الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
توهُّمُ اللوازمِ الباطِلةِ يُفضِي إلى التفويضِ والتأويلِ والتعطيل:
وربَّما توهَّم السامِعُ لأخبارِ الصفاتِ لازمًا يَلزَمُ مِن إثباتِها، فحمَلَهُ ذلك على تأويلِها وتفويضِها، وإذا كان اللهُ تعالى لا يُشبِهُهُ شيءٌ في كيفيَّةِ صفاتِه؛ فإنَّ نفيَ التشبيهِ باللوازمِ مِن بابِ أَوْلى، واستحضارُ لوازمَ بعَيْنِها تَدفَعُ صاحبَها إلى الرجوعِ إلى الصفةِ وتعطيلِها أو تأويلِها أو تفويضِها.
وقد سَمِعَ الإمامُ أحمَدُ قاصًّا يَروِي حديثَ النزولِ، ويقولُ:"بلا زَوَالْ، ولا انتقالْ، ولا تغيُّرِ حالْ"، فارتعَدَ أحمدُ، واصفَرَّ لَوْنُه، وقال لابنِهِ عبد اللهِ:"قِفْ بنا على هذا المتخرِّصِ"، فلمَّا حاذاهُ، قال:"يا هذا؛ رسولُ اللهِ أَغْيَرُ على رَبِّهِ مِنْكَ؛ قُلْ كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم"، وانصرَفَ (1).
* * *
* قَالَ ابْنُ أَبي زَيْدٍ: [{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، الْعَالِمُ الْخَبِيرْ، أَلْمُدَبِّرُ الْقَدِيرْ، أَلسَّمِيعُ الْبَصِيرْ، أَلْعَلِيُّ الْكَبِيرْ]:
* عُلُوُّ اللهِ:
يجبُ الإيمانُ بعلوِّ اللهِ على خَلْقِه، وأنَّه تعالى فوقَ السماءِ على عَرْشِه، والدلائلُ على علوِّ اللهِ أكثَرُ مِن أنْ تُحصَى؛ فِطْريَّةً وعقليَّةً ونقليَّةً، وهذا لا يقتصِرُ على العقولِ، بل فطرُ الحَيَوانِ التي لا عقلَ لها تَعرِفُ علوَّ ربِّها؛ فإنها إنْ شكَتْ، سمَتْ ورفَعَتْ بَصَرَها إلى السماء، حتى إنَّ فرعونَ -مع عنادِهِ وكفرِهِ واستهزائِهِ- توجَّه إلى العلوِّ؛ يُرِيدُ الاطلاعَ
(1)"الاقتصاد في الاعتقاد"(ص 110).
إلى إلهِ موسى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37].
وما يكونُ هذا إلا لأنَّه يُؤمِنُ أنَّ الإلهَ الذي يَجحَدُهُ: إنْ وُجِدَ، فلن يكونَ إلا في السماء، وأنَّ موسى قال له ذلك، وما أنكَرَ على موسى مكانَهُ، ولكنَّه أنكَرَ وجودَهُ؛ لأنه لو كان موجودًا، فلن يكونَ في غيرِ العُلُوِّ.
وما مِن إنسانٍ مهما كان دِينُهُ اشتكى الظلمَ والقهرَ، إلَّا وجَدَ في فِطْرَتِهِ رَغْبةً ببَثِّ شكواهُ إلى السماء، ومناجاةِ مَنْ فيها، ولو كان قد تديَّن بخلافِ ذلك.
وقد تواتَرَتْ نصوصُ الوحيَيْنِ عددًا بالتدليلِ على ذلك؛ سواءٌ بذكرِ أسماءِ اللهِ: {الْعَلِيِّ} [غافر: 12]، و {الْأَعْلَى} [النحل: 60]، و {الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9]، أو ذكرِ بعضِ صفاتِهِ الدالَّةِ على علوِّهِ؛ كالاستواءِ، والنزولِ، وارتفاعِ الأعمالِ إليه، وذكرِ عَرْشِهِ وكُرْسِيِّه، وحَمَلةِ العرشِ، ونزولِ الوحيِ منه، وعودتِهِ إليه، ونزولِ الملائكةِ وعروجِها، وتجلِّيه سبحانه، واطِّلاعِهِ على عبادِه، وإنزالِ الأمرِ والعقوباتِ، والمِعْراجِ بالأرواحِ وبالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ورفعِ عيسى ونزولِه، وغيرِ ذلك مما يَدُلُّ صراحةً على علوِّ اللهِ تعالى على خَلْقِه، ولو أراد أحدٌ أنْ يَتتبَّعَ أدلَّةَ العلوِّ مِن الوحيَيْنِ تصريحًا أو تضمينًا، لَمَا وَسِعَهُ ذلك، ولو فعَلَ، ثم أعادَ، لَوَجَدَ أنَّ الذي فاتَهُ فوقَ ما جمَع.
وقد دَلَّ القرآنُ على علوِّ اللهِ بذاتِه، وعلوِّهِ بقَهْرِه، وعلوِّهِ بقَدْرِه؛ كما في قولِهِ:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، وقولِهِ:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50].