الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِن الأصول؛ وذلك تعظيمًا للوحيِ قرآنًا وسُنَّة، وانتهاءً إلى ما بلَّغَهُ اللهُ لنبيِّه، وكلُّ مَن شدَّد في الرأيِ مِن السلفِ، فهو في علمِ الكلامِ أشَدّ، ولا يوجدُ إمامٌ منهم نَهَى عن الرأي، ثم أَذِنَ بالكلام، حتى كان مِن أصحابِ مالكٍ -وخاصَّةً المغارِبةَ- مَن دخَلَ العراق، ولم يَسمَعْ مِن أهلِ الرأي، ولم يأخُذْ عنهم الفقهَ، بل كانت تلك الطَّبَقةُ مِن أهلِ الرأيِ يَنْهَوْنَ عن علمِ الكلامِ؛ كما قال أبو يُوسُفَ:"مَن طلَبَ الدِّينَ بالكلام، تَزَنْدَق"(1)، وهؤلاءِ كانوا مَحَلَّ إنكارِ كثيرٍ مِن السلفِ، مع أنَّهم أدخَلُوا الرأيَ في الفروعِ، لا في الأصول.
*
نهيُ مالكٍ عن علمِ الكلامِ، ومرادُه:
وقد كان مالكٌ ينهى عن علمِ الكلامِ كلِّه، ولا يَستثنِي منه شيئًا؛ فهو -وإنْ لم يَظهَرْ في زمنِهِ وفي بلدِهِ علمُ الكلامِ تامًّا، كما هو عليه بعدَهُ بقرون- إلَّا أنَّ مالكًا نهى عن الكلامِ، ولم يَستثْنِ، وربَطَ نهيَهُ عنه بعِلَلٍ هي متحقِّقةٌ في كلِّ علومِ الكلامِ؛ سواءٌ ما كان عليه الجهميَّةُ أو المعتزِلةُ أو المتكلِّمونَ مِن الأشاعِرةِ.
وبهذا فسَّره جماعةٌ مِن أتباعِ مالكٍ المتقدِّمينَ؛ كابنِ خُوَيْزْ مِنْدَادَ، وأبي عُمَرَ بنِ عبد البَرِّ، وقد كان ابنُ خُوَيْزْ ينهى عن قَبُولِ شهادةِ أهلِ الكلامِ كافَّةً، وكان ابنُ عبد البَرِّ ينقُلُ كلامَهُ معتمِدًا عليه؛ فقد نقَلَ عنه قولَهُ في تأويلِ قولِ مالكٍ:"لا تجوزُ شهادةُ أهلِ البِدَعِ وأهلِ الأهواءِ"؛ قال: "أهلُ الأهواءِ عندَ مالكٍ وسائرِ أصحابِنا هم أهلُ الكلام؛ فكلُّ متكلِّمٍ، فهو مِن أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ؛ أشعريًّا كان أو غيرَ أشعريٍّ،
(1)"الإبانة" لابن بطة (671/ كتاب الإيمان).
ولا تُقبَلُ له شهادةٌ في الإسلامِ أبدًا، ويُهجَرُ ويُؤدَّبُ على بدعتِهِ؛ فإنْ تَمادَى عليها، استُتِيبَ منها" (1).
ولابنِ عبد البَرِّ كلامٌ في غيرِ موضعٍ مِن كتبِه، لا يَرَى تقريرَ ما يتعلَّقُ بالغيبيَّاتِ ومسائلِ الصفاتِ بالنظَر، ولا يَرَى المناظَرةَ فيها، ومِن ذلك قولُهُ:"ليس في الاعتقادِ كلَّهِ في صفاتِ اللهِ وأسمائِهِ إلا ما جاء منصوصًا في كتابِ الله، أو صَحَّ عن رسولِ الله، أو أجمَعَتْ عليه الأمَّة، وما جاء مِن أخبارِ الآحادِ في ذلك كلِّه أو نحوِهِ: يُسلَّمُ له، ولا يُناظَرُ فيه"(2).
ولمَّا كان التوسُّعُ في البِدَع الكلاميَّةِ لم يكنْ في زمَنِ مالك، ولم يدخُلْ فيه أهلُ السُّنَّةِ والأثَرِ إلا ما ندَرَ، ولم يَستعمِلْه كبيرُ أحدٍ في الردِّ على أهلِ الأهواءِ والكلامِ في عصرِهِ-: جعَلَ بعضُهم كلامَ مالكٍ لا يُرِيدُ به طوائفَ مِن المتكلِّمينَ الذين استعمَلُوا علمَ الكلامِ للردِّ على المعتزِلةِ والفلاسِفة؛ لأنَّهم رأَوْا أثَرَ هؤلاءِ المتكلِّمِينَ في الردِّ على الفلاسِفةِ والمعتزِلة.
فقد كان البيهقيُّ يَحمِلُ كلامَ مالكٍ على أنه يُرِيدُ كلامَ الغُلَاةِ، لا الكلامَ الذي سلَكَهُ بعضُ أهلِ السُّنَّةِ مِن بعدِهِ؛ قال:"إنَّما يريدُ -واللهُ أعلم- بالكلامِ: كلامَ أهلِ البِدَعِ؛ فانَ في عَصْرِهما (3) إنَّما كان يُعرَفُ بالكلامِ أهلُ البدع، فأمَّا أهلُ السُّنَّةِ، فقلَّما كانوا يَخوضُونَ في الكلامِ، حتى اضطُرُّوا إليه بعدُ"(4).
وهذا صحيحٌ في أنَّ مالكًا قصَدَ البِدَعِ الكلاميَّةَ التي أظهَرَها الزنادِقةُ
(1)"جامع بيان العلم"(1800).
(2)
الموضع السابق.
(3)
يعني: عصرَ أبي يوسُفَ ومالكٍ.
(4)
"تبيين كذب المفتري"(ص 334).
والمعتزِلةُ والجهميَّة؛ لأنها هي التي ظهَرَتْ في زَمَنِه، ولكنَّ قولَ مالكٍ ونهيَهُ عن علمِ الكلامِ لا يُحصَرُ فيها؛ لأنَّ دخولَ بعضِ أهلِ السُّنَّةِ في علمِ الكلامِ -مع نُدْرَتِهِ- كان في طَبَقةِ شيوخِ مالكٍ وتلامذَتِهم، وكان مالكٌ يَعلَمُ أنه في بعضِ شيوخِهِ وبعضِ تلاميذِه، وكان يَحمَدُ ردَّهم على أهلِ البِدَعِ به، وسلامةَ معتقَدِهِم منه، ويحذِّرُهم مِن الخوضِ فيه بلا علمٍ مِن الأثَر، ولا تمكُّنٍ منه؛ حيث يُفحَمُونَ لِجَهْلِهم به، فيَغتَرُّ المُبطِلُ بباطِلِه لِجَهْلِهم؛ كما حذَّر مالكٌ تلميذَهُ ابنَ فَرُّوخٍ مِن ذلك (1).
وقد اتخذَتْهُ تلك الطَّبَقةُ لإبطالِ باطلِ المُبطِلِين، لا لإحقاقِ حَقِّ المؤمنين، وظهورُهُ على هذا النحوِ في شيوخِ مالكٍ في ابنِ هُرْمُزٍ عبد اللهِ بنِ يزيدَ المَدَنيِّ، وقد قال مالكٌ:"كان ابنُ هُرْمُزٍ رجلًا كنتُ أُحِبُّ أن أَقتدِيَ به، وكان قليلَ الكلامِ، قليلَ الفتيا، شديدَ التحفُّظ، وكان كثيرًا ما يُفتِي الرجلَ، ثُمَّ يَبعَثُ في أثَرِهِ، فيَرُدُّهُ إليه حتى يُخبِرَهُ بغيرِ ما أفتاه؛ قال: وكان بصيرًا بالكلام، وكان يَرُدُّ على أهلِ الأهواءِ؛ قال: وكان مِن أعلَمِ الناسِ بما اختَلَفَ الناسُ فيه مِن هذه الأهواءِ! "(2).
وظهورُهُ في تلامذةِ مالكٍ على هذا النحوِ أيضًا: في عبد اللهِ بنِ فَرُّوخٍ القيروانيِّ، وقد كتَبَ إلى مالكٍ مِن المغربِ يُخبِرُهُ أنَّ بلدَهُ كثيرُ البدعِ، وأنه ألَّف لهم كتبًا في الرَّدِّ عليهم؛ فكتَبَ إليه مالكٌ يقولُ:"إنْ ظَنَنْتَ ذلك بنَفْسِك، خِفْتُ أنْ تَزِلَّ فتَهْلِكَ؛ لا يَرُدُّ عليهم إلا مَن كان ضابِطًا عارِفًا بما يقولُ لهم، لا يَقدِرُونَ أنْ يُعرِّجُوا عليه؛ فهذا لا بأسَ به، وأمَّا غيرُ ذلك، فإنِّي أخافُ أنْ يُكلِّمَهم فيُخطِئَ؛ فيَمْضُوا على خَطَئِه، أو يَظفَرُوا منه بشيءٍ؛ فيَطْغَوْا ويزدادوا تماديًا على ذلك"؛ كما نقَلَهُ أبو العرَبِ في "طَبَقاته".
(1)"رياض النفوس"(1/ 177).
(2)
"تبيين كذب المفتري"(ص 352).
وكلامُ مالكٍ ونهيُهُ هو لجميعِ علمِ الكلامِ في الغيبيَّاتِ؛ كالأسماءِ والصفاتِ والقَدَرِ؛ قليلِهِ وكثيرِهِ؛ سواءٌ ما كان عند الفلاسِفةِ وغُلَاةِ المتكلِّمينَ؛ كالمعتزِلةِ، أو كالذي يَتخِذُهُ الأشاعِرةُ والماتُرِيديَّةُ، يَرُدُّونَ به على غلاةِ المتكلِّمينَ والزنادقةِ، ثم يقرِّرونَ به الحَقِّ لأهلِ الحَقّ؛ فهو ينهى عن ذلك كلِّه، وقد قال مالك:"أهلُ البدعِ الذين يتكلَّمونَ في أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ، وكلامِهِ وعلمِهِ وقدرتِهِ، ولا يسكُتُونَ عمَّا سكَتَ عنه الصحابةُ والتابِعونَ لهم بإحسان".
فهو يَرَى أنَّ كلَّ قَدْرٍ زائدٍ يؤدِّيه الكلامُ عمَّا كان عليه الصَّدْرُ الأوَّلُ؛ صحابةً وتابعينَ -: فهو بِدْعة، مع علمِهِ بما اتخَذَهُ بعضُ شيوخِهِ وتلامذتِهِ لردِّ الباطِلِ، لا لتقريرِ الحق، وهذا الذي يَتفِقُ عليه مَن بعدَهُ؛ كالشافعيِّ، وأحمَدَ.
وقد فَهِمَ مِن نهي مالك عن علمِ الكلامِ العمومَ بلا استثناءٍ: جماعةٌ؛ كالغزاليِّ في "الإحياء"(1)، بل جعَلَه قولَ مالكٍ والشافعيِّ وأحمد.
وقد كان أبو حنيفةَ مِن أهلِ الرأيِ في الفقهِ، وينهى عن الكلامِ في الغيبيَّاتِ، ويشدِّدُ فيه، ويقولُ:"لعَنَ اللهُ عَمْرَو بنَ عُبَيْدٍ؛ فإنَّه فتَحَ للناسِ الطريقَ إلى الكلامِ فيما لا يَعْنِيهِمْ مِن الكلامِ"(2)، وقد كان ينهى أصحابَهُ عنه؛ كما قال محمَّد بن الحسَنِ:"كان أبو حَنِيفَةَ يَحُثُّنَا على الفقه، وينهانا عن الكلامِ"(3).
وكان الأئمَّةُ ممَّن سبَقَ مالكًا ومَن في طبقتِهِ ومَن جاء بعدَهُم:
(1)"الإحياء"(1/ 94 - 95).
(2)
"ذم الكلام"(1020).
(3)
الموضع السابق.