الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يجوزُ أن يَبقَى مسلِمٌ بلا بَيْعةٍ لإمامٍ؛ إلا إنْ كان في أرضٍ ليس فيها حاكمٌ مُسلِم، أو كان فيها نزاعٌ على الولاية ولم يتمكَّنْ فيها أحد.
ولا يجوزُ أن يُخرَجَ على الحاكِمِ المسلِمِ ما لم يأتِ بكفرٍ بَوَاحٍ؛ وقد قال عُبَادةُ بن الصامتِ رضي الله عنه: "بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؛ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيَسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَلَّا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ"، قال:(إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا؛ عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ)(1).
ولا يجوزُ الخروجُ بشبهةِ كفرٍ أو توهُّمِ مكفِّر؛ ولذا قال في الحديثِ: (بَوَاحًا؛ عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ).
والبَيْعةُ؛ إنما هي للحاكِمِ المسلِمِ بالمعروف، وأمَّا الكافِرُ: فلا تصحُّ له بَيْعةٌ أصلًا، والطاعةُ له تكونُ بما يُقِيمُ الدنيا، ويَحفَظُ حُرُماتِ الناسِ وحقوقَهم، وما يَحفَظُ العدلَ الذي أمَرَ اللهُ به.
وكان السلَفُ يعظِّمُونَ أبوابَ السمعِ والطاعةِ للأئمَّةِ، ويَجعَلُونَها في أبوابِ العقائدِ؛ لأنَّها مِن المسائِلِ التي خالَفَتْ فيها الفِرَقُ البدعيَّةُ؛ فأصبَحَتْ عَلَمًا وفارِقًا بين أهلِ السُّنَّةِ وغيرِهم مِن الطوائفِ؛ كالخوارجِ والمعتزِلة.
*
الخُرُوجُ على الأَئِمَّةِ وأحوالُه:
والفتنةُ بالخروجِ على أئمَّةِ الجَوْرِ المسلِمِينَ شرٌّ أعظَمُ مما يُرجَى دفعُه، والخروجُ عليهم يُتساهَلُ في أوَّلِهِ، والشَّرُّ كامِنٌ في آخِره.
(1) البخاري (7055)، ومسلم (1709).
وقد كان سُحْنُونٌ يُلقِّنُ ابنَ القَصَّارِ في مرضِ موتِهِ: "أَلَّا تَخرُجَ على الأئمَّةِ بالسَّيْفِ، وإنْ جارُوا"(1).
وأكثَرُ مَن يتجرَّأُ في هذا الباب: مَن يتوهَّمُ نصرةَ العامَّة، والعامَّةُ يُطلِقُونَ الألسُنَ، ويجبُنُونَ عند إطلاقِ الرِّمَاح، والعالِمُ لا تَخدَعُهُ كثرةُ العامَّةِ عند تقريرِ الحقّ.
وقد كان ابنُ فَرُّوخٍ قاضي القَيْرَوانِ مِن تلامذةِ مالكٍ، رأى الخروجَ على العَكِّيِّ؛ حيثُ كان رجُلَ سُوءٍ، وتواعَدَ ابنُ فَرُّوخٍ مع قومٍ على أن يكونَ اجتماعُهم ببابِ تُونُسَ، فذهَبَ ابنُ فروخٍ لمكانِ المَوْعِد، وتخلَّفوا عنه؛ فلم يأتِ إلا محمَّدُ بنُ منوتا مِن المدنيِّين، وابنُ مُحرِزٍ القاضي مِن العراقيِّين، فرجَعَ ابنُ فروخ.
وحينما أراد الذَّهَابَ إلى مِصْرَ، وشيَّعه الناس، التفَتَ إلى أصحابِهِ، فقال:"اشهَدُوا أنِّي رجَعْتُ عما كنتُ أقولُ به مِن الخروجِ على أئمَّةِ الجَوْر، وتائبٌ إلى اللهِ منه".
وكان ابنُ فَرُّوخٍ يرى الخروجَ قبل ذلك؛ إذا اجتمَعَ ممَّن يأمُرُ بالمعروفِ وينهى عن المنكَر عدَدُ أهلِ بَدْرٍ، وليس كلُّ مَن صحَّ الخروجُ عليه تأصيلًا، جاز عملًا وتطبيقًا، حتَّى تكونَ القُدْرةُ ويَغلِبَ الظنُّ لا توهُّمًا واغترارًا (2).
وقد رجَعَ ابنُ عُمَرَ عن قتالِ نَجْدةَ الحروريِّ لما رأى العامَّةَ معه؛ حتى قيل له: "إنَّ الناسَ لن تخرُجَ معك إليه، وستترُكُكَ وَحْدَك"(3)؛ مع أنَّ قتالَ نَجْدةَ مشروعٌ، ومندوبٌ إليه.
(1)"رياض النفوس"(1/ 367 - 368). وقد سبق.
(2)
"ترتيب المدارك"(3/ 111 - 112).
(3)
"السُّنَّة" لعبد الله (1528).
ومَن أجازتِ الشريعةُ الخروجَ عليه مِن الحُكَّامِ، يُشترَطُ في ذلك: القُدْرةُ، وألَّا تكونَ بالتوهُّمِ، وأن يَغلِبَ على ظنِّهم أنَّ الحاكِمَ الموضوعْ، أفضلُ مِن الحاكِمِ المدفوعْ، والحالَ اللاحِقهْ، أفضَلُ مِن السابِقهْ، وكثيرٌ مِن الناسِ يفكِّرُونَ في الخلاصِ مِن الحالْ، ويَغِيبُ عنهُمُ المَآلْ، والتفكيرُ في أَذَى السُّلْطانِ الموجودِ لا ينبغي أن يُنسِيَ الحالَ بعدَه، فإنْ كان خيرًا بغَلَبةِ ظَنٍّ مع قُدْرةٍ، جاز، وهذا نادِرٌ؛ فإنَّ مَن أخَذَ المُلْكَ كَرْهًا، لن يَترُكَهُ طَوْعًا إلا بمَوْتِهِ، وبذلِ الوُسْعِ في قتلِ الناسِ وإفسادِ حياتِهم بعدَه؛ ولهذا سمَّى اللهُ زَوَالَ المُلْكِ: نَزْعًا؛ مشابَهةً له بنَزْعِ الرُّوحِ: {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26].
ويجِبُ النظرُ إلى صلاحِ الدِّين والدنيا، وتغليبُ صلاحِ الدِّين على صلاح الدُّنيا عند التزاحُم، فإنَّ المرجئةَ ميزانُهم صلاحُ الدنيا وحدَها ولو فسَدَ الدِّينُ كلُّه، وإنَّ الخوارجَ ميزانُهم صلاحُ الدِّين وحدَه ولو فسَدَتِ الدُّنيا كلُّها، فلا يفرِّقون بين حفظِ أصل الدِّين وبين حفظِ فرعِه، ولا بين إضاعةِ أصلِ الدُّنيا وبين إضاعة فرعِها، فإنَّ للدُّنيا أصلًا لا يقومُ الدِّينُ إلا به، وإنَّ لها فرعًا لا يضيَّعُ الدينُ لأجلِه.
وقد قال ابنُ أبي زَيْدٍ في "الجامع": "وَكُلُّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ المُسْلِمِينَ عَنْ رِضًا أَوْ عَنْ غَلَبَةٍ؛ فَاشْتَدَّتْ وَطْأَتُهُ مِنْ بَرٍّ أَو فَاجِرٍ-: فَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِ، جَارَ أَو عَدَلَ، وَيُغْزَى مَعَهُ العَدُوُّ، وَيُحَجُّ البَيْتُ، وَدَفْعُ الصَّدَقَاتِ إِلَيْهِمْ مُجْزِيَةٌ إِذَا طَلَبُوهَا، وَتُصَلَّى خَلْفَهُمُ الجُمُعَةُ وَالعِيدَانِ"(1).
(1)"الجامع"(ص 116).