الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنَّ هذا لا يجوزُ في شريعةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وهو خاتِمُ الأنبياءِ والمرسَلِين؛ فإنَّ في شريعتِهِ الناسخَ، وفيها المنسوخ؛ فلا يجوزُ العمَلُ بالمنسوخِ؛ فالإيمانُ بالكتابِ وتعظيمُهُ شيءٌ، والعمَلُ به شيءٌ آخَر، والقرآنُ نسَخَ ما قبلَهُ مِن تشريعاتِ الكتُبِ السابِقة؛ فالقرآنُ قاضٍ على شرائعِ ما سبَقَ، وحاكِمٌ عليها؛ كما قال تعالى:{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
* * *
* قَالَ ابْنُ أَبي زَيْدٍ: (وَشَرَحَ بِهِ دِينَهُ القَوِيمْ، وَهَدَى بِهِ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمْ):
بيانٌ لمنزِلةِ القرآنِ والحِكْمةِ منه؛ فقد جعَلَهُ الله حُجَّةً على عبادِه؛ فجعَلَهُ بيِّنًا محكَمًا، واضِحًا مفصَّلًا؛ كلُّ مَن أراد الحقَّ فيه، وجَدَهُ، ومَن في قلبِهِ زَيْغٌ، زاغ، وأمَّا القرآنُ، فكلُّهُ حقٌّ؛ كما قال تعالى:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
*
مصدرُ تفسير القرآن:
ومِن اللهِ إنزالُه، وعليه بيانُه؛ فليس لأحدٍ أن يَجتهِدَ فيه برأيِهِ وهواه؛ قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]؛ وهذا البيانُ مِن الله، لا مِن غيرِه؛ كما قال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18 - 19]، ولكنَّ البيانَ نُسِبَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم باعتبارِ بلاغِهِ له؛ وإلَّا فإنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مأمورٌ بالاتباعِ لأمرِ الله؛ كما قال الله:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: 112].
ومَن صَحَّ لسانُهُ العَرَبيُّ، وفَهِمَ لغاتِ العرَب، لم يَحتَجْ إلى تكلُّفٍ
وتنطُّعٍ في تأويلِ القرآن؛ فالأصلُ فيه: أنْ يَفهَمَهُ العرَبيُّ عند نزولِه، ولكنْ لمَّا بَعُدَ الزمانُ، وضَعُفَ اللسانُ، احتاج الناسُ إلى الرجوعِ إلى تأويلِ السلَفِ مِن الصحابةِ والتابِعِينَ؛ حتى لا يَحمِلُوا القرآنَ على غيرِ مرادِ الله.
وقد عصَمَ الله نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم؛ فكان مفسّرًا للقرآنِ بقولِهِ وفعلِه، ومترجِمًا لمعانِيهِ بحياتِه، وقد كان يتخلَّقُ به، ويقومُ بما أمَرَ الله فيه؛ وقد قالت عائشةُ رضي الله عنها:"كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ"(1)، وقد أمَرَهُ الله بتلاوةِ كلامِهِ وبتعليمِهِ للناسِ:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164]، والحكمةُ هي سُنَّتُهُ؛ فإنَّها لا تتعارَضُ مع القرآنِ لعصمتِهِ صلى الله عليه وسلم، وإنما هي مبيِّنةٌ مفسِّرةٌ له.
وكلُّ ما استقَرَّ عليه فهمُ الصَّدْرِ الأوَّلِ مِن القرآنِ، فهو مرادُ الله فيه؛ لأنَّ اللهَ أنزَلَهُ بلسانِهِمْ لِيَفْهَمُوهُ، ولا يسكُتُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم معنًى باطلٍ استقَرَّ في نفوسِهم؛ فهذا يُخالِفُ مقتضَى الرسالة، واللهُ مُطَّلِعٌ على ما في نفوسِهم مِن فَهْم.
ولو عَلِمَ الله أنَّ عامَّتَهم أو أكثَرَهم فَهِموا القرآنَ على غيرِ مرادِ الله، لَأَنْزَلَ اللهُ البيانَ في ذلك؛ لأنَّ هذا مقتضى حفظِ دِينِهِ وتمامِهِ وكمالِه؛ فكمالُ القرآنِ وتمامُ الدِّينِ هو للمعاني كما هو للحروفِ؛ قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3].
ويجبُ الإيمانُ بكلِّ ما جاء في كلامِ الله وكلامِ رسولِه؛ فكلُّ ذلك وحيٌ مِن الله، وقد قرَنَ الله طاعتَهُ بطاعةِ نبيِّه، ومعصيتَهُ بمعصيتِه؛ لأنَّ
(1) مسلم (746).