الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثاني: أنَّ المعنى الذي أثبَتُوهُ بعدَ تأويلِهِمْ، هو نَفْسُ المعنى الذي يكونُ مِن المخلوقِ عند صرفِ حقيقةِ صفتِهِ عن ظاهِرِها:
فمثَلًا: الاستواءُ والنزولُ: فمَن يُثبِتُهما على الحقيقةِ التي تليقُ بالخالق، وينزِّهُهما عن الحقيقةِ التي تليقُ بالمخلوق، لم يُشبِّهْ خالقًا بمخلوقٍ، ولم يتأوَّلْ، ومَن نفى الحقيقةَ التي تليقُ بالخالقِ، فتأوَّلَ الاستواءَ بالعلوِّ، والنزولَ بالرحمةِ، استعمَلَ لغةَ العرَبِ في هذا الموضعِ على المعنى الذي يَصِحُّ مِن المخلوقِ والخالقِ جميعًا كذلك، وإنِ اختلَفَ علوُّ الخالقِ ونزولُهُ عن علوِّ المخلوقِ ونزوله، فليست رحمةُ اللهِ كرحمةِ المخلوقِ، ولا علوُّهُ كعلوِّه؛ فلماذا لا يُثبِتُونَ الصفاتِ على الحقيقةِ، ويَنفُونَ ما يليقُ بالمخلوقِ؛ كما يُثبِتُونَ المعانيَ بالتأويل، ويَنفُونَ ما يليقُ بالمخلوق؟ !
*
الإقرار بإثبات الصفة يُبطِلُ التفويض:
والله عز وجل لا يُنزِلُ شيئًا في كتابِه، ويريدُ أن يتلُوَ الناسُ الحروفَ، ولا يَفهَمُونَ شيئًا مِن المعاني بإطلاق، والذين يقولونَ بتفويضِ الصفات، وأنه لا يُعلَمُ معناها، يَتناقَضُون؛ وذلك أنَّهم يسمُّونها صفةً، ثم يفوِّضون معناها كلَّه، ويَنفُونَ حقيقَتَها؛ فكيف عرَفُوا أنها صفةٌ إِذَنْ؟ ! فالحكمُ على المعنى بكونِهِ صفةً إثباتٌ للعلمِ بقَدْرٍ من معناه؛ فإنَّ مجرَّدَ إضافةِ الشيءِ للربِّ ليس دليلًا وحدَهُ لكونِ المضافِ صفةً للمضافِ إليه؛ فالإضافةُ لله قد تكونُ إضافةَ تشريف، وقد تكونُ إضافةَ صفةٍ، وتحديدُ إحدى الإضافتَيْنِ إقرارٌ بالمعنى حقيقةً.
وقد صنَّف جماعةٌ مِن المَغارِبةِ كُتُبًا في إثباتِ حقيقةِ الصفاتِ، والردِّ على المتكلِّمينَ والمعطِّلةِ؛ كسعيدِ بنِ الحدَّادِ في كتابِ "الاستواء"،
وقد قال: "قَصَدْنا مِن هذا الكتابِ إلى الرَّدِّ على النافيةِ للهِ بنَفْيِهم لصفاتِه"(1).
وعلى هذا المحقِّقون منهم؛ كما نقَلَ ذلك ابنُ رشدٍ في "البيان والتحصيل"؛ قال: "بأنَّ للهِ يَدَيْنِ ووجهًا وعينَيْنِ"(2)، ثم عزا لبعضِ الشيوخِ تأويلَ ذلك، وأنَّ المرادَ بالوجهِ: الذاتُ، وبالعينَيْنِ: إدراكُ المرئيَّات، والمرادُ باليدَيْنِ: النعمتان، ثم قال:"والصوابُ: قولُ المحقِّقينَ الذين أثبَتُوها؛ وهو الذي قاله مالِك"(3).
وهذا ما قرَّره أبو القاسمِ السُّهَيْلِيُّ المغربيُّ المالكيُّ في كتابِهِ "نتائج الفِكْر"، عند كلامِهِ على صفةِ اليَد، وأنها لا تؤوَّلُ بالنِّعْمةِ ولا بالقُدْرة، بل على الحقيقة، وقال:"كان معناها مفهومًا عند القومِ الذين نزَلَ القرآنُ بلُغَتِهم؛ ولذلك لم يَستَفْتِ أحدٌ مِن المؤمنين رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن معناها، ولا خاف على نَفْسِهِ توهُّمَ التشبيهْ، ولا احتاجَ مع فهمِهِ إلى شرحٍ وتنبيهْ"(4).
وذلك أنَّ إثباتَ حقيقةِ الصفةِ لله، لا يعني القولَ بمشابَهَتِها لحقيقةِ صفةِ المخلوق؛ فلكلِّ حقيقةٌ تليقُ به، واللهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
وقد كان متقدِّمو الأشاعرة؛ كالباقِلَّانيِّ، يُثبِتُونَ للهِ تعالى الوجهَ واليَدَ على الحقيقة، بل عَدَّ الباقِلَّانيُّ في "التمهيد"(5) نفيَ ذلك مِن مَخَازِي المعتزِلة، وضلالِهم وقبيحِ مَذْهَبِهم، وعدَّ الفخرُ الرازيُّ إثباتَ
(1) نشَرَ قطعةً من هذا الكتاب عبد المجيد حمدة، ضمن كتاب المدارس الكلامية بإفريقية (ص 309).
(2)
"البيان والتحصيل"(16/ 401).
(3)
الموضع السابق.
(4)
"نتائج الفكر"(ص 229).
(5)
"التمهيد"(ص 286 - 287).