الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالجُويْنِيُّ: يَرَى أنَّ القدرةَ الحادِثةَ تؤثِّرُ في مقدورِها، واستحَلَّ إطلاقَ القولِ بأنَّ العبدَ خالِقُ أعمالِه، وأنَّ فعلَ العبدِ واقِعٌ بقدرتِهِ قَطْعًا، وقدرتَهُ منفرِدةٌ بالتأثيرِ فيه (1).
وكذلك قولُ الرازيِّ في "الأَربَعِين"، و "المَطَالِبِ العَالِيَة": إنَّ الصفاتِ إنَّما هي نِسَبٌ وإضافاتٌ تحصُلُ بين ذاتِهِ تعالى، وبين المعلومِ والمقدورِ والمرادِ (2).
وكذلك الجَلَالُ الدَّوَّانِيُّ: فإنَّه يقولُ بعَيْنِيَّةِ الصفاتِ، وأنَّ الصفاتِ عَيْنُ الذاتِ، وأنَّ الحوادِثَ لا أَوَّلَ لها، كما في "شرحِ العقائِدِ العَضُدِيَّة"(3)، إلى غيرِ ذلك مِن أنواعِ النِّزَاع.
*
ثباتُ أهلِ المغربِ، وامتحانُهم بعلمِ الكلام:
ولم يكن أحدٌ مِن أصحابِ مالكٍ يخوضُ في الكلامِ، ولا يقرِّرُهُ في أصولِ الدِّين، ولما امتُحِنَ الناسُ بخلقِ القرآنِ في العراقِ، اقتَدَى كثيرٌ مِن السلاطينِ بذلك في المغرِب، وامتَحَنُوا علماءَهم؛ فامتُحِنَ بعضُ أصحابِ مالكٍ؛ كموسى بنِ معاويةَ الصُّمَادِحِيِّ، وأحمدَ بنِ يزيدَ، وسُحْنُونِ بنِ سعيدٍ، وخلقٍ، وتولَّى المحنةَ قضاةٌ؛ كقاضي القَيْرَوانِ ابنِ أبي الجَوَّاد، وكان مقامُهُ في القَيْرَوانِ قريبًا مِن مقامِ أحمدَ بنِ أبي دُؤَادٍ في العراقِ في هذه الفِتْنة، وكان يسمِّيهِ سُحْنُونٌ:"فِرْعَوْنَ هذه الأُمَّةِ وجَبَّارَها"(4).
(1)"النظامية"(ص 42).
(2)
"الأربعين في أصول الدين"(ص 117 وما بعدها)، و "المطالب العالية"(2/ 106 - 108)، وانظر: تفسيره "مفاتيح الغيب"(7/ 309).
(3)
(1/ 277 وما بعدها)، وانظر: رسالته "إثبات الواجب"(ص 9).
(4)
"البيان المغرب"(1/ 109).
وتَبِعَ هؤلاءِ طبقةُ تلامذتِهم ممَّن جرى مَجْرَاهم، وسلَكَ سبيلَهم؛ كزيدِ بنِ بشرٍ الأزديِّ القَيْرَوانيِّ؛ حيثُ سكَنَ القيروانَ لمَّا هرَبَ مِن مِصْرَ بعدما امتُحِنَ في خلقِ القرآن، وزَيْدِ بنِ سِنَانٍ الأسديِّ القيروانيِّ، ومحمَّدِ بنِ نصرِ بنِ حضرمٍ القَيْرَوانيِّ، ومحمَّدِ بنِ سحنونٍ، وبكرِ بنِ حمَّادٍ الزَّنَاتِيِّ التاهرتيِّ، وأبي العبَّاسِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ طالبٍ، ومحمَّدِ بنِ وضَّاحٍ القرطبيِّ، ويحيى بنِ عُمَرَ الكِنَانيِّ، وأبي عُثْمانَ سعيدٍ الحَدَّادِ القيروانيِّ، وأحمدَ بنِ نصرِ بنِ زيادٍ الهَوَّارِيِّ، ولُقْمانَ بنِ يوسُفَ الغَسَّاني.
وقد استمسَكَ هؤلاءِ الأئمَّةُ بالسُّنَّةِ والأثَرِ، وما عَلِمُوهُ مِن السلفِ في مسألةِ خلقِ القرآنِ، وعُلُوِّ الله، وكانوا على معتَقَدِ مَن سبَقَهم، ولا يَرَوْنَ الخوضَ في الكلامِ عمَّا زاد عن الوارِدِ في النصوصِ؛ لا بتأويلٍ ولا تشبيه، وقد كان سُحْنُونٌ يقولُ:"مِنَ العِلْمِ باللهِ: الجهلُ بما لم يُخْبِرِ اللهُ به عن نَفْسِه"(1).
وهذا نظيرُ ما يقرِّرُه الشافعيُّ في علمِ الكلامِ؛ أنَّ: "الفِقْهَ في الكلامِ الجَهْلُ به"(2)؛ لأنَّ علمَ الكلامِ يؤدِّي إلى القولِ على اللهِ بلا علمٍ نفيًا وإثباتًا، ومنتهى الفقهِ في ذلك: الكلامُ عند ورودِ النَّصّ، والوقوفُ عند عدَمِ ورودِه.
وبَقِيَتْ شواهدُ القبورِ بالقَيْرَوانِ شاهِدةً على ذلك إلى اليومِ؛ حيث كُتِبَ عليها بعد الشهادتَيْن: "وأنَّ القرآنَ كلامُ الله، وليس بمخلوقٍ"، والشواهدُ مؤرَّخةٌ بصَفَرٍ عامَ اثنَيْنِ وتسعينَ ومِئَتَيْنِ، ومِن شواهدِ القبورِ: شواهدُ مكتوبٌ عليها اليومَ بعد الشهادتَيْنِ: "وأنَّ اللهَ عز وجل يُرَى يومَ القيامةِ"، ومؤرَّخٌ ذلك في شَعْبانَ عامَ اثنَيْنِ وتسعينَ وثلاث مئةٍ.
(1)"التمهيد" لابن عبد البر (7/ 146).
(2)
"صون المنطق"(ص 150).
وقد يَرتفِعُ الشرُّ، ويَقوَى الباطلُ، حتى إذا ظَنَّ بعضُ الناسِ أنْ لا قائمةَ للحَقِّ، أدار اللهُ الدائرةَ للحَقِّ وأهلِه؛ فالمعتزِلةُ بدَّلوا الدِّينَ، وتسلَّطوا بالسلطانِ على المسلِمِينَ شرقًا وغربًا:
• ففي المَشرِق: حُرِّفَ القرآنُ على كِسْوةِ الكَعْبة؛ فكُتِبَ عليها: "ليس كمِثْلِهِ شيءٌ وهو اللطيفُ الخَبِير"؛ أزالوا: "السَّمِيع البَصِير"؛ يقولُ حَنبَلٌ: حجَجْتُ فرأيتُ ذلك، فلمَّا قَدِمْتُ، أخبَرْتُ أحمدَ، فقال: قاتَلَهُ اللهُ! الخبيثُ -يعني: ابنَ أبي دؤادٍ- عمَدَ إلى كتابِ الله، فغَيَّرَهُ" (1).
• وفي المَغرِب: أوصى العلماءُ أنْ يُكتَبَ الحقُّ على شواهِدِ القبور، لمَّا عجَزُوا عنه على المَنابِر؛ فواجبُ العلماء أن يبيِّنُوا الحقَّ حسبَ المقدور، واللهُ كفيلٌ بإظهاره.
وبدَأَ الأئمَّةُ يصنِّفونَ ويكتُبُونَ في بيانِ المعتَقَدِ الحقِّ في ذلك إجمالًا وتفصيلًا؛ ككتابِ محمَّدِ بنِ وَضَّاحٍ: "رسالةٌ في رؤيةِ الله"، وكتَبَ محمَّدُ بن سُحْنُونٍ كتابَ "الحُجَّةِ على القدريَّةِ"، وسعيدُ بن الحَدَّادِ كتابَ "الاستواء"، وله أيضًا مناظَراتٌ مع المعتزِلةِ بالقَيْرَوان.
وقد دخَلَ سُحْنُونٌ على ابنِ القَصَّارِ وهو مَرِيضٌ، فقال:"ما هذا القَلَقُ؟ قال له: الموتُ والقدومُ على الله، قال له سُحْنُونٌ: ألَسْتَ مصدِّقًا بالرُّسُلِ والبعثِ، والحسابِ والجَنَّةِ والنار، وأنَّ أفضَلَ هذه الأمَّةِ أبو بكرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، والقرآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، وأنَّ اللهَ يُرَى يومَ القيامةِ، وأنَّه على العرشِ استَوَى، ولا تَخرُجُ على الأئمَّةِ بالسَّيْفِ، وإنْ جاروا؟ قال: إي والله، فقال: مُتْ إذا شئتَ، مُتْ إذا شئتَ"(2).
(1)"طبقات الحنابلة"(1/ 386).
(2)
"رياض النفوس"(1/ 367 - 368).