الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنْ قالوا: لا.
قيل لهم: فإنْ قال: أُقِرُّ بجميعِ ما أمَرَ اللهُ به، ولا أَعمَلُ به؛ أيكونُ مؤمنًا؟ !
فإنْ قالوا: نعم.
قيل لهم: ما الفَرْقُ؟ فقد زعَمْتُمْ أنَّ اللهَ أراد الأمرَيْنِ جميعًا، فإنْ جاز أن يكونَ بأحدِهما مؤمِنًا إذا ترَكَ الآخَرَ، جاز أنْ يكونَ بالآخَرِ إذا عَمِلَ به ولم يُقِرَّ مؤمِنًا؛ لا فرقَ بين ذلك.
فإنِ احتَجَّ، فقال: لو أنَّ رجلًا أسلَمَ، فأقَرَّ بجميعِ ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيكونُ مؤمِنًا بهذا الإقرارِ قبلَ أن يجيءَ وقتُ عمَلٍ؟ قيل له: إنما يُطلَقُ له الاسمُ بتصديقِهِ أنَّ العمَلَ عليه بقولِهِ أنْ يَعمَلَهُ في وقتِهِ إذا جاء، وليس عليه في هذا الوقتِ الإقرارُ بجميعِ ما يكونُ به مؤمِنًا، ولو قال: أُقِرُّ ولا أَعمَلُ، لم يُطلَقْ عليه اسمُ الإيمان" (1).
*
أَثَرُ إِخْرَاجِ العَمَلِ مِن الإِيمانِ:
والأصلُ: أنَّ مَن أخرَجَ شيئًا مِن الإيمانِ؛ سواءٌ القَلْبيُّ أو القَوْليُّ أو العمَليُّ، فإنَّه لا يَجعَلُ للذنوبِ الواقعةِ في الشيءِ الذي أخرَجَهُ أثرًا على الإيمان؛ لأنَّها ليست منه أصلًا؛ فمَن أخرَجَ قولَ اللسانِ مِن الإيمانِ، فلا يَرَى ذنوبَ اللسانِ وكُفْرَهُ مؤثِّرًا على الإيمانِ؛ لأنَّ القولَ عندَهُ ليس مِن الإيمانِ؛ فتبَعًا لذلك لا يأتِي منه كفرٌ أو ذنبٌ مؤثِّرٌ عليه.
وكلُّ طوائفِ الإرجاءِ التي تُخرِجُ العمَلَ مِن الإيمانِ بالكليَّةِ، لا تَجعَلُ لأفعالِ الذنوبِ أثرًا عليه؛ فتقولُ: "لا تَضُرُّ الذنوبُ مع
(1)"شرح أصول الاعتقاد"(1590)، و "مجموع الفتاوى"(7/ 388 - 389).
التوحيدِ"، وقد كان أئمَّةُ المغربِ يُنكِرُونَهُ؛ كما كان محمَّدُ بنُ سحنونٍ يقولُ: "لا أقولُ ما قالَتِ المُرجِئةُ: لا تَضُرُّ الذنوبُ معَ التوحيدِ" (1).
وأما تعبيرُ ابنِ أبي زَيْدٍ بالكمالِ في قولِه: "وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الإِيمَانِ إِلَّا بِالعَمَلِ، وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إِلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ"، فلا يعني مِن ذلك: أنَّ مَن ترَكَ العمَلَ بالكليَّةِ: أنه مؤمِنٌ، ولكنَّه عبَّر بالكمال، يُريدُ: كمالَ الإيمانِ في واحدٍ، لا يتحقَّقُ إلا بكمالِ البقيَّةِ، لا أصلَ وجودِ الإيمان؛ فلا يمكِنُ أن يكونَ الرجلُ كاملَ الإيمانِ بالأقوالِ، وهو غيرُ كاملٍ في العمَل، ولا يكمُلُ قولُهُ وعملُهُ ظاهِرًا، وهو بلا نِيَّةٍ؛ فلا بُدَّ أن ينقُصَ مِن الثلاثةِ مقدارٌ متقارِبٌ أو متطابِقٌ، وكمالُ واحدٍ منها يعني كمالَ الاثنَيْن.
ويدُلُّ على ذلك أنه قال: "وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ"؛ فيستحيلُ أنه يصحِّحُ القولَ والعمَلَ الصالحَ بلا وجودِ شيءٍ مِن النيَّة؛ فيكونُ قولُهُ أنَّ المُرائِيَ مقبولُ العمَلِ، ولكنَّ عمَلَهُ ناقصٌ؛ وهذا غلَطٌ.
وكذلك قولُه: "وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إِلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ"؛ فيستحيلُ أيضًا: أنه يصحِّحُ العمَلَ بالبِدْعة، وأنَّ مَن جاء ببِدْعةٍ أنَّ عمَلَهُ صحيحٌ، لكنه ناقصٌ.
فسياقُ قولِهِ يقتضي أنَّه أراد كمالَ الثلاثةِ جميعًا، ونقصانَهَا جميعًا؛ وهذا يوافِقُ ما سبَقَ مِن قولِ الأئمَّةِ: أنَّه لا إيمانَ إلا بعمَل، ولا عمَلَ إلا بإيمان.
والباطنُ والظاهِرُ كلُّه مؤثِّرٌ في إيمان الإنسانِ ولو كان دقيقًا،
(1)"ترتيب المدارك"(4/ 214 - 215).