المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ رواية الأئمة لأحاديث الصفات، واحترازهم من سوء فهمها: - المغربية في شرح العقيدة القيروانية

[عبد العزيز الطريفي]

فهرس الكتاب

- ‌ فضلُ العلم وأفضَلُه:

- ‌ حفظُ العقلِ والنقلِ:

- ‌ فضلُ قُرْبِ الزمانِ والمكانِ الأوَّلِ:

- ‌ المَغرِبُ في زمَنِ الصحابةِ والتابعين:

- ‌ السُّنَّةُ والأثَرُ وعلمُ الكلامِ في المَغرِب:

- ‌ أثَرُ المَشرِقِ على المَغرِب:

- ‌ فلسفة اليُونان وأثَرُها على المتكلِّمِين:

- ‌ اعتقاد أهلِ المغرب:

- ‌ وجودُ الاعتزالِ في المغرِبِ، وموقفُ العلماءِ منه:

- ‌ بدايةُ رَدِّ المغاربةِ على المشارِقةِ في الفروعِ لا في الأصول:

- ‌ أسبابُ تأخُّرِ ذيوعِ علمِ الكلامِ في المَغرِب:

- ‌ أسبابُ انتشارِ علمِ الكلامِ في المَغرِب:

- ‌ أثَرُ الاعتزالِ في قَبُولِ علمِ الكلامِ على طريقةِ الأشاعِرةِ:

- ‌ مراتبُ المخالفينَ تقتضي مدحَ الأقرَبِ واللِّينَ معه:

- ‌ كتابةُ أهلِ المَغرِبِ في العقائد:

- ‌ أصولُ مالكٍ وفروعُهُ، وأحوالُ أصحابِهِ في المَغرِب:

- ‌ الحديثُ والكلام، وأثرهما في الخلاف:

- ‌ ثباتُ أهلِ المغربِ، وامتحانُهم بعلمِ الكلام:

- ‌ التأويلُ والتفويضُ في كلامِ بعضِ أهلِ السُّنَّة:

- ‌ علمُ الكلامِ والإمامُ مالكُ بن أَنَس:

- ‌ الرأيُ وعِلْمُ الكلام:

- ‌ نهيُ مالكٍ عن علمِ الكلامِ، ومرادُه:

- ‌ الاسترسالُ في علمِ الكلامِ وأثُره:

- ‌ التعرُّف على الله بعلم الكلام يورِثُ الوحشة:

- ‌ اعتقادُ السلفِ في الصفاتِ:

- ‌ اللغةُ وعلمُ الكلام، وأسبابُ انتشارِ البِدْعة:

- ‌ خطأ المتكلِّمينَ في استعمال اللغة:

- ‌ سَعَةُ الحلال، وضِيقُ الحرام:

- ‌ بيانُ المؤلِّفِ لمُوجِبِ التأليف:

- ‌ فضلُ الصلاةِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومَواضِعُه:

- ‌ حكمُ الصلاةِ على غيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌ مُجمَلُ اعتقِادِ أهلِ السُّنَّةِ في اللهِ تعالى:

- ‌ حكمُ التفكُّرِ في ذات الله:

- ‌ أنواعُ ظاهرِ الصفاتِ:

- ‌ معرِفةُ اللهِ بآياتِه الكونية:

- ‌ سببُ الوقوع في الشِّرك:

- ‌ عقيدةُ التفويض:

- ‌ تاريخ مَذهَبِ التفويض:

- ‌ نسبةُ التفويضِ للسَّلَفِ:

- ‌ الغُلُوُّ في التنزيهِ يؤدِّي إلى توهُّم التعظيم في التفويضِ والتعطيل:

- ‌ روايةُ الأئمة لأحاديث الصِّفات، واحترازُهم مِن سوء فهمِها:

- ‌ توهُّمُ اللوازمِ الباطِلةِ يُفضِي إلى التفويضِ والتأويلِ والتعطيل:

- ‌ العلوُّ والمَعِيَّة:

- ‌ نفيُ بعضِ الصفات لأجل توهُّم إحاطةِ المخلوقاتِ بالخالق:

- ‌ الاستواءُ على العَرْش:

- ‌ الكُرْسِيّ:

- ‌ إحاطةُ عِلْمِ اللهِ بكلِّ شيء:

- ‌ عودةٌ إلى الكلامِ على استواءِ اللهِ على العَرْش:

- ‌ الحذرُ مِن التشبيه، وحكمُ التعبيرِ عن الصفات بما لم يَرِدْ في الشريعةِ مِن الإشارةِ والكَلَام:

- ‌ الأسماء والصفات:

- ‌ ما وَرَدَ مِن الأسماءِ والصفاتِ عن الصحابةِ والتابِعِين:

- ‌ أسماءُ اللهِ:

- ‌ حقيقةُ الصفاتِ:

- ‌ الإقرار بإثبات الصفة يُبطِلُ التفويض:

- ‌ كلامُ اللهِ:

- ‌ شِدَّة مالك وأصحابِه على القول بخَلْقِ القرآن:

- ‌ ظهورُ القول بخَلقِ القرآن في المغرب:

- ‌ أصلُ فِتنة خَلْق القرآن، والكلام النَّفْسي:

- ‌ الحَرْفُ والصَّوْت:

- ‌ من حُجَجِ نُفَاةِ الصوت والحرف لله:

- ‌ الواقفةُ في خَلْقِ القرآن، وسببُ التشديد عليهم:

- ‌ مِن أدلة القائلينَ بخَلقِ القرآن:

- ‌ صفةُ التَّجَلِّي للهِ تعالى:

- ‌ صِفَةُ نُزولِ الله تعالى:

- ‌ القرآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوق:

- ‌ الإيمانُ بالقَدَرِ:

- ‌ تقديرُ الخَيْرِ والشَّرّ:

- ‌ لا يُنسَبُ الشرُّ إلى الله:

- ‌ الجدالُ في القَدَرِ:

- ‌ أفعالُ العِبَادِ وخَلْقُها:

- ‌ أمرُ اللهِ ونهيُهُ وقدَرُهُ، وتوهُّمُ بعضِ النفوسِ الظُّلْمَ:

- ‌ العلمُ بالأسباب لا يُخرِجُ صاحبَه مِن قَدَرِ الله:

- ‌ عِلْمُ اللهِ بكلِّ شيءٍ:

- ‌ مشيئةُ اللهِ وقدرتُهُ على خلقِ أفعالِ العِبَادِ:

- ‌ المُخالِفونَ في القَدَر:

- ‌ الحتميَّةُ السَّبَبِيَّةُ:

- ‌ نفيُ القَدَر يَلزَمُ منه العجز:

- ‌ رسالةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكتابُه:

- ‌ خِتَامُ رسالةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للرِّسالات:

- ‌ حكمُ اتِّباعِ دِينٍ غيرِ الإسلام:

- ‌ والكفرُ -حينئذٍ- جاء مِن جهاتٍ، أعظَمُها:

- ‌ الإسلامُ وحُرِّيَّةُ الدِّين:

- ‌ شُبُهاتٌ في حُرِّيَّةِ تَركِ الإسلام:

- ‌ الإيمانُ بالكُتُبِ السماويَّة، والحِكْمةُ مِن إرسالِ الرسلِ:

- ‌ مصدرُ تفسير القرآن:

- ‌ الإيمانُ بالقيامةِ وما فيها:

- ‌ النَّفْخ في الصُّور:

- ‌ بعثُ الأجسادِ وجزاؤُها:

- ‌ أشراطُ الساعةِ:

- ‌ تنزيلُ أشْراطِ الساعةِ عَلَى الواقعِ:

- ‌ الحسابُ والعقابُ:

- ‌ حكمُ مَن ماتَ ولم يَتُبْ مِن ذَنْبِه:

- ‌ مصيرُ مَن دخَلَ النارَ مِن عُصاةِ المُسلِمِين:

- ‌ وخالَفَ في هذا الخوارجُ والمعتزِلةُ، والمرجِئةُ:

- ‌ الشفاعةُ وأحكامُها:

- ‌ رؤيةُ اللهِ في الآخِرة:

- ‌ الجَنَّةُ والنَّارُ، ولِمَنْ أَعَدَّهُما اللهُ:

- ‌ خَلْقُ الجَنَّةِ والنارِ:

- ‌ خُلود الجَنَّة والنار:

- ‌ صفةُ المجيءِ للهِ:

- ‌ المِيزَانُ والوَزْن:

- ‌ صحائفُ الأعمال، وكيفيَّةُ استلامِها يومَ القيامة:

- ‌ الصراطُ وأحوالُ الناسِ فيه:

- ‌ الحَوْضُ المورودُ:

- ‌ حقيقةُ الإيمان:

- ‌ والطوائِفُ المخالِفةُ في هذا البابِ على سبيلِ الإجمالِ طائفتان:

- ‌ أسبابُ الافتتانِ برَأْيِ الخوارِج:

- ‌ الصِّفَةُ الجامِعةُ للخَوارجِ:

- ‌ الموقِفُ عند اجتماع الضلالات:

- ‌ المُوازنةُ بين المُرجِئَةِ والخَوارجِ:

- ‌ زيادةُ الايمانِ ونقصانُه:

- ‌ زوال الإيمان وكماله:

- ‌ نُقصان الإيمان عند مالك:

- ‌ الاستثناءُ في الإيمانِ:

- ‌ الإيمانُ قولٌ وعمَل:

- ‌ حكمُ تاركِ العمل كلِّه:

- ‌ أَثَرُ إِخْرَاجِ العَمَلِ مِن الإِيمانِ:

- ‌ التكفيرُ بالذنوبِ، وأحوالُ الطوائفِ:

- ‌ أرواحُ المَوْتَى وأحوالُها:

- ‌ القَبْرُ وفِتْنَتُهُ:

- ‌ كتابةُ الأعمالِ على المكلَّفين

- ‌ الأرواحُ وقَبْضُها:

- ‌ فضلُ خيرِ القُرُون:

- ‌ معنى القَرْن:

- ‌ فضلُ الصحابةِ، وتفاضُلُهُمْ:

- ‌ الوقوعُ في الصَّحَابةِ:

- ‌ التفاضُلُ بين الصحابةِ:

- ‌ التوسُّع في التفضيل بين الصحابة:

- ‌ ظُهورُ الطَّعْنِ في الصحابةِ في المَغْربِ:

- ‌ ما شجَرَ بين الصحابة:

- ‌ امتحانُ أهلِ المَغْربِ بالصحابةِ:

- ‌ فِتْنةُ الرَّافضةِ إذا تمكَّنُوا:

- ‌ الطاعةُ لأئمَّةِ المسلِمِينَ بالمعروفِ:

- ‌ الخُرُوجُ على الأَئِمَّةِ وأحوالُه:

- ‌ نُصحُ الأَئِمَّةِ:

- ‌ الخطأُ في نُصوص السَّمْع والطاعة:

- ‌ ابتلاءُ المُصلِح:

- ‌ تجرُّد المُصلِح:

- ‌ فضلُ السَّلَفِ واتِّباعِهم:

- ‌ سببُ تَفْضِيلِ السَّلفِ:

- ‌ تعظيمُ فقه الصَّحَابَةِ:

- ‌ الاستدلالُ بحديثٍ يخالِفُ الصحابةَ:

- ‌ حقيقةُ العملِ الذي يقدَّمُ عَلى الحديثِ:

- ‌ تركُ المِرَاءِ والجِدَالِ:

- ‌ طُرُقُ معرفةِ حقِّ الله:

- ‌ المجتهِدُ ببِدْعة:

- ‌ التحذيرُ مِن الجِدَالِ والمِرَاءِ في الدِّين:

- ‌ حسنُ القصدِ وسُوءُهُ، وأثَرُهُ على فهمِ القرآن:

- ‌ هَجْرُ الجِدَالِ والمِرَاءِ وأهلِهِ:

- ‌فهرس الآثار وأقوال الأئمة والعلماء

- ‌فهرس القواعد والكليات

- ‌معجم الموضوعات ورؤوس المسائل

- ‌فهرس المذاهب والأقوال

- ‌فهرس حكمة التشريع ومقاصد الشريعة

- ‌فهرس الحكم والأمثال ومأثور الأقوال

- ‌فهرس الفوائد

الفصل: ‌ رواية الأئمة لأحاديث الصفات، واحترازهم من سوء فهمها:

ومِن أئمَّةِ السلفِ: مَن يريدُ بالمعنى: التكييفَ؛ فينفيهِ؛ كما سُئِلَ يزيدُ بن هارونَ عن معنى حديثٍ في الصفاتِ، فغَضِبَ وحَرَدَ، وقال:"وَيْلَكَ مَن يَدرِي كيفَ هذا؟ ! "(1).

فجعَلَ سؤالَهُ عن المعنَى سؤالًا عن الكَيْفِ؛ لأنَّه فَهِمَ مقصودَ السائلِ على ذلك، ومعرِفةُ سِيَاقاتِ كلامِ الأئمَّةِ مفسِّرةٌ لألفاظِهِمُ المتبايِنةِ في الاستعمالِ؛ بحسَبِ مَوْضِعِها، وحملُها على معنًى واحدٍ متطابِقٍ باطلٌ، والسلفُ كانوا يَسكُتُونَ عن آياتِ الصفاتِ؛ لأنَّ إثباتَ الحقيقةِ مستقِرٌّ في نفوسِهم؛ وقد قال مالكٌ واصفًا أهلَ البِدَعِ:"ولا يَسْكُتُونَ عمَّا سكَتَ عنه الصحابةُ".

ولا يَلزَمُ مِن تنزيهِ الله عن التشبيهِ نفيُ الحقيقةِ في صفاتِ الله تعالى؛ كما لا يَلزَمُ مِن إثباتِ الحقيقةِ التشبيهُ، وما زال العلماءُ يَحترِزُونَ مِن هذا الفهمِ كلٌّ بحسَبِ تعبيرِه، ولمَّا أثبَتَ عبدُ الغنيِّ المَقْدِسِيُّ الاستواءَ، قال:"بلا تنزيهٍ ينفي حقيقةَ النزولِ"(2)؛ دفعًا لتوهُّمِ التعطيلِ والتفويض.

والمفوِّضةُ سكَتُوا عمَّا سكَتَ عنه الصحابةُ من التكييفِ والتأويل المخالِف لظاهِرِ اللفظ، ونَفَوْا مع السكوتِ: ما أثبَتَهُ الصحابةُ مِن الحقائقِ والمعاني.

*‌

‌ روايةُ الأئمة لأحاديث الصِّفات، واحترازُهم مِن سوء فهمِها:

والسلَفُ يُثبِتُونَ حقائقَ الصفاتِ ومَعانِيَها الصحيحةَ بالإجماع؛ وهذا ما جاءت به النصوصُ، ويفرِّقُونَ بين سياقاتِ الأقوال، والزَّمَنِ الذي تَنتشِرُ فيه البِدَعُ عن غيرِه:

(1)"عقيدة السلف" للصابوني (ص 65).

(2)

"الاقتصاد في الاعتقاد"(ص 100).

ص: 100

فربَّما منَعُوا روايةَ حديثٍ صحيحٍ؛ خشيةَ فَهْمِهِ على غيرِ وَجْهِه، وربَّما حظَرُوا إطلاقَ لفظةٍ واردةٍ؛ لأنَّ فهمَ الناسِ قد تَغيَّرَ، ولم يكونوا على السليقةِ الأُولَى؛ فتعامَلُوا مع فهم، لا مع مجرَّدِ النصِّ؛ وهذا مِن الفقهِ والحِكْمة، وربما جاء مزيدُ توضيحِ بإشارةٍ أو عبارةٍ تناسِبُ أذهانَ السامعينَ عند الحديث.

ومِن ذلك: أنه جاء في الإشارةِ باليَدِ إلى عُضْوٍ في الإنسانِ أو غيرِهِ؛ لإثباتِ صفةِ مِن الصفاتِ الإلهيَّةِ؛ وذلك لإثباتِ حقيقتِها، لا للتشبيهِ؛ كما جاء مِن حديثِ أبي هُرَيْرةَ؛ أنه قرَأَ قولَهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا

} [النساء: 58]، إلى قولِهِ تعالى:{سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، ثُمَّ قال:"رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِه، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:"رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهَا، وَيَضَعُ إِصْبَعَيْهِ"(1).

ومرادُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: إثباتُ حقيقةِ السمع والبصر، لا التشبيهُ.

وهكذا فَهِمَهُ السلفُ؛ كما قال ابنُ يُونُسَ: "قال المُقرِئُ (2)؛ يعني: إنَّ اللهَ سميعٌ بصيرٌ؛ يعني: أنَّ للهِ سَمْعًا وبَصَرًا"(3).

وجعَلَهُ أبو داودَ رَدًّا على المعطِّلة، فقال:"هذا رَدٌّ على الجهميَّة"(4).

ولم يَجعَلُوهُ حُجَّةً للمشبِّهة، بل هم يَنقُضُونَ قولَهم وَيرُدُّونَهُ؛ فهم يَعرِفُونَ سياقاتِ الأدلَّةِ، والمرادَ منها، والجمعَ بينها وبين بقيَّةِ النصوصِ في الباب.

(1) أبو داود (4728).

(2)

هو: عبد الله بن يزيد المقرئ.

(3)

أبو داود (4728).

(4)

الموضع السابق.

ص: 101

وجاء في معنى ذلك: حديثٌ في صِفَةِ التجلِّي؛ مِن حديثِ أنَسٍ عندَ التِّرْمِذيِّ (1)، وفي صفةِ القبضِ للأرضِ والطَّيِّ للسمواتِ؛ مِن حديثِ ابنِ عُمَرَ عند أحمدَ (2)، وأصلُهُ في مسلِم (3)، وفي وضعِ الأرضِ على إصبَعٍ، والسماءِ على إِصْبَعٍ؛ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ عند أحمدَ والتِّرْمِذيِّ (4)، وبنحوِهِ مِن حديثِ ابنِ مسعودٍ (5)، وأصلُهُ في البخاريِّ (6)، وقد حدَّث به يحيى بنُ سعيدٍ أحمدَ بنَ حنبلٍ وأشارَ بإصبعِه، وحدَّث به أحمدُ ابنَه عبدَ الله وأشار بإصبعِه (7).

وهذه الأحاديثُ لا تَخفَى على الأئمَّةِ؛ كمالكٍ، وأحمدَ؛ كيف وقد رَوَوْا بعضَها، ويَعلَمُونَ المقصودَ منها.

ومع ذلك: فإنَّهم نهَوْا عن الإشارةِ باليَدِ عند الحديثِ عن صفاتِ الرَّبِّ؛ لاختلافِ الفهم، وضعفِ اللسانِ؛ فتَبِعَها ضعفُ إدراكِ المعنى المراد، وربَّما اختلَفَ قولُهم مِن حالٍ إلى حال، ومِن سياقٍ إلى سياق؛ وقد قال مالكٌ:"مَن وصَفَ شيئًا مِن ذاتِ اللهِ؛ مثلُ قولِهِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وأشار بيَدِهِ إلى عُنُقِه، ومثلُ قولِهِ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فأشارَ إلى عَيْنَيْهِ وأذُنَيْهِ، [أو شَيْءٍ] مِن بدَنِهِ -: قُطِعَ ذلك منه؛ لأنَّه شَبَّهَ اللهَ بِنَفْسِه"(8).

وقد قرَأَ رجلٌ عند أحمدَ قولَهُ تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ

(1) الترمذي (3074).

(2)

أحمد (2/ 72) رقم (5414).

(3)

مسلم (2788).

(4)

أحمد (1/ 251 و 324 رقم 2267 و 2988)، والترمذي (3240).

(5)

أحمد (1/ 378 و 429 و 457 رقم 3590 و 4087 و 4368)، والترمذي (3238 و 3239).

(6)

البخاري (4811)، ومسلم (2786).

(7)

"السُّنَّة" لعبد الله (489).

(8)

"التمهيد"(7/ 145).

ص: 102

جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، ثُمَّ أومَأَ بيَدِهِ، فقال له أحمدُ:"قطَعَها اللهُ! قطَعَها اللهُ! "، ثُمَّ حرَدَ وقام (1).

مع أنَّه قد روَى الخَلَّالُ في "كتاب السُّنَّة"، عن أبي بكرٍ المَرْوَزِيّ، عن أحمَد؛ أنه روَى حديثَ وضعِ السماءِ والأرضِ وغيرِها، كلَّ واحدٍ على إِصْبَعٍ، وقال:"ورأيتُ أبا عبد اللهِ يُشِيرُ بِإصْبَعٍ إِصْبَعٍ"(2).

ومِثْلَهُ فعَلَ الأَعمَشُ (3)، وسُفْيانُ الثَّوْريُّ، عند حديثِ وضعِ القلوبِ بين إِصْبَعَيْنِ مِن أصابعِ الرحمنِ (4)، وجاء ذلك مِن فعلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الدارَقُطْنيِّ في "الصفاتِ"(5).

وقصدُ الأئمَّةِ -كمالكٍ، وأحمدَ- في نَهْيِهم عن التحديثِ ببعضِ الحديثِ، والتحديثِ مع الإشارةِ، ولو كان واردًا وصحيحًا-: خوفُ تغريرِ العامَّة؛ وعليه نصَّ مالكٌ لمَّا سُئِلَ عن حديثِ: (إنَّ العَرْشَ اهْتَزَّ لِمَوْتِ سَعْدٍ)(6)، قال:"لا يُتحدَّثْ به، وما يدعو الإنسانَ إلى الحديثِ بذلكَ، وهو يَرَى ما فيه مِن التغرير؟ ! "(7).

وحديثُ اهتزازِ العرشِ في "الصحيحَيْنِ"، ولكنَّ صِحَّتَهُ بابٌ، وفَهْمَهُ بابٌ آخَر؛ فما كلُّ صحيحٍ يَصِحُّ التحديثُ به، وقد كان مالكٌ ربَّما وصَفَ مَن يَفعَلُ ذلك بعدَمِ الفقهِ؛ فقد سُئِلَ عمَّن تحدَّث بالحديثِ:(إِن اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ)(8)، و (إِنَّ اللهَ يَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ يَوْمَ

(1)"شرح أصول الاعتقاد"(739).

(2)

"فتح الباري"(13/ 397).

(3)

"سنن ابن ماجه"(3834).

(4)

"حديث سفيان"(297).

(5)

"الصفات"(41) من حديث جابر، و (42) من حديث أنس.

(6)

البخاري (3803)، ومسلم (2466) من حديث جابر.

(7)

"المنتقى"(1/ 357).

(8)

البخاري (6227)، ومسلم (2841) من حديث أبي هريرة.

ص: 103

القِيَامَةِ) (1)، و "إنَّه يُدْخِلُ يَدَهُ فِي جَهَنَّمَ، فيُخْرِجُ مِنْهَا مَنْ أَرَادَ"(2)؟ فأنكَرَ ذلك إنكارًا شديدًا، ونهى أن يُحدَّثَ به، قيل: قد تَحدَّثَ به ابنُ عَجْلانَ؟ قال: لم يكنْ مِن الفُقَهاءِ (3).

ورُبَّما امتَنَع أحمدُ عن التحديث ببعضِ الحديثِ الصحيح، بل: ما تلقَّتْه العلماءُ بالقَبُول -كحديثِ جابرٍ مرفوعًا، وفيه: (فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ

) (4) - كان أحمدُ يَصِفُه بأن العلماءَ تلقَّتْه بالقبول، ومع هذا يقول:"ما أعلَمُ أني حدَّثتُ به إلا لمحمدِ بنِ داودَ المصِّيصِي"(5)؛ وسببُ ذلك -كما قال أحمد- أنه شُنِّعَ به.

والأئمَّةُ عند إرادةِ الإثباتِ يَختلِفُونَ في طَرِيقَتِهم عند النفيِ؛ فربَّما تجوَّزوا بعبارةٍ وإشارةٍ لإثباتِ الحقيقةِ، وإيصالِ المرادِ مِن النصِّ للسامع، وليس مرادُهُمُ التشبيهَ؛ فسياقاتُ الكلامِ لا بُدَّ مِن مَعرِفَتِها لتمييزِ الألفاظ؛ وقد سُئِلَ ابنُ إِدْرِيسَ عن قومٍ يقولون:"القرآنُ مخلوقٌ"؟ فاستشنَعَ ذلك، وقال:"سُبْحانَ اللهِ! شَيْءٌ منه مخلوقٌ! "، وأشار بِيَدِهِ إلى فِيهِ (6).

وأراد بهذا: إثباتَ الحقيقةِ، لا إثباتَ الفَمِ والشفتَيْنِ، واللسانِ واللَّهَاة، والحاجةِ إلى الهواء، وغيرِ ذلك.

(1) البخاري (4919)، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد.

(2)

البخاري (7439)، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد.

(3)

"التمهيد"(7/ 150)، و "ترتيب المدارك"(2/ 44).

(4)

"تفسير الطبري"(15/ 604)، و "الايمان" لابن منده (2/ 823)، و "إبطال التأويلات"(202 - 204).

(5)

"إبطال التأويلات"(212).

(6)

"السُّنَّة" لعبد الله (30).

ص: 104