المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌12 - كِتابُ النِّكَاحِ

- ‌2 - باب النَّظَرِ إلى المَخطوبةِ وبيانِ العَورات

- ‌3 - باب الوليَّ في النَّكاح واستِئذانِ المَرأةِ

- ‌4 - باب إعلانِ النكاحِ والخِطبةِ والشَّرطِ

- ‌5 - باب المُحرَّماتِ

- ‌6 - باب المُباشَرةِ

- ‌فصل

- ‌7 - باب الصَّداق

- ‌8 - باب الوَليمةِ

- ‌9 - باب القَسْمِ

- ‌10 - باب عشرةِ النِّساءِ وما لكلِّ واحدةٍ من الحقوقِ

- ‌11 - باب الخُلعِ والطلاقِ

- ‌12 - باب المُطلَّقَةِ ثلاثًا

- ‌فصل

- ‌13 - باب اللِّعَانِ

- ‌14 - باب العِدَّة

- ‌15 - باب الاستبراء

- ‌16 - باب النَّفقاتِ وحَقِّ المَملوكِ

- ‌17 - باب بلوغِ الصَّغيرِ وحضانتهِ في الصِّغَرِ

- ‌13 - كِتابُ العِتْقِ

- ‌2 - باب إعتاقِ العَبْدِ المُشتَرَك وشراءِ القريبِ والعتقِ في المَرَضِ

- ‌3 - باب الأيمانِ والنُّذورِ

- ‌فصل في النُّذورِ

- ‌14 - كِتَابُ القِصَاصِ

- ‌2 - باب الدَّيَاتِ

- ‌3 - باب ما لا يُضْمَنُ من الجنايات

- ‌4 - باب القَسامة

- ‌5 - باب قتلِ أهل الرِّدَّةِ والسُّعاةِ بالفسادِ

- ‌15 - كِتَابُ الحُدُودِ

- ‌2 - باب قَطْعِ السَّرِقَةِ

- ‌3 - باب الشَّفاعةِ في الحُدودِ

- ‌4 - باب حدِّ الخمرِ

- ‌5 - باب لا يُدْعى على المَحدودِ

- ‌6 - باب التَّعْزيرِ

- ‌7 - باب بيانِ الخَمْرِ ووعيدِ شاربها

- ‌16 - كِتابُ الإمَارَة وَالقَضَاءِ

- ‌1 - باب

- ‌2 - باب ما على الوُلاةِ من التَّيسيرِ

- ‌3 - باب العَملِ في القضاءِ والخَوفِ منهُ

- ‌4 - باب رزق الوُلاةِ وهداياهم

- ‌5 - باب الأقضيةِ والشَّهاداتِ

- ‌17 - كِتابُ الجهَادِ

- ‌2 - باب إعدادِ آلةِ الجِهادِ

- ‌3 - باب آدابِ السَّفَرِ

- ‌4 - باب الكتابِ إلى الكُفَّارِ ودعائِهم إلى الإسلامِ

- ‌5 - باب القِتالِ في الجهاد

- ‌6 - باب حُكْمِ الأُسارى

- ‌7 - باب الأمانِ

- ‌8 - باب قِسْمَةِ الغنائمِ والغُلولِ فيها

- ‌9 - باب الجِزْيَةِ

- ‌10 - باب الصُّلحِ

- ‌11 - باب الجلاء: إخراجِ اليهودِ من جزيرةِ العَرَبِ

- ‌12 - باب الفَيْءِ

- ‌18 - كِتَابُ الصَّيْدِ والذَّبَائِحِ

- ‌2 - باب

- ‌3 - باب ما يحلُّ أكلُه وما يحرُمُ

- ‌4 - باب العقِيقةِ

- ‌19 - كِتَابُ الأَطْعِمَةِ

- ‌2 - باب الضيافَةِ

- ‌فصل

- ‌3 - باب الأشرِبةِ

- ‌4 - باب النَّقيعِ والأنبذةِ

- ‌5 - باب تغطيةِ الأواني وغيرِها

الفصل: ‌13 - باب اللعان

قوله: "فأَسِفتُ"؛ أي: فحزنتُ.

قوله: "وعليَّ رقبةٌ"؛ يعني: علمتُ أنَّ ضربي إياها إثمٌ؛ لأنه كان بلا ذنبٍ منها، فأريد أن أُعتقَها؛ ليزولَ عني ذلك الإثمُ، وكان قد وجبت عليَّ قبل هذا إعتاقُ رقبةِ عن كفَّارةٍ، أفيجوز أن أُعتقَ هذه الجاريةَ عن تلك الكفَّارة؟ فسألها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: هل هي مؤمنةٌ أم لا؟ فلمَّا علم أنها مؤمنةٌ، أجازَ إعتاقَها.

قوله صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟ ": ليس هذا الكلامُ منه صلى الله عليه وسلم لتعريف مكان الله؛ فإنَّ الله مُنزَّهٌ عن المكان، بل ليَعرفَ أنَّ الجاريةَ من الذين يتخذون الأصنامَ آلهةً أم من المؤمنين؟ فإن كانت من المشركين يتبينُ كفرُها بأن تشيرَ إلى صنمِ بلدٍ أو قومٍ، فلما أشارت إلى السماء، علم أنها ليست من الذين يتخذون الأصنامَ آلهةً.

فإن قيل: ينبغي أن ينهاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الإشارة إلى السماء؛ لأنه ليس له مكانٌ.

قلنا: إنما لم يَنهَها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإشارة إلى السماء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علم أنَّ مُرادَها بالإشارة إلى السماء نسبةُ الله إلى العلو، لا إثباتُ مكان الله تعالى.

* * *

‌13 - باب اللِّعَانِ

(باب اللعان)

مِنَ الصِّحَاحِ:

2464 -

عن سهلِ بن سَعْدٍ السَّاعديِّ قال: إنَّ عُوَيْمرًا العَجْلانيِّ قال: يا رسولَ الله! أرأيتَ رجلًا وَجَدَ معَ امرأتِه رجلًا أَيقتُلُه فتقتلُونَه، أَمْ كيفَ يفعلُ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"قد أُنزِلَ فيكَ وفي صاحبتِكَ فاذَهبْ فأتِ بها"، قال

ص: 108

سهلٌ: فَتلاعَنَا في المسجدِ وأنا مَعَ الناسِ عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلما فَرَغا قال عُوَيمرٌ: كذبتُ عليها يا رسولَ الله إِنْ أَمسكتُها، فطلَّقَها ثلاثًا، ثم قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"انظُرُوا! فإنْ جاءَتْ بهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ العَيْنينِ، عظيمَ الأَليتينِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فلا أحسِبُ عُوَيمِرًا إلا قد صَدَقَ عليها، وإنْ جاءَتْ بهِ أُحَيمِرَ كأنه وَحَرَةٌ، فلا أَحسِب عُوَيمرًا ألا قد كذبَ عليها"، فجاءَت بهِ على النَّعتِ الذي نعتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن تصديق عُوَيمرٍ، فكانَ بعدُ يُنسَبُ إلى أمِّه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "قد أُنزل فيك وفي صاحبتك"؛ يعني: أَنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] إلى آخر الآيات، معنى (يَرمون): يقذفون بالزِّنا؛ يعني: مَن قال لامرأته: زَنيتِ، أو: أنتِ زانيةٌ؛ وجبَ عليه جلدُ ثمانين سَوطًا، إلا أن يأتِيَ بأربعةِ رجالٍ عُدولٍ يشهدون أنهم رأَوا تغييبَ حَشَفة الزاني في فَرج الزانية، فإن لم يكن شهودٌ بهذه الصفة، فله أن يَدفعَ الحدَّ عن نفسه باللِّعان، واللِّعانُ أن يقولَ أربعَ مراتٍ: أشهدُ بالله أني لَمِنَ الصادقين فيما رميتُها به من الزِّنا، وإن كان قد نفى ولدًا يجب عليه في كلِّ مرةٍ أن يقولَ بعد هذا: وأنَّ هذا الولدَ من الزِّنا ليس مني، ويقول بعد المرة الرابعة: عليَّ لعنةُ الله إن كنتُ من الكاذبين.

فحينَئذٍ بانَتْ منه، وحرُمتْ عليه على التأبيد، وانتفى عنه الولدُ، وسقط عنه حدُّ القَذْف، ووجب على المرأة حدُّ الزِّنا.

فإن أرادت أن تدفعَ عن نفسها الحدَّ، فطريقُها أن تُلاعنَ بعد لِعان الزوج؛ بأن تقولَ أربعَ مراتِ: أشهدُ بالله أنه لَمِنَ الكاذبين فيما رماني به من الزِّنا، وتقول بعد الرابعة: وعليَّ غضبُ الله إن كان من الصادقين.

ولا فائدةَ للِعانها إلا إسقاطُ حدِّ الزِّنا عنها.

هذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا حدَّ على الزوج،

ص: 109

بل يتعيَّنُ عليه اللِّعان.

واختلفوا في وقت وقوع الفُرقةِ بين الزوجين؛ فقال مالك وأحمد: إذا تلاعَنَ الزوجانِ كلاهما، وقعت الفُرقةُ بينهما، وقال الشافعي: وقعت الفُرقةُ بينهما بمجرد لِعان الزوج، وقال أبو حنيفة: إنما تقع الفُرقةُ بتفريق الإمام بينهما بعد تلاعُنِهما.

واتفقوا في أنَّ الفُرقةَ بينهما مُؤبَّدةٌ؛ لا يجوز للزوج أن يَنكحَها أبدًا إذا لم يُكذِّبِ الزوجُ نفسَه بعد اللعان، فلو كذَّبَ الزوجُ نفسَه بعد اللَّعان، جاز للزوج أن يَنكحَها عند أبي حنيفةَ وحدَه.

ويجوز اللِّعان بين كلِّ زوجين عند الشافعي ومالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يجوز اللِّعانُ إذا كان الزوجانِ رقيقَين أو ذِمِّيَّين، أو كان أحدُهما رقيقًا أو ذِمِّيًّا أو محدودًا في القَذْف.

قوله: "كذبتُ عليها إن أمسكتُها، وطلَّقها ثلاثًا"؛ يعني: إن أمسكتُها في نكاحي، ولم أُطلِّقْها فقد كذبتُ فيما قلتُ من قذفِها، فطلَّقَها ثلاثًا.

قال مُحيي السُّنَّة: لا حاجةَ إلى تطليقه؛ لأنَّ الفُرقةَ قد وقعت بينهما باللِّعان، إلا أنَّ الرجلَ كان جاهلًا بوقوع الفُرقة باللِّعان، فلهذا طلَّقَ.

وقال عثمانُ البَتِّيُّ: لا تقع الفُرقةُ بينهما باللِّعان، بل يحتاج إلى التطليق.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن جاءت به أَسحمَ، أدْعَجَ العينين، عظيمَ الأَلْيَتَين، خَدلَّجَ الساقَين"، (الأسحم): الأسود، (أدعَج العينين)؛ أي: أسود العينين، (خَدَلَّج الساقين)؛ أي: غليظ الساقين، والضمير في (به) يعود إلى الحَمْل، وكان الرجلُ الذي نُسِبَ الزِّنا إليه بهذه الصفات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان الولدُ بهذه الصفات، عُلِمَ أنه من ذاك الزاني.

قوله: "وإن جاءت به أُحَيمر كأنه وَحَرَة"، (أُحَيمر): تصغير أحمر، (الوَحَرَة)

ص: 110

بفتح الراء والحاء المهملة: دُوَيبةٌ حمراءُ تَلزَق على الأرض، كان عُويمر - الذي هو زوجُ هذه المرأة - أحمرَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لو كان الولدُ أحمرَ، فإنه ليس من الرجل الذي نُسِبَ إليه الزِّنا، بل هو من عُويمرٍ.

* * *

2466 -

وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للمُتلاعِنَيْنِ: "حِسابُكما على الله، أحدُكما كاذِبٌ لا سبيلَ لكَ عليها"، قال: يا رسولَ الله! مالي؟ قال: "لا مالَ لَكَ، إنْ كنتَ صدَقتَ عليها فهو لها بما استحْلَلتَ مِن فرجِها، وإنْ كنتَ كذبتَ عليها فذاكَ أبعدُ وأبعدُ لكَ منها".

قوله: "لا سبيلَ لك"؛ يعني: لا يجوز لك أن تكونَ معها، بل حُرَّمتْ عليك أبدًا.

قوله: "مالي؟ "؛ يعني: إذا حصلت الفُرقة، فأين ذهب ما أعطيتُها من المَهر؟ فأجابه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنَّ المَهرَ في مقابلة وَطئِك إياها.

قوله: "وإن كنتَ كذبتَ عليها، فذاك أبعد"؛ يعني: وإن كذبتَ في أنها زَنَتْ، فأيضًا مَهرُك في مقابلة وَطئك إياها، كما أنك لو صدقتَ في أنها زَنَتْ، بل عَودُ المَهر إليك فيما إذا كذبتَ عليها أبعدُ؛ لأنه إذا لم يَعُدِ المَهرُ إليك مع أنك لم تكذبْ، فلأنْ لا يعودَ إليك مع أنك كذبتَ أَولى.

* * *

2467 -

وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّ هِلالَ بن أُميَّةَ قذفَ امرأتَه عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بشَريكِ بن سَحْماءَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"البَينَةُ أو حدٌّ في ظهرِكَ"، فقال هلالٌ: والذي بعثَكَ بالحقِّ إني لَصادِقٌ فليُنزِلَنَّ الله ما يُبرِّئ ظهري من الحدِّ، فنزلَ جبريلُ عليه السلام وأنزلَ عليه {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} - فقرأ حتَّى بلغ - {إِنْ كَانَ

ص: 111

مِنَ الصَّادِقِينَ}. فجاءَ هلالٌ فشَهِدَ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّ الله يعلمُ أنَّ أحدَكما كاذبٌ، فهل منكما تائبٌ؟ "، ثم قامَتْ فشهِدَتْ، فلما كانَت عندَ الخامسةِ وَقَفوها وقالوا: إنَّها مُوجِبةٌ! قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: فتَلَكَّأَتْ ونكصَتْ حتَّى ظَنَنا أنها تَرجِعُ، ثم قالت: لا أَفْضَحُ قَومي سائرَ اليومِ، فمَضَتْ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَبْصِرُوها! فإنْ جاءَت به أَكَحَلَ العينينِ، سابغَ الأَليتينِ، خَدَلَّجَ السَّاقينِ فهو لشريكِ بن سَحْماءَ"، فجاءَت به كذلكَ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لولا ما مَضَى مِن كتابِ الله لكانَ لي ولها شأنٌ".

قوله: "قذف امرأتَه عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم بشَريك"؛ يعني: قال: إنَّ شَريكًا وَطِئها بالزِّنا.

قوله: "البينةَ أو حدًّا"؛ يعني: أَقِمْ أربعةَ شهودٍ بأنها زَنَتْ، أو انقَدْ لحدِّ القَذْف، وقولنا:(انقَدْ): أمرُ مُخاطَب، من (انقادَ): إذا استَسلَمَ وأطاعَ.

قوله: "فتلَكَّأت"؛ أي: توقَّفت.

"ونَكصَت"؛ أي: انقلَبَت، ورجعت على عقبَيها؛ يعني: سكنَتْ بعد الكلمة الرابعة حتى ظننَّا أنها ندمَتْ على اللِّعان.

قولها: "لا أفضحُ قومي سائرَ اليوم"؛ يعني: فقالت: لا أفضحُ قومي في جميع الدهر، بأن أرجعَ عن اللِّعان، وأُثبتَ على نفسي الزِّنا.

"فمضَتْ"؛ أي: أتَمَّت اللِّعانَ بأن قالت الكلمةَ الخامسةَ.

قوله: "لولا ما مضى من كتابِ الله لَكانَ لي ولها شأنٌ"، (شأن): اسمُ (كان)، و (لي) خبرُها، و (الشأن): الأمر؛ يعني: لولا أنَّ القرآنَ حكمَ بأنه لمَّا تلاعَنَ الزوجانِ، لم يكنْ عليهما حدٌّ ولا تعزيرٌ، وإلا لأَقمتُ عليها حدَّ الزِّنا؛ لأنَّ الولدَ يُشبهُ الزاني.

ص: 112

وهذا دليلٌ على أنَّ القاضي إذا حكمَ بظاهر الشَّرع، لا يجوز التجسسُ عن الباطن، وإن كان هناك قرينةٌ تدلُّ على كذب المُدَّعِي أو المُدَّعَى عليه.

* * *

2468 -

وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال سعدُ بن عُبادةَ: لو وَجدتُ معَ أهلي رَجُلًا لَمْ أَمَسَّهُ حتَّى آتيَ باربعةِ شهداءَ!؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"، قال: كلا والذي بعثَكَ بالحقِّ، دمانْ كُنْتُ لأُعَاجِلُه بالسَّيفِ قبلَ ذلكَ، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"اسمَعُوا إلى ما يقولُ سَيدُكم، إنه لَغَيُورٌ وأنا أَغْيَرُ مِنه، والله أَغْيَرُ منِّي".

قوله: "لم أمسَّه"؛ أي: لم أضربْه، ولم أقتلْه، حرفُ الاستفهام هنا مقدرةٌ، تقديره: ألم أمسَّه؟

قوله: "والله أغيرُ مني"، (الغَيرة): أن يَكرهَ ويَغضبَ الرجلُ الشَّركة في حقِّه؛ يعني: يَكرهُ ويَغضبُ أن يَتصرَّفَ غيرُه في مُلكِهِ، هذا هو الأصل، والمشهور عند الناس: أن يَغضبَ الرجلُ على مَن فعلَ بامرأته أو بقريب له فاحشة، أو نظر إليها، وفي حقِّ الله تعالى: أن يَغضبَ على مَن فعل مَنهيًّا.

* * *

2469 -

وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا أحدَ أَغْيَرُ مِن الله، فلذلكَ حرَّمَ الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بَطَنَ، ولا أحدَ أحبُّ إليه المِدْحَةُ مِن الله، فلذلكَ مَدَحَ نفسَه".

وفي روايةٍ: "ولا أحدَ أحبُّ إليهِ المِدْحَةُ مِن الله عز وجل، ومِن أجلِ ذلكَ وعدَ الله الجَنَّةَ، ولا أحدَ أحبُّ إليه العُذرُ مِن الله تعالى، من أجلِ ذلكَ بعثَ المُنذِرينَ والمُبَشِّرين".

ص: 113

قوله: "ولا أحدَ أحبُّ إليه المِدحة"، (المِدْحة) بكسر الميم: بمعنى المَدح.

اعلمْ أنَّ الحبَّ فينا والغضبَ والفرحَ والحزنَ وما أشبه ذلك: عبارةٌ عن تغيُّر القلب وغليانه، ويزيد [قدر] واحدٍ منَّا بأن يمدحَه أحدٌ، وربما ينقصُ قدرُه بترك المدح، والله تعالى مُنَزَّهٌ عن صفات المخلوقات؛ بل الحُبَّ فيه معناه: الرِّضا بالشيء وإيصالُ الرحمة والخير إلى مَن أحبَّه، والغضبُ فيه؛ إيصالُ العذاب إلى مَن غضبَ عليه؛ يعني: مَن مدحَه أوصلَ إليه الرحمةَ والخيرَ.

قوله: "وكذلك وعدَ الله الجنةَ"؛ يعني: وعدَ الله الجنةَ لمن مدحَه وأطاعَه؛ ليَمدحَه العبادُ ويطيعوه.

قوله: "فمن أجل ذلك بعثَ المُنذرِين والمُبشِّرِين"؛ يعني: بعثَ الله النبيين ليُبشِّرَ المُطِيعين وليُخوَّفَ العاصين؛ ليعتذروا ويتوبوا عن معاصيهم، ليَقبَلَ عذرَهم وتوبتَهم.

رَوى هذا الحديثَ ابن مسعود.

* * *

2470 -

وقال: "إنَّ الله تعالى يَغارُ، وإنَّ المُؤمِنَ يَغارُ، وغَيْرَةُ الله: أنْ يأتيَ المؤمنُ ما حرَّمَ الله".

قوله: "إن الله تعالى يَغارُ"؛ أي: يغضب على مَن فعلَ فاحشةً.

رَوى هذا الحديثَ أبو هريرة.

* * *

2472 -

عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: أنَّ أعرابيًّا أَتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ

ص: 114

امرأَتي ولدَتْ غلامًا أسودَ، واني أَنكَرْتُه؟ فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"هل لكَ مِن إبلٍ؟ " قال: نعم، قال:"فما أَلوانُها؟ " قال: حُمْرٌ، قال:"هل فيها مِن أَوْرَقَ؟ " قال: إنَّ فيها لَوُرْقًا، قال:"فأنَّى تَرَى ذلكَ جاءَها؟ " قال: عِرْقٌ نزَعَها، قال:"ولعلَّ هذا عِرْقٌ نَزَعَه"، ولم يُرَخِّصْ له في الانتفاءِ منه".

قوله: "إن فيها لوُرقًا"، (الوُرْق): جمع أورق، وهو من الإبل: ما فيه بياضٌ وسوادٌ.

قوله: "فأنَّى ترى ذلك جاءها؟ "؛ يعني: إذا كانت ألوانُ إبلك الحُمرةَ، فمِن أين تَرى حصلت هذه الإبلُ الوُرْقُ؟ (ذلك) إشارةٌ إلى الأورق.

قوله: "عرقٌ نزعَها": الضمير في (نزعَها) يعود إلى (الوُرْق).

يعني: فكما أنَّ هذا عرقٌ نزعَها، فلونُ ولدِك أيضًا عرقٌ نزعَه، وهذا دليلٌ على عدم جواز اللِّعان بمجرد مخالفةِ لونِ الولدِ لونَ أبيه وأمِّه، أو بمخالفة صورتهما.

* * *

2473 -

وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: كَانَ عُتبةُ بن أبي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلى أخيهِ سعدِ بن أبي وَقَّاصٍ: أنَّ ابن وَلِيدةِ زَمْعةَ مِنِّي فاقبضْهُ إليكَ، فلمَّا كانَ عامُ الفتح أَخَذَه سعدٌ فقال: إنه ابن أخي، وقالَ عبدُ بن زَمْعْةَ: أخي، فَتَساوَقا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعدٌ: يا رسولَ الله! إنَّ أخي كانَ عَهِدَ إليَّ فيه، وقال عبدُ بن زَمْعَةَ: أخي، وابن وَلِيدةِ أبي، وُلِدَ على فراشِهِ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"هُوَ لكَ يا عبدَ بن زَمْعَةَ، الولدُ للفِراشِ وللعاهِرِ الحَجَرُ"، ثم قالَ لِسَودةَ بنتِ زَمْعة: احتجِبي منه، لِما رَأَى مِن شَبَهِهِ بعُتبةَ، فما رآها حتى لَقيَ الله. ويُروى:"هو أخوكَ يا عبدُ".

ص: 115

قوله: "إن ابن وَليدةِ زَمْعَة مني"، (وليدة زَمْعَة)؛ أي: جارية زَمْعَة، و (زَمْعَة): أبو سَودةَ زوجةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ يعني: كان عُتبةُ وطِئ هذه الجاريةَ، وولدَتْ ابنًا، فظنَّ عُتبةُ أنَّ نسَبَ ولد الزِّنا ثابتٌ للزاني، فأوصى عُتبةُ بأخيه سعد، وأمرَه أن يقبضَ ذلك الابن إلى نفسه.

قول عبدِ بن زَمْعَة: "إنه أخي"؛ يعني: قال ابن زَمْعَة، واسمه: عَبْدان: الابن الذي ولدَتْه وليدةُ أبي هو أخي، لأنَّ أبي كان يُجامعُها.

قوله: "فتَساوَقا"؛ أي: أتَيَا معًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: "عهد إليَّ"؛ أي: أوصاني وأمرَني.

قوله: "الولدُ للفِراشِ"؛ يعني: الولدُ يتبعُ الأمَّ إذا كان الوطء زنا، هذا هو المراد هنا، وإذا كان أبُ الولد وأمُّه رقيقَين، أو أحدُهما رقيقًا فالولدُ يتبعُ الأمَّ أيضًا.

قوله: "وللعاهِرِ الحَجَرُ"، (العاهِر): الزاني؛ يعني: يُرجَم الزاني إن كان مُحصَنًا، ويُجلَد إن كان غيرَ مُحصَن، ويُحتمَل أن يكونَ معناه: وللزاني الحِرمانُ من الميراث والنَّسَب، والحَجَرُ على هذا التأويل عبارةٌ عن الحِرمان، كما يُقال للمحروم: في يدِه الترابُ والحَجَرُ.

قوله صلى الله عليه وسلم لسَودةَ: "احتَجِبي"؛ يعني: ظاهرُ الشرع أنَّ هذا الابن أخوك يا سَودةُ، ولكنَّ التقوى أن تحتجبي منه؛ لأنه يُشبه عُتبةَ.

* * *

2474 -

وقالت عائِشَةُ رضي الله عنها: دخلَ عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ وهو مسرورٌ فقالَ: "أَيْ عائشةُ! ألم تَرَيْ أنَّ مُجزِّرًا المُدْلِجيَّ دخلَ فرأى أسامةَ وزيدًا وعليهما قَطيفةٌ، قد غَطَّيا رُؤوسَهما وبدَتْ أقدامُهما، فقال، إنَّ هذه

ص: 116

الأقدامَ بعضُها مِن بعضٍ".

قولها: "دخل عليَّ رسولُ الله ذات يوم"؛ أي: يومًا، و (الذاتُ) زائدةٌ.

"وهو مسرورٌ"؛ أي: فَرِحٌ.

"وعليهما قَطِيفةٌ"؛ أي: كِساء.

"غطَّيَا"؛ أي: سَتَرا.

وسببُ هذا الحديث: أنَّ أسامةَ بن زيدِ بن حارثةَ كان أسودَ غايةَ السَّواد، وأبوه كان أبيضَ غايةَ البياض، فتكلَّم الناسُ فيه، وقالوا: كيف يكون أسامةُ من زيدٍ مع اختلاف لونَيهما اختلافًا ظاهرًا؟! وكان يومًا أسامةُ وزيدٌ قد اضطجعا تحتَ كِساء، ورؤوسُهما غيرُ ظاهرةٍ، وأقدامُهما ظاهرةٌ، فقال مُجزِّز المُدلِجيُّ: هذه الأقدامُ بعضُها من بعضٍ؛ يعني: أسامة من زيد، ففرح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام، فصار هذا سُنَّةً؛ فإذا اشتبَه نسبُ ولدٍ على الناس، فَلْيَعرضوا ذلك الولدَ على القافة، والقافة: مَن تعرفُ نسبَ الولد، فمَن ألحقَتِ القافةُ نسبَ الولد به يكون الولدُ ابنه.

واختلفوا أنَ القافةَ لتكنْ (1) من قبيلة المُدلِج، كما أنَّ المُجزِّزَ كان منهم، أو يجوز أن يكونَ من غيرهم إذا علمَ القيافةَ.

والحُكمُ بالقِيافة مذهبُ الشافعي ومالك وأحمد.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز الحُكمُ بقول القافة.

فقال أبو حنيفة: إذا اشتُبه ولدٌ بين رجلَين، أو بين امرأتَين، يُحكَم بأنه ولدُهما، وإن اشتُبه بين ثلاثةٍ رجالٍ أو نساءٍ أو أكثرَ، [فـ]ـلا يُحكَم بأنه ولدُهم.

وقال أبو يوسف: إن اشتُبه بين رجلَين، يُحكَم بأنه ولدُهما، وإن اشتُبه بين امرأتين، لا يُحكَم.

(1) كذا في جميع النسخ، والمراد: أن القافة يجب أن تكون

والله أعلم.

ص: 117

وقال محمد بن الحسن: إن اشتبه بين جماعةٍ أو أقلَّ من الرجال والنساء، يُحكَم بأنه ولدُهم.

* * *

2475 -

وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "من ادَّعى إلى غيرِ أبيهِ وهو يعلمُ فالجنةُ عليهِ حرامٌ".

قوله: "مَن ادَّعى إلى غير أبيه - وهو يعلم - فالجنةُ عليه حرامٌ"؛ يعني: كلُّ ولدٍ لا يُعرَف أبوه على التعيين، فإن كان يدَّعيه واحدٌ أو اثنان، عُرِضَ ذلك الولدُ على القافة؛ ليتبينَ أباه، فإن لم تكن قافةٌ، تُرك الولدُ حتَّى يبلغَ، فينتسبُ بميل نفسه إلى أبيه؛ فغلَّظَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إثمَ مَن انتسبَ إلى غير أبيه مع أنه يَعرف: أنَّ الذي يَنتسب إليه ليس بأبيه.

قوله: "فالجنةُ عليه حرامٌ": هذا يَحتمل أن يكونَ جزاءَ مَن اعتقد أنَّ الانتسابَ إلى غير أبيه حلالٌ، فمَن اعتقد الحرامَ حلالًا كفرَ، وحُرمت عليه الجنةُ. ويُحتمَل أنَّ معناه: فالجنةُ عليه حرامٌ قبلَ أن يُعذَّبَ بقدرِ إثمِ الانتسابِ إلى غير أبيه، وهذا جزاءُ مَن لم يعتقد الانتسابَ إلى غير أبيه حلالًا.

رَوى هذا الحديثَ سعد وأبو بَكْرَة.

* * *

2476 -

وقال: "لا تَرْغبُوا عن آبائِكم فمن رَغِبَ عن أبيهِ فقد كفَرَ".

قوله: "لا تَرغبوا عن آبائكم"؛ يعني: لا تنتسبوا إلى غيرِ آبائكم، كما ذُكر.

قوله: "فمَن رغبَ عن أبيه، فقد كفرَ": فإن اعتقدَ الانتسابَ إلى غير أبيه حلالًا، فلا شكَّ أنه كافرٌ، وإن لم يعتقدْه حلالًا، لم يكنْ كافرًا، وحينَئذٍ قولُه:

ص: 118

(فقد كفرَ) معناه: فقد جحدَ حقَّ أبيه ونعمتَه، وجحودُ النعمة: عصيان.

رَوى هذا الحديثَ أبو هريرة.

* * *

مِنَ الحِسَانِ:

2477 -

عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: أنَّه سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ لما نزلَت آيةُ المُلاعَنَةِ: "أيُّما امرأةٍ أَدخَلَتْ على قومٍ مَن ليسَ منهم فليسَتْ مِن الله في شيءٍ، ولن يُدخِلَها الله جنَّتَهُ، وأيُّما رَجُلٍ جَحَدَ ولدَهُ وهو ينظرُ إليه احتجبَ الله منه وفضحَه على رؤوسِ الخلائقِ في الأوَّلينَ والآخِرينَ". ويُروى "وفَضَحَهُ على رؤوسِ الأَشهادِ".

قوله: "فليست من الله في شيء"؛ يعني: أيةُ امرأةٍ وَلدتْ من الزِّنا، وهي تعلم كونَ الولد من الزِّنا، ثم قالت: هذا الولدُ من زوجي، فليست من الله في رحمةٍ وعفوٍ؛ يعني: لا تجد العفو.

وبحث هذا الحديث كبحث الحديث المتقدم في أنها تعتقد الحِلَّ أم لا.

قوله: "هو ينظر إليه"؛ أي: يَعلم أنه ولدُه ويُنكرُه مع العلم.

قوله: "على رؤوس الأشهاد"، (الأشهاد): جمع شاهد، وهو يَحتمل أن يكونَ بمعنى: الحاضر؛ أي: الحاضرين يومَ القيامة، ويَحتمل أن يكونَ بمعنى: الشاهد، والمراد منه أيضًا: أهلُ القيامة؛ لأنهم يَشهدُ بعضُهم على بعضٍ.

* * *

2478 -

ويُروَى عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قال: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ لي امرأةً لا تَردُّ يَدَ لامِسٍ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"طلِّقْها"، فقال: إني

ص: 119

أُحِبُّها، قال:"فأمْسِكْها إذًا".

قوله: "لا تردُّ يَدَ لامسٍ"؛ أي: لا تمنع مَن يقصدُها بفاحشةٍ.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فأَمسِكْها"؛ أي: فاحفظْها ولازِمْها كي لا تفعلَ فاحشةً.

وهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ تطليقَ مثل هذه المرأة أَولى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قدَّم الطلاقَ على الإمساك، فلو لم يتيسَّرْ تطليقُها بأن يكونَ يُحبُّها، أو يكونَ له منها ولدٌ يشقُّ مفارقةُ الولدِ الأمَّ، أو يكونَ لها عليه دَينٌ ولم يتيسَّرْ له قضاؤها، فحينَئذٍ يجوز له أن لا يُطلَّقَها؛ ولكن بشرط أن يمنعَها عن الفاحشة، فإذا لم يُمكنْه أن يمنعَها عن الفاحشة، يعصي بترك تطليقها.

* * *

2479 -

عن عمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى: أنَّ كلَّ مستَلْحَقٍ استُلحِقَ بعدَ أبيهِ الذي يُدْعَى له ادَّعاهُ ورثَتُه، فقَضَى: أنَّ مَن كانَ مِن أَمَةٍ يملِكُها يومَ أصابَها فقد لحِقَ بمن استلحَقَهُ، وليسَ له مما قُسِمَ قبلَه مِن الميراثِ شيءٌ، وما أدركَ من ميراثٍ لم يُقْسَمْ فلهُ نصيبُه، ولا يُلحَقُ إذا كانَ أبوهُ الذي يُدعى لهُ أنكرَهُ، فإن كانَ مِن أَمَةٍ لم يملِكْها، أو مِن حُرَّةٍ عاهَرَ بها فإنه لا يَلحقُ ولا يرثُ، وإن كانَ الذي يُدعى له هو ادَّعاهُ فهو ولدُ زَنْيَةٍ، مِن حُرَّةٍ كانَ أو أَمَةٍ.

قوله: "إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قضَى أن كلَّ مُستلحَق

" إلى آخر الحديث.

(المُستلحَق) بفتح الحاء: الولد.

"استُلحِق" علي بناء المجهول؛ أي: طلب وادَّعَى نسبَه.

"يُدعَى له"؛ أي: يُنسَب إليه.

ذكرَ هذا الحديثَ الخطَّابي وقال: في ظاهر هذا الحديث إشكالٌ كثيرٌ،

ص: 120

ورفعُ إشكالِه بأن يعلمَ سببَ تكلُّمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث: وهو أنَّ أهلَ الجاهلية كانت عادتُهم أنهم يُرسلون إماءَهم؛ ليَكتسبن لهم الأموالَ بالزِّنا، وكان ساداتُهنَّ يَطؤُونهن أيضًا، فلما ولدَتْ أَمَةٌ منهنَّ ولدًا، فربما يَدَّعي ذلك الولدَ الزاني وسيدُها؛ لأنهما يَطآنها جميعًا، فقضَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الولدَ للسيد؛ لأنَّ الولدَ للفِراش، والأَمَةُ فِراشُ السيد كمنكوحتِه، فإن ادَّعاه الزاني وسكت السيدُ، فلم يدَّعِه السيدُ، ولم يُنكرْه حتى مات السيدُ، فلما مات السيدُ استَلحقَ ذلك الولدَ ورثتُه، لَحقَ بهم، فإنْ قُسِمَ الميراثُ في الجاهلية بين ورثة ذلك الميتِ قبل أن يَستَلحقَ ورثتُه ذلك الولدَ؛ لم يكن لذلك الولد شيءٌ من ذلك الميراث، لأنَّ ذلك الميراثَ وقعَت قسمتُه في الجاهلية، والإسلامُ يعفو عما وقع في الجاهلية، ولا يُؤاخِذ به، فإن لم يُقسم الميراثُ قبل أن يَستَلحقَ الورثةُ ذلك الولدَ، يكون الولدُ شريكًا للورثة في الميراث.

هذا بحثُ ما إذا مات سيدُ الأَمَة، ولم يَدَّعِ الولدَ ولم يُنكرْه، فأمَّا إذا أنكرَ الولدَ، فلم يجزْ لورثته أن يَستلحقوا ذلك الولدَ بعد موته، فإن استَلحقوا، لم يَلحَقْ به.

فإذا عرفتَ هذه القاعدةَ فاعرفْ أنَّ مقصودَ هذا الحديث ما ذُكر في هذا الشرح، وبعد ذلك نشرحُ كلَّ لفظٍ فيه إشكالٌ.

قوله: "بعد أبيه الذي يُدعَى له"؛ يعني: بعد موت سيد تلك الأَمَة، والضمير في (أبيه) ضمير الولد؛ يعني: إذا كان الولدُ يَنسبُه الناسُ إلى سيد تلك الأَمَة، ولم ينكرْه أبوه حتَّى يموتَ؛ فيجوز استلحاقُ ورثته، هذا ظاهرُ الحديث، ولكن لا يُشترَط أن يَنسبَ الناسُ ذلك الولدَ إلى سيد الأَمَة، بل إذا لم يُنكر السيد ذلك، صحَّ استلحاقُ ورثته بعد موته، سواءٌ نسبَ الناسُ ذلك الولدَ إلى سيد الأَمَة، أو إلى الزاني، أو سكتوا عن نسبته؛ وإنما يصحُّ الاستلحاقُ إذا كانت الأَمَة ملكًا لسيدها الواطئ يومَ الوطء.

ص: 121

قوله: "ولا يَلحق إذا كان أبوه الذي يُدعَى له أنكرَه"؛ يعني: إذا قال السيد: ليس هذا الولدُ مني، [فـ]ـلا يجوز لورثته أن يَستلحقوا ذلك الولدَ بعد موت أبيهم؛ لأنَّ الولدَ انتَفى عن أبيهم بانكاره الولدَ، وإنما ينتفي الولدُ عنه إذا ادَّعى الاستبراءَ، وهو أن يقول: مضى عليها حَيضٌ بعد أن وطِئتُها، وما وطئتُها بعد مضي الحَيض حتى ولدَتْ، وحلفَ على الاستبراء، فحينَئذٍ ينتفي عنه الولدُ.

قوله: "فإن كان الَّذي يُدعَى هو ادَّعاه، فهو ولدُ زَنْيةٍ من حرَّة كان أو أَمَة".

* * *

2480 -

عن جابرِ بن عَتيكٍ رضي الله عنه: أنَّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مِن الغَيْرَةِ ما يُحِبُّ الله، ومنها ما يُبْغِضُ الله، فأمَّا التي يُحبُّها الله: فالغَيْرةُ في الرِّيبةِ، وأمَّا التي يُبغِضُها الله: فالغَيْرةُ في غيرِ رِيبةٍ، وإنَّ مِن الخُيَلاءِ ما يُبْغِضُ الله، ومنها ما يحبُّ الله، فأمَّا الخُيَلاءُ التي يحبُّ الله: فاختيالُ الرجلِ عندَ القِتالِ واختيالُه عندَ الصَّدقةِ، وأمَّا التي يُبْغِضُ الله تعالى: فاختيالُهُ في الفخرِ". ويُروى: "في البَغْيِ".

قوله: "فالغَيرة في الرِّيبة"، (الرَّيبة): التُّهمة؛ يعني: إذا علمَ الرجلُ أنَّ زوجتَه أو أَمَتَه أو غيرَهما من أقاربه تدخل على أجنبيًّ، أو يدخل أجنبيٌّ عليها، أو يجري بينهما مزاحٌ وانبساطٌ فها هنا موضعُ الرِّيبة؛ فينبغي للرجل أن لا يَرضَى بهذا، بل يدفعُ تلك المرأةَ عن الأجنبيِّ، ويدفع الأجنبيَّ عن الدخولَ عليها والانبساط معها؛ فإنَّ هذه الغَيرةَ يحبُّها الله. وأمَّا إذا لم يرَ عليها الدخولَ على أجنبيٍّ، ولا دخولَ أجنبيٍّ عليها، ولكن يقع في خاطره ظنُّ سوءٍ في حقِّها من غير أن يَرى بها أمارةَ فاحشةٍ فالغَيرةُ - أي: ظنُّ السوء - ها هنا ليسـ[ـت]، مما يحبُّها الله، بل يُبغضها الله؛ لأنَّ ظنَّ السوء في حقِّ الناس من غير أمارةٍ ظاهرةٍ مذموم.

ص: 122