالأشياء، قد عرَفَ العقلُ أنه لا شيءَ؛ فعند ذلك: تَبَيَّنَ أنَّهم لا يُثبِتُونَ شيئًا بشيءٍ، ولكنَّهم يَدْفَعُونَ عن أنفُسِهم الشِّنْعةَ بما يُقِرُّونَ مِنَ العلانيَةِ"(1)؛ واللازمُ لنَفْيِ حقيقةِ الصِّفات: تعطيلُ الذاتِ والتشبيهُ بالمعدومات، ولا يَلزَمُ لإثباتِ الحقيقةِ: التشبيهُ، كما قال محمَّدٌ الكَرْجِيُّ القَصَّاب في "نُكَت القرآن"(2).
*
تاريخ مَذهَبِ التفويض:
ولا يُعرَفُ في أقوالِ أحدٍ مِن الصحابةِ ولا التابِعِينَ ولا أتباعِهم: تفويضُ حقيقةِ الصفات، وإنْ أخَذَ مَن لم يَعرِفْ مَناهِجَهم بعضَ إطلاقاتِهم، فحمَلَها على التفويض، فهؤلاءِ إنما أخَذُوا اللفظَ المحتَمِلَ، ولم يَعرِفُوا سياقَهُ، ولا المواضعَ الأُخرى القاطِعةَ بتفسيرِه.
وإنْ كان بعضُ الأئمَّةِ مِن أهلِ السُّنَّةِ يُشيرُ إلى اعتقادِ بعضِ الناسِ
(1)"الرد على الجهمية والزنادقة"(ص 99).
(2)
(4/ 68).
في القرنِ الثالثِ للتفويضِ؛ كما أشار إليه الدارِميُّ في "ردِّه على بِشْرٍ المَرِيسِيِّ"، وإنما اشتَهَرَ التفويضُ في قولِ الكُلَّابيَّةِ؛ يريدون التوسُّطَ بين المعطِّلةِ والمشبِّهة؛ فيَسلَمُون مِن الطائفتَيْنِ: بتفويضِ حقائقِ الصفاتِ ومَعانِيها، مع أنَّ المفوِّضةَ في الحقيقة معطِّلةٌ؛ فما سَلِموا بالتفويضِ من التعطيل، وظهَرَ التفويضُ في قولِ أبي منصورٍ الماتُرِيدِيِّ في خُراسَانَ، وأبي الحسَنِ الأَشْعَريِّ في العِرَاقِ في "رسالتِهِ إلى أهلِ الثَّغْر"، وقد كتَبَها قبلَ كتابِهِ:"الإبانة".
واللهُ تعالى أنزَلَ كتابَهُ لِيُتدبَّرَ وهو معلومُ المعنى، ولم يذكُرْ أحدٌ مِن الصحابةِ والتابعينَ وأتباعِهم مِن المفسِّرينَ وغيرِهم: أنَّ آياتِ الصفاتِ مِن المتشابِهِ الذي لا يجوزُ الكلامُ في تفسيرِه وبيانِ مَعَانِيه، بل صحَّ عن ابن عبَّاسٍ: أنه جعَلَها مِن المُحْكَمات؛ وذلك لمَّا سَمِعَ رجلٌ بحديثٍ في الصفاتِ، فانتَفَضَ، فقال ابنُ عبَّاس:"مَا فَرَقُ هَؤُلَاءِ؟ ! يَجِدُونَ عِنْدَ مُحْكَمِه، وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ! "(1)؛ و"يَجِدُونَ"؛ يعني: يَغضَبُونَ (2).
ومَن فوَّض الصفاتِ، ولم يُثبِتْ لها حقيقتَها، وجعَلَ غايةَ الإيمانِ بآياتِ الصفاتِ الإيمانَ بحروفِها -: فقد خالَفَ المَقصِدَ مِن التنزيل، وجعَلَ عربيَّةَ القرآنِ لا معنَى لها؛ فالإيمانُ بالحروفِ لا يَختلِفُ فيه العَرَبيُّ والأعجميّ.
واللهُ سمَّى كتابَهُ مُبِينًا مفصَّلًا، وأمَرَ بتدبُّرِه، وجعَلَ لعربيَّتِهِ مَيْزةً وخَصِيصة، وهي معرفةُ المعاني وحقائقِها؛ فقال:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]، وقال:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]،
(1)"جامع معمر"(20895)، و "السُّنَّة" لابن أبي عاصم (485)، و"ذم الكلام" للهروي (193).
(2)
"النهاية" لابن الأثير (5/ 155).