الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومِن ذلك: قولُهُ تعالى قبلَ تحريمِ المَيْتةِ والدَّمِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، ثُمَّ قال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ
…
} الآيةَ [البقرة: 173].
والله تعالى يذكُرُ الحلالَ ويوسِّعُه، ويذكُرُ الحرامَ ويضيِّقُه؛ كما في قولِهِ تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208]، فلمَّا ذكَرَ الحلالَ أطلَقَه، ولمَّا ذكَرَ الحرامَ وصَفَهُ بالخُطُوات، ولا يتجرَّأُ أحدٌ على حرامٍ إلا وقد ضاق الحلالُ عليه: إمَّا توهُّمًا في نَفْسِه، أو حقيقةً في الواقع، والتضييقُ ليس من التشريع.
*
بيانُ المؤلِّفِ لمُوجِبِ التأليف:
* قَالَ ابْنُ أَبي زَيْدٍ: (أَمَّا بَعْدُ؛ أَعَانَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ عَلَى رِعَايَةِ وَدَائِعِهْ، وَحِفْظِ مَا أَوْدَعَنَا مِنْ شَرَائِعِهْ؛ فَإِنَّكَ سَأَلْتَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَكَ جُمْلَةً مُخْتَصَرَةً مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَهْ):
شرَعَ ابنُ أبي زَيْدٍ في بيانِ مقصودِهِ مِن "رسالتِه"، ومُوجِبِ كتابَتِها.
واستعمالُ: "أمَّا بعدُ" سُنَّةٌ لفصلِ الخطاب، كان يفعلُهُ النبيُّ -صلي الله عليه وسلم- في خُطَبِهِ ومكاتَباتِه.
وبيانُ مُوجِبِ الكتابةِ يبيِّنُ المقصودَ منها، ويُخرِجُها عن الفضولِ وقصدِ الكتابةِ للكتابة، وبيانُ مُوجِبِ القولِ يزيدُ مِن التوضيحِ؛ وهو كثيرٌ في القرآنِ؛ فيذكُرُ اللهُ الحكمَ والجوابَ بعد ذكرِ الاستشكالِ والسؤالِ مِن الناس؛ كقولِهِ تعالي:{يَسْأَلُونَكَ} [البقرة: 189]، و {يَسْتَفْتُونَكَ} [النساء: 176].
* * *
* قَالَ ابْنُ أَبي زَيْدٍ: (مِمَّا تَنْطِقُ بِهِ الأَلْسِنَهْ، وَتَعْتَقِدُهُ القُلُوبْ، وَتَعْمَلُهُ الجَوَارِحْ، وَمَا يَتَّصِلُ بِالوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ؛ مِنْ مُؤَكَّدِهَا وَنَوَافِلِهَا، وَرَغَائِبِهَا وَشَيْءٍ مِنَ الآدَابِ مِنْهَا، وَجُمَلٍ مِنْ أُصُولِ الفِقْهِ وَفُنُونِهْ؛ عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَطَرِيقَتِهْ):
والمقصودُ بشرحِنا هنا: هو لمعتَقَدِ المؤلِّفِ في صدرِ رسالتِه، فإنه قد أَتبَعَ معتقَدَهُ أحكامَ الفقهِ وتفاصيلَه، ومحَلُّ الكلامِ عليها غيرُ هذا الكتاب.
* * *
* قَالَ ابْنُ أَبي زَيْدٍ: (مَعَ مَا سَهَّلَ سَبِيلَ مَا أَشْكَلَ مِنْ ذَلِكَ؛ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاسِخِينْ، وَبَيَانِ المُتَفَقِّهِينْ؛ لِمَا رَغِبْتَ فِيهِ مِنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ الْوِلْدَانْ، كَمَا تُعَلِّمُهُمْ حُرُوفَ القُرْآنْ؛ لِيَسْبِقَ إِلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ فَهْمِ دِينِ اللهِ وَشَرَائِعِهْ: مَا تُرْجَى لَهُمْ بَرَكَتُهْ، وَتُحْمَدُ لَهُمْ عَاقِبَتُهْ؛ فَأَجَبْتُكَ إِلَى ذَلِكَ؛ لِمَا رَجَوْتُهُ لِنَفْسِي وَلَكَ مِنْ ثَوَابِ مَنْ عَلَّمَ دِينَ اللهِ أَو دَعَا إِلَيْهِ):
لقد يسَّر اللهُ كلامَهُ لمن يريدُ فهمَهُ مِن العرَبِ وممَّن عرَفَ لسانَهُمْ عْيرَهم؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، وجعَلَهُ سهلًا بيِّنًا، لا يحولُ بينه وبين فهمِهٍ إلا إعراضُ قلبِهِ وانصرافُهُ عن الحقّ، ومِثْلُ هذا لو سَمِعَ الحقَّ، لم يَنتفِعْ به، ويكونُ سماعُهُ كسماعِ الأَصَمِّ:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23].
وربَّما نظَرَ مَن في قلبِهِ مرَضٌ في القرآن، وتتبَّعَ المتشابِهَ، فزاد زَيْغُهُ؛ لأنَّه طلَبَ الزيغَ بنفسِه، واللهُ لا يبتدِئُ أحدًا بإزاغةٍ:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
ولا يَصرِفُ أحدًا عن الحقِّ وهو يريدُهُ: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127]، ولا يَقذِفُ في قلبِ أحدٍ مرضًا أو رِجْسًا إلا وهو يطلُبُ المرَضَ والرِّجْسَ:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]، وقال:{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]، ومَن كان في قلبِهِ قصدُ الخَيْرِ وطلبُهُ، فإنَّ اللهَ يَهدِيه:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، وإذا كان الإنسانُ كلَّما قرَأَ الأدلَّةَ، ازداد غيًّا وانحرافًا، فالعيبُ في قصدِهِ ومرَضِ قلبِه، لا في الأدلَّة.
ومَن جَهِلَ شيئًا مِن الوحيِ المتعيِّنِ عليه، وجَبَ عليه سؤالُ أهلِ العلمِ العارِفينَ بذلك؛ فإنَّ مجرَّدَ الجهلِ مع إمكانِ رفعِه، لا يُعذَرُ صاحبُهُ به؛ وإلَّا لكان الجهلُ خيرًا مِن العلم، وتجهيلُ الناسِ أفضَلَ مِن تعليمِهم؛ لأنَّ تعليمَهُمْ تكليفٌ وحساب، وتجهيلَهُمْ إعذارٌ وعَفْو.
ويَنشَأُ الصغيرُ على الفِطْرة، وتقبُّلِ الحقِّ والاتجاهِ إليه، واستنكارِ الباطلِ والنُّفْرةِ منه، ولكنَّه قد يتوطَّنُ على الشرِّ؛ إذا تدرَّج فيه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلَّا وَيوُلَدُ عَلَى الفِطْرَةِ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو يُمَجِّسَانِهِ
…
) (1).
وتعليمُ الوِلْدانِ الحقَّ والخيرَ واجبٌ، وهو حقٌّ لهم على وليِّهم، ويَتأكَّدُ ذلك في الأزمِنةِ التي يكثُرُ فيها الشرُّ؛ فيجبُ أن يُسبَقَ بالخيرِ إلى قلوبِهم قبلَ أن يَسبِقَ إليهم الشرُّ؛ فيتقبَّلُونَهُ ويتشرَّبونه.
* * *
(1) البخاري (1358)، ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة.
* قَالَ ابْنُ أَبي زَيْدٍ: (وَاعْلَمْ: أَنَّ خَيْرَ القُلُوبِ: أَوْعَاهَا لِلْخَيْر، وَأَرْجَى القُلُوبِ لِلْخَيْرِ: مَا لَمْ يَسْبِقِ الشَّرُّ إِلَيْهِ، وَأَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونْ، وَرَغِبَ فِي أَجْرِهِ الرَّاغِبُونْ: إِيصَالُ الخَيْرِ إِلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ المُؤْمِنِينْ؛ لِيَرْسَخَ فِيهَا، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَعَالِمِ الدِّيَانَهْ، وَحُدُودِ الشَرِيعَهْ؛ لِيُرَاضُوا عَلَيْهَا، وَمَا عَلَيْهِمْ أَن تَعْتَقِدَهُ مِنَ الدِّينِ قُلُوبُهُمْ، وَتَعْمَلَ بِهِ جَوَارِحُهُمْ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ تَعْلِيمَ الصِّغَارِ لِكِتَابِ الله، يُطْفِئُ غَضَبَ الله، وَأَنَّ تَعْلِيمَ شَيءٍ فِي الصِّغَرْ؛ كَالنَّقْشِ فِي الحَجَرْ.
وَقَدْ مَثَّلْتُ لَكَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَنْتَفِعُونَ -إِنْ شَاءَ اللهُ- بِحِفْظِهْ، وَيَشْرُفُونَ بِعِلْمِهْ، وَيَسْعَدُونَ بِاعْتِقَادِهِ وَالعَمَلِ بِهْ):
أنقى القلوبِ: القلبُ الذي يكونُ على الفِطْرة، ولم يَرِدْ إليه واردٌ مِن الشَّرّ؛ لأنَّ القلبَ إذا تمكَّنَ منه الشَّرُّ، تصلَّبَ وقسا، وشَقَّ عليه الرجوعُ؛ كما قال تعالى:{فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]؛ لأنَّ للقلبِ مَنافِذَ يدخُلُ منها الخيرُ، وإذا كَثُرَ الباطلُ والشَّرُّ على القلبِ، كَثُرَ إغلاقُ مَنافِذِ الخيرِ إليه؛ حتى يكونَ كالحجارةِ أو أشَدَّ قَسْوةً في قَبُولِ الحَقّ.
وقد جاءتِ الأدلَّةُ في تعليمِ الصغارِ دِينَ الله، وخاصَّةً ما يتعلَّقُ بهم وما يَشُقُّ عليهم الثباتُ عليه بعدَ تكليفِهم؛ كالصلاةِ وأحكامِ العَوْرة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:(مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ)(1)، وكما في ظاهر آية العَوْراتِ مِن سورةِ النُّور.
(1) أحمد (2/ 180 و 187 رقم 6689 و 6756)، وأبو داود (495) من حديث عبد الله بن عمرو.
وتعليمُ الصغيرِ أثبَتُ في قلبِهِ مِن تعليمِ الكبيرِ؛ لخلوِّ قلبِهِ ولينِهِ وطَرَاوَتِه.
والأُمَمُ والشعوبُ التي تَنشَاُ على الفِطْرة، ولم تتبدَّلْ، فإنها أسرَعُ لقَبُولِ الحقِّ والتسليمِ به؛ كما هو اليومَ في كثيرِ من بُلْدانِ إفريقيَّةَ وبعضِ بلدانِ جنوبِ شرقِ آسيا، وأمَّا التي تبدَّلَتْ فِطْرَتُها، وطال الأمَدُ على انحرافِها، فإنَّ قَبُولها للحقِّ شاق؛ لأنَّ قلوبَهم منحرِفة؛ كالإناءِ المائلِ أو المنكوسِ، فبمقدارِ مَيَلانِهِ يقلُّ نصيبُهُ مِن تقبُّلِ وضعِ الماءِ فيه، وإذا كان منكوسًا، لا يَقبَلُ شيئًا حتى يعدَّلَ على الفطرةِ الصحيحة، ثُمَّ يُصَبُّ الماءُ فيه، والجهدُ في هؤلاءِ شاقّ؛ لأنهم يحتاجون إلى جهادَيْن: جهادِ تعديلِ الفِطْرة، وجهادِ عَرْضِ الشِّرْعة؛ وهذا كالفَرْقِ بين أهلِ مَكَّةَ وأهلِ المدينة في أوَّلِ الإسلام؛ فأهلُ مكَّةَ أشدُّ تبديلًا للفِطْرة، فعانَدُوا وكابَرُوا، ولكنْ مَن آمَنَ منهم، ثبَتَ وكان إيمانُهُ أقوى مِن غيره؛ لأنه جرَّب أقصى الضلالة، فرجَعَ، فليس بعدها شيء؛ ولهذا كان مؤمنو مَكَّةَ المهاجِرُونَ أفضَلَ من مؤمني المدينةِ الأنصار.
ومَن أراد دعوةَ أحَدٍ إلى الحقِّ، فلينظُرْ إلى فِطْرَتِهِ ومقدارِ انحرافِها قبل دَعْوَته، حتى يقوِّمَ الإناءَ قبل الصبِّ فيه، ومَن يدعو أصحابَ فِطَرِ مبدَّلةٍ، أعظَمُ أجرًا ممَّن يدعو أصحابَ الفطرِ الصحيحة، ولو كان أقلَّ أتباعًا؛ فكلُّ أولي العَزْمِ مِن الرسُلِ أُرسِلُوا إلى أُمَمٍ مبدِّلةٍ للفِطْرة.
وإذا نَشَأ الإنسانُ في بيئةِ شرٍّ وعَرَف الحقَّ، فهو أَثبَتُ وخيرٌ ممَّن عَرَف الحقَّ في بيئةِ خير، ومِن هذا قولُ أحمدَ: إذا أَصَبتَ الكوفيَّ صاحبَ سُنَّةٍ، فهو يَفُوقُ الناس (1)؛ وذلك لأنَّه غَلَبتْ على الكوفةِ بِدْعةُ التشيُّعِ والرَّفْض.
* * *
(1) الخلال (1/ 308)، و"أخبار الشيوخ" للمروذي (263).
* قَالَ ابْنُ أَبي زَيْدٍ: (وَقَدْ جَاءَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَيُضْرَبُوا عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَيُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ؛ فَكَذَلِكَ: يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمُوا مَا فَرَضَ اللهُ عَلَى العِبَادِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ؛ لِيَأْتِيَ عَلَيْهِمُ البُلُوغُ، وَقَدْ تَمَكَّنَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ، وَأَنِسَتْ بِمَا يَعْمَلُونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ جَوَارِحُهُمْ.
* وَقَدْ فَرَضَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى القَلْبِ عَمَلًا مِنَ الاعْتِقَادَاتْ، وَعَلَى الجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ عَمَلًا مِنَ الطَّاعَاتْ.
* وَسَأُفَصِّلُ لَكَ مَا شَرَطْتُ لَكَ ذِكْرَهُ بَابًا بَابًا؛ لِيَقْرُبَ مِنْ فَهْمِ مُتَعَلِّمِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ، وَإِيَّاهُ نَسْتَخِيرْ، وَبِهِ نَسْتَعِينْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمْ):
أَمْرُ الصبيِّ بالصلاةِ في صِغَرِهِ متوجِّهٌ في الشرعِ لوليِّهِ؛ كما في الحديثِ: (مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ
…
) (1)؛ لأنَّ الصبيَّ غيرُ مكلَّفٍ؛ فلا يتوجَّهُ إليه الخِطَاب، والتقصيرُ والإثمُ في ذلك يقَعُ على وليِّه لا عليه، وإذا بلَغَ، وقَعَ عليه لا على وليِّه.
* وإنما خُصَّتِ الصلاةُ بالتأكيدِ على الصغيرِ في أوَّلِ تمييزِهِ؛ لأسبابٍ منها:
الأوَّل: كونُها أعظَمَ الأركانِ العَمَليَّةِ وآكَدَها؛ والاهتمامُ في الشريعةِ يكونُ للأهَمِّ والأعظَم.
(1) سبق تخريجه.
الثاني: أنَّ الصلاةَ ثقيلةٌ، وتحتاجُ إلى توطُّنٍ، والنفسُ غَضَّةٌ طَرِيَّةٌ؛ حتى إذا كَبِرَتْ، لا تَستثقِلُ الصلاةَ، وقد اعتادَتْ قبلَ ذلك عليها، ومَن لم يؤدِّها وهو صغيرٌ بأيِّ حالٍ، شَقَّ عليه القيامُ بها عند أوَّلِ بلوغِه؛ ولهذا جاء أمرُ الوليِّ بأنْ يأمُرَ الصبيَّ وهو ابنُ سبعِ سِنِينَ؛ حتى يبلُغَ العاشِرَةَ، وهي ثلاثُ سنينَ، يُؤمَرُ فيها عند كلِّ صلاةٍ، ثُمَّ يُضرَبُ عليها بعدَ العاشِرةِ إلى بلوغِه، ضربًا غيرَ مبرِّح؛ ولكنْ مَن انتظَمَ على الأُولى، لم يَحتَجْ إلى الثانيةِ؛ أي: مَن انتظَمَ بأمرِ الصبيِّ بعد السابعةِ ثلاثَ سنينَ، لم يبلُغِ العاشرةَ إلا وهو مُداوِمٌ عليها، ولم يَحتَجْ إلى ضَرْبِه.
الثالثُ: أنَّ الصلاةَ ثقيلةٌ بلا خشوعٍ، والخشوعُ ثقيلٌ في ذاتِهِ على مَن لم يتوطَّنْ عليه، والصغيرُ أوَّلَ مَا يؤدِّيها لا يَعرِفُ الخشوعَ؛ فيرادُ توطينُهُ على الأمرَيْنِ ليسهُلَا عليه:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، والخشوعُ ثقيلٌ على ضعيفِ اليقينِ بربِّه؛ كما وصَفَ اللهُ الخاشعينَ في نفسِ الآية:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 45 - 46].
فالثلاثةُ متلازِمةٌ: أداءُ الصلاةِ، وخشوعُها، واليقينُ باللهِ؛ ولمَّا كان الصغيرُ يحتاجُ إلى جَمْعِها في نفسِهِ، احتاجَ إلى التبكيرِ بها أوَّلَ تمييزِه.
الرابعُ: أنَّ الصلاةَ بابٌ لحفظِ بقيَّةِ الدِّينِ؛ فهي تَنهَى عن الفحشاءِ والمُنكَر، ويحتاجُ الصغيرُ إليها؛ لتَرْدَعَهُ عند بلوغِهِ، وتَحُثَّهُ على العمَلِ الصالحِ ومكارمِ الأخلاق.
وأمَّا ما يتعلَّقُ بأمرِ الباطِنِ، فيأتي الكلامُ عليه في مَوضِعِهِ مِن هذا الكتابِ بإذنِ الله.
* * *