الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومِن أئمَّةِ السلفِ: مَن يريدُ بالمعنى: التكييفَ؛ فينفيهِ؛ كما سُئِلَ يزيدُ بن هارونَ عن معنى حديثٍ في الصفاتِ، فغَضِبَ وحَرَدَ، وقال:"وَيْلَكَ مَن يَدرِي كيفَ هذا؟ ! "(1).
فجعَلَ سؤالَهُ عن المعنَى سؤالًا عن الكَيْفِ؛ لأنَّه فَهِمَ مقصودَ السائلِ على ذلك، ومعرِفةُ سِيَاقاتِ كلامِ الأئمَّةِ مفسِّرةٌ لألفاظِهِمُ المتبايِنةِ في الاستعمالِ؛ بحسَبِ مَوْضِعِها، وحملُها على معنًى واحدٍ متطابِقٍ باطلٌ، والسلفُ كانوا يَسكُتُونَ عن آياتِ الصفاتِ؛ لأنَّ إثباتَ الحقيقةِ مستقِرٌّ في نفوسِهم؛ وقد قال مالكٌ واصفًا أهلَ البِدَعِ:"ولا يَسْكُتُونَ عمَّا سكَتَ عنه الصحابةُ".
ولا يَلزَمُ مِن تنزيهِ الله عن التشبيهِ نفيُ الحقيقةِ في صفاتِ الله تعالى؛ كما لا يَلزَمُ مِن إثباتِ الحقيقةِ التشبيهُ، وما زال العلماءُ يَحترِزُونَ مِن هذا الفهمِ كلٌّ بحسَبِ تعبيرِه، ولمَّا أثبَتَ عبدُ الغنيِّ المَقْدِسِيُّ الاستواءَ، قال:"بلا تنزيهٍ ينفي حقيقةَ النزولِ"(2)؛ دفعًا لتوهُّمِ التعطيلِ والتفويض.
والمفوِّضةُ سكَتُوا عمَّا سكَتَ عنه الصحابةُ من التكييفِ والتأويل المخالِف لظاهِرِ اللفظ، ونَفَوْا مع السكوتِ: ما أثبَتَهُ الصحابةُ مِن الحقائقِ والمعاني.
*
روايةُ الأئمة لأحاديث الصِّفات، واحترازُهم مِن سوء فهمِها:
والسلَفُ يُثبِتُونَ حقائقَ الصفاتِ ومَعانِيَها الصحيحةَ بالإجماع؛ وهذا ما جاءت به النصوصُ، ويفرِّقُونَ بين سياقاتِ الأقوال، والزَّمَنِ الذي تَنتشِرُ فيه البِدَعُ عن غيرِه:
(1)"عقيدة السلف" للصابوني (ص 65).
(2)
"الاقتصاد في الاعتقاد"(ص 100).
فربَّما منَعُوا روايةَ حديثٍ صحيحٍ؛ خشيةَ فَهْمِهِ على غيرِ وَجْهِه، وربَّما حظَرُوا إطلاقَ لفظةٍ واردةٍ؛ لأنَّ فهمَ الناسِ قد تَغيَّرَ، ولم يكونوا على السليقةِ الأُولَى؛ فتعامَلُوا مع فهم، لا مع مجرَّدِ النصِّ؛ وهذا مِن الفقهِ والحِكْمة، وربما جاء مزيدُ توضيحِ بإشارةٍ أو عبارةٍ تناسِبُ أذهانَ السامعينَ عند الحديث.
ومِن ذلك: أنه جاء في الإشارةِ باليَدِ إلى عُضْوٍ في الإنسانِ أو غيرِهِ؛ لإثباتِ صفةِ مِن الصفاتِ الإلهيَّةِ؛ وذلك لإثباتِ حقيقتِها، لا للتشبيهِ؛ كما جاء مِن حديثِ أبي هُرَيْرةَ؛ أنه قرَأَ قولَهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا
…
} [النساء: 58]، إلى قولِهِ تعالى:{سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، ثُمَّ قال:"رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِه، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:"رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا، وَيَضَعُ إِصْبَعَيْهِ"(1).
ومرادُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: إثباتُ حقيقةِ السمع والبصر، لا التشبيهُ.
وهكذا فَهِمَهُ السلفُ؛ كما قال ابنُ يُونُسَ: "قال المُقرِئُ (2)؛ يعني: إنَّ اللهَ سميعٌ بصيرٌ؛ يعني: أنَّ للهِ سَمْعًا وبَصَرًا"(3).
وجعَلَهُ أبو داودَ رَدًّا على المعطِّلة، فقال:"هذا رَدٌّ على الجهميَّة"(4).
ولم يَجعَلُوهُ حُجَّةً للمشبِّهة، بل هم يَنقُضُونَ قولَهم وَيرُدُّونَهُ؛ فهم يَعرِفُونَ سياقاتِ الأدلَّةِ، والمرادَ منها، والجمعَ بينها وبين بقيَّةِ النصوصِ في الباب.
(1) أبو داود (4728).
(2)
هو: عبد الله بن يزيد المقرئ.
(3)
أبو داود (4728).
(4)
الموضع السابق.
وجاء في معنى ذلك: حديثٌ في صِفَةِ التجلِّي؛ مِن حديثِ أنَسٍ عندَ التِّرْمِذيِّ (1)، وفي صفةِ القبضِ للأرضِ والطَّيِّ للسمواتِ؛ مِن حديثِ ابنِ عُمَرَ عند أحمدَ (2)، وأصلُهُ في مسلِم (3)، وفي وضعِ الأرضِ على إصبَعٍ، والسماءِ على إِصْبَعٍ؛ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ عند أحمدَ والتِّرْمِذيِّ (4)، وبنحوِهِ مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ (5)، وأصلُهُ في البخاريِّ (6)، وقد حدَّث به يحيى بنُ سعيدٍ أحمدَ بنَ حنبلٍ وأشارَ بإصبعِه، وحدَّث به أحمدُ ابنَه عبدَ الله وأشار بإصبعِه (7).
وهذه الأحاديثُ لا تَخفَى على الأئمَّةِ؛ كمالكٍ، وأحمدَ؛ كيف وقد رَوَوْا بعضَها، ويَعلَمُونَ المقصودَ منها.
ومع ذلك: فإنَّهم نهَوْا عن الإشارةِ باليَدِ عند الحديثِ عن صفاتِ الرَّبِّ؛ لاختلافِ الفهم، وضعفِ اللسانِ؛ فتَبِعَها ضعفُ إدراكِ المعنى المراد، وربَّما اختلَفَ قولُهم مِن حالٍ إلى حال، ومِن سياقٍ إلى سياق؛ وقد قال مالكٌ:"مَن وصَفَ شيئًا مِن ذاتِ اللهِ؛ مثلُ قولِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وأشار بيَدِهِ إلى عُنُقِه، ومثلُ قولِهِ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فأشارَ إلى عَيْنَيْهِ وأذُنَيْهِ، [أو شَيْءٍ] مِن بدَنِهِ -: قُطِعَ ذلك منه؛ لأنَّه شَبَّهَ اللهَ بِنَفْسِه"(8).
وقد قرَأَ رجلٌ عند أحمدَ قولَهُ تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ
(1) الترمذي (3074).
(2)
أحمد (2/ 72) رقم (5414).
(3)
مسلم (2788).
(4)
أحمد (1/ 251 و 324 رقم 2267 و 2988)، والترمذي (3240).
(5)
أحمد (1/ 378 و 429 و 457 رقم 3590 و 4087 و 4368)، والترمذي (3238 و 3239).
(6)
البخاري (4811)، ومسلم (2786).
(7)
"السُّنَّة" لعبد الله (489).
(8)
"التمهيد"(7/ 145).
جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، ثُمَّ أومَأَ بيَدِهِ، فقال له أحمدُ:"قطَعَها اللهُ! قطَعَها اللهُ! "، ثُمَّ حرَدَ وقام (1).
مع أنَّه قد روَى الخَلَّالُ في "كتاب السُّنَّة"، عن أبي بكرٍ المَرْوَزِيّ، عن أحمَد؛ أنه روَى حديثَ وضعِ السماءِ والأرضِ وغيرِها، كلَّ واحدٍ على إِصْبَعٍ، وقال:"ورأيتُ أبا عبد اللهِ يُشِيرُ بِإصْبَعٍ إِصْبَعٍ"(2).
ومِثْلَهُ فعَلَ الأَعمَشُ (3)، وسُفْيانُ الثَّوْريُّ، عند حديثِ وضعِ القلوبِ بين إِصْبَعَيْنِ مِن أصابعِ الرحمنِ (4)، وجاء ذلك مِن فعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الدارَقُطْنيِّ في "الصفاتِ"(5).
وقصدُ الأئمَّةِ -كمالكٍ، وأحمدَ- في نَهْيِهم عن التحديثِ ببعضِ الحديثِ، والتحديثِ مع الإشارةِ، ولو كان واردًا وصحيحًا-: خوفُ تغريرِ العامَّة؛ وعليه نصَّ مالكٌ لمَّا سُئِلَ عن حديثِ: (إنَّ العَرْشَ اهْتَزَّ لِمَوْتِ سَعْدٍ)(6)، قال:"لا يُتحدَّثْ به، وما يدعو الإنسانَ إلى الحديثِ بذلكَ، وهو يَرَى ما فيه مِن التغرير؟ ! "(7).
وحديثُ اهتزازِ العرشِ في "الصحيحَيْنِ"، ولكنَّ صِحَّتَهُ بابٌ، وفَهْمَهُ بابٌ آخَر؛ فما كلُّ صحيحٍ يَصِحُّ التحديثُ به، وقد كان مالكٌ ربَّما وصَفَ مَن يَفعَلُ ذلك بعدَمِ الفقهِ؛ فقد سُئِلَ عمَّن تحدَّث بالحديثِ:(إِن اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ)(8)، و (إِنَّ اللهَ يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ يَوْمَ
(1)"شرح أصول الاعتقاد"(739).
(2)
"فتح الباري"(13/ 397).
(3)
"سنن ابن ماجه"(3834).
(4)
"حديث سفيان"(297).
(5)
"الصفات"(41) من حديث جابر، و (42) من حديث أنس.
(6)
البخاري (3803)، ومسلم (2466) من حديث جابر.
(7)
"المنتقى"(1/ 357).
(8)
البخاري (6227)، ومسلم (2841) من حديث أبي هريرة.
القِيَامَةِ) (1)، و "إنَّه يُدْخِلُ يَدَهُ فِي جَهَنَّمَ، فيُخْرِجُ مِنْهَا مَنْ أَرَادَ"(2)؟ فأنكَرَ ذلك إنكارًا شديدًا، ونهى أن يُحدَّثَ به، قيل: قد تَحدَّثَ به ابنُ عَجْلانَ؟ قال: لم يكنْ مِن الفُقَهاءِ (3).
ورُبَّما امتَنَع أحمدُ عن التحديث ببعضِ الحديثِ الصحيح، بل: ما تلقَّتْه العلماءُ بالقَبُول -كحديثِ جابرٍ مرفوعًا، وفيه: (فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ
…
) (4) - كان أحمدُ يَصِفُه بأن العلماءَ تلقَّتْه بالقبول، ومع هذا يقول:"ما أعلَمُ أني حدَّثتُ به إلا لمحمدِ بنِ داودَ المصِّيصِي"(5)؛ وسببُ ذلك -كما قال أحمد- أنه شُنِّعَ به.
والأئمَّةُ عند إرادةِ الإثباتِ يَختلِفُونَ في طَرِيقَتِهم عند النفيِ؛ فربَّما تجوَّزوا بعبارةٍ وإشارةٍ لإثباتِ الحقيقةِ، وإيصالِ المرادِ مِن النصِّ للسامع، وليس مرادُهُمُ التشبيهَ؛ فسياقاتُ الكلامِ لا بُدَّ مِن مَعرِفَتِها لتمييزِ الألفاظ؛ وقد سُئِلَ ابنُ إِدْرِيسَ عن قومٍ يقولون:"القرآنُ مخلوقٌ"؟ فاستشنَعَ ذلك، وقال:"سُبْحانَ اللهِ! شَيْءٌ منه مخلوقٌ! "، وأشار بِيَدِهِ إلى فِيهِ (6).
وأراد بهذا: إثباتَ الحقيقةِ، لا إثباتَ الفَمِ والشفتَيْنِ، واللسانِ واللَّهَاة، والحاجةِ إلى الهواء، وغيرِ ذلك.
(1) البخاري (4919)، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد.
(2)
البخاري (7439)، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد.
(3)
"التمهيد"(7/ 150)، و "ترتيب المدارك"(2/ 44).
(4)
"تفسير الطبري"(15/ 604)، و "الايمان" لابن منده (2/ 823)، و "إبطال التأويلات"(202 - 204).
(5)
"إبطال التأويلات"(212).
(6)
"السُّنَّة" لعبد الله (30).