الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
17 - كِتابُ الجهَادِ
[17]
كِتابُ الجهَادِ
(كتاب الجهاد)
مِنَ الصِّحَاحِ:
2854 -
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آمَنَ بالله وَبرَسُولهِ، وأقامَ الصلاةَ، وصامَ رمضانَ، كانَ حَقًّا على الله أَنْ يُدْخِلَهُ الجنَّةَ، جاهدَ في سبيلِ الله أو جَلَسَ في أرضهِ التي وُلِدَ فيها"، قالوا: أفلا نُبَشِّرُ الناسَ؟ قال: "إنَّ في الجَنَّةِ مئةَ درجةٍ أعدَّها الله للمُجاهِدِينَ في سبيلِ الله، ما بين الدَّرجتَيْنِ كما بينَ السَّماءِ والأرضِ، فإذا سَأَلتمُ الله فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فإنَّه أَوْسَطُ الجَنَّةِ وأَعلى الجَنَّةِ، وفوقَهُ عَرْشُ الرَّحمَنِ، ومنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ".
قوله: "جاهدَ في سبيل الله، أو جلسَ في أرضه التي وُلِدَ فيها"؛ يعني: ليس الجهادُ فرضَ عينٍ كالإيمان بالله ورسوله، وإقامِ الصلاة، وصومِ رمضان، والزكاة، فإنهن فروضُ عينٍ مَنْ تركَهُنَّ عُذِّبَ يومَ القيامة، والجهادُ فرضٌ على الكفاية، فإذا قام به جماعةٌ سقطَ عن الباقين.
* * *
2855 -
وقال: "مَثَلُ المُجَاهِدِ في سَبيلِ الله كمثلِ الصائمِ القائمِ القانِتِ
بآياتِ الله، لا يَفْتُرُ مِن صِيامٍ ولا صَلاةٍ حتى يرجِعَ المُجاهدُ في سَبيلِ الله".
قوله: "القانتِ بآياتِ الله"؛ يعني: العاملِ بالقرآن، أو قارئِ القرآن في صلاته.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2856 -
وقالَ: "انتدَبَ الله لِمَن خَرجَ في سَبيلهِ لا يُخْرِجُه إلا إيمانٌ بي، وتصدِيقٌ برُسُلِي، أنْ أُرْجِعَهُ بما نالَ مِن أجْرٍ أو غَنِيمةٍ، أو أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ".
قوله: "انتدبَ الله لمَنْ خرجَ في سبيله"، (ندبَ): إذا دُعِيَ إلى أمرٍ، و (انتدب): إذا أجاب؛ أي: أجابَ الله لمن خرجَ في سبيله؛ أي: في الجهادِ، وضَمِنَ له.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2857 -
وقال: "والذي نفسِي بيدِهِ، لو أَنَّ رِجَالاً مِن المؤمنينَ لا تطيبُ أنفسُهم أنْ يتخلَّفوا عني، ولا أجدُ ما أَحمِلُهم عليه، ما تَخلَّفتُ عن سَرِيَّةٍ تَغْزو في سَبيلِ الله، وقال: والذي نفسِي بيدِهِ، لَوَدِدْتُ أنيِّ أُقْتَلُ في سَبيلِ الله ثم أُحيا، ثم أُقْتَلُ ثم أُحيَا، ثم أُقْتَل ثم أُحْيَا ثم أُقْتَلُ".
قوله: "لولا أنَّ رجالاً من المؤمنين لا تَطِيبُ أنفسُهم أن يتخلَّفُوا عني، ولا أجِدُ ما أَحْمِلُهم عليه"؛ يعني: أريدُ أن أمشيَ إلى الغزو مع كلِّ جيشٍ من غايةِ فَضْلِ الغَزْو، وإلا أن بعضَ أصحابي فقراءُ ليس لهم مركوباتٌ، فإن ذهبتُ إلى الغزو، وتركتُهم في مقامهم؛ لضاق صدرُهم بتخلُّفِهم؛ أي: بتأخُّرِهم عني،
ومفارقتهم إياي، وليس لي مركوباتٌ أُعْطِيها إياهم؛ ليركبوا عليها.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2858 -
وقال: "رِبَاطُ يومٍ في سَبيلِ الله خيرٌ مِن الدُّنيَا وما فيها".
قوله: "رباطُ يومٍ في سبيلِ الله خيرٌ من الدنيا وما عليها"؛ أي: إقامةُ يومٍ في الجهاد، وانتظار الغزو يومًا خيرٌ من الدنيا وما فيها من المال.
روى هذا الحديث سهل بن سعد الساعدي.
* * *
2859 -
وقال: "لَغَدوَةٌ في سَبيلِ الله أو رَوْحَةٌ خيرٌ مِن الدُّنيَا وما فيها".
قوله: "لَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو رَوْحَةٌ"، (الغَدْوَةُ) - بفتح الغين -: الذهابُ أولَ النهار، و (الرَّوْحَةُ) - بفتح الراء -: الذهابُ والعملُ آخرَ النهار.
روى هذا الحديثَ سهلُ بن سعدٍ وأنسٌ.
* * *
2860 -
وقال: "رِباطُ يوم وليلةٍ خيرٌ من صِيامِ شَهرٍ وقِيامِهِ، وإنْ مَاتَ جَرَى عليهِ عَمَلُه الذي كانَ يعمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عليهِ رِزقُهُ، وأَمِنَ الفَتَّانَ".
قوله: "وإن ماتَ جَرَى عليه عملُه الذي كان يعملُه" في حياته؛ يعني: إن مات أو قُتِلَ في الغزو يُكتبْ له ثوابُ العمل الذي كان يعملُه في حياته؛ يعني: أبدًا يصلُ إليه ثوابُ العمل؛ لأنه كان يسعى في إحياء الدين، وقَتْلِ أعداءِ الله.
قوله: "وأُجْرِيَ عليه رِزْقُه"؛ أي: يُطْعَمُ من طعامِ الجنة، ويَشْربُ من
شرابها، ويأتي شرحُ هذا في هذا الباب في قوله:"أرواحُهم في جوفِ طير".
قوله: "وأَمِنَ الفَتَّانَ"، للفتن معانٍ كثيرةٌ، واللائقُ هنا أن تكون بمعنى الإحراقِ والتعذيب.
و (الفُتَّان) - بضم الفاء -: جمع فاتن، وبفتحها: مبالغة، وكلاهما من الفَتْنِ بمعنى الإحراق والتعذيب؛ أي: أمنَ من النار المُحْرِقَة، أو من الزبانية الذين يعذِّبون الكفار والفجار، أو من فتنة القبر؛ أي: عذابه، ويسهلُ عليه جوابُ المنكَرِ والنَّكير.
روى هذا الحديثَ سلمانُ الخير.
* * *
2861 -
وقال: "ما اغبَرَّت قَدَمَا عبدٍ في سَبيلِ الله فتمسَّهُ النَّارُ".
قوله: "ما اغْبَرَّتْ قدما عبدٍ"، (اغبرَّ)؛ أي: صارَ ذا غُبَار؛ يعني: من وصلَ إليه الغبارُ في الغزو لم تصلْ إليه نارُ جهنم.
روى هذا الحديثَ أنسٌ.
* * *
2862 -
وقال: "لا يجتَمعُ كافِرٌ وقاتِلُهُ في النَّارِ أبَدًا".
قوله: "لا يجتمع كافرٌ وقاتِلُه في النار أبدًا"؛ يعني: إذا كان الكافرُ في النار لا يكون قاتلُه في النار.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2863 -
وقال: "مِن خَيْرِ مَعاشِ النَّاسِ لَهم، رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فرسِهِ في
سَبيلِ الله يطيرُ على مَتْنِهِ، كلما سَمِعَ هَيْعةً أو فَزْعَةً طارَ عليه يبتغي القتلَ والمَوتَ مَظَانَّةُ، أو رَجُلٌ في غُنَيْمَةٍ في رأسِ شَعَفَةٍ مِن هذهِ الشَّعَفِ أو بطنِ وادٍ من هذه الأودِيةِ، يُقيمُ الصَّلاةَ ويُؤْتي الزَّكاةَ ويعبدُ ربَّهُ حتى يَأتِيَه اليقينُ، ليسَ مِن النَّاسِ إلا في خَيرٍ".
قوله: "يطيرُ"؛ أيَ: يُسْرِعُ "على مَتْنِه"؛ أي: على ظهره.
"هَيْعَةً"؛ أي: صوتًا.
"فَزْعَةً"؛ أي: خوفًا.
"طار عليه"؛ أي: أسرعَ على ظهر فرسه؛ يعني: كلَّما سمع صوتًا أو خوفًا بحضور الكفار يَقْصِدُ دَفْعَهم.
قوله: "يبتغي القتلَ والموتَ مَظَانَّه"، (يبتغي)؛ أي: يطلبُ، (المَظَانُّ): جمع مَظِنَّة، وهي الموضع، و (مظانَّه): نصبٌ على الظرف.
يعني: يطلبُ الموتَ والقتلَ في مواضعه؛ أي: في مواضعِ القَتْل؛ أي: في المحاربة؛ لأن المحاربةَ سببُ القَتْل.
"في غُنَيْمَةٍ"؛ أي: في قطيعةٍ من الغَنَم يَفِرُّ من الناس، ويسكن رأسَ جبل، أو واديًا، حتى لا يلحَقَه ضَرَرُ الناسِ وفتنتُهم، ولا يلحَقُهم ضررٌ، ويقضي حقوقَ الله وأَمْرَه، فهو في خيرٍ من الناس؛ أي: لا يلحَقُه ضررُهم ولا يؤذيه أحد، ولا يؤذي أحدًا.
"الشَّعَفَة": رأس الجبل.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2864 -
وقال: "مِن جَهَّزَ غازِيًا في سَبيلِ الله فقد غَزَا، ومَن خَلَفَ غازيًا
في أهلِهِ فقد غَزَا".
قوله: "مَنْ جَهَّزَ غازيًا"؛ يعني: مَنْ أَعْطَى غازيًا فرسًا وسلاحًا ونفقةَ ذهابه إلى الغزو، فقد حصلَ له ثوابُ الغزو.
قوله: "ومن خَلَفَ غازيًا في أهله"، (خَلَفَ) - بتخفيف اللام -: إذا قامَ مَقامَه؛ يعني: مَنْ قامَ مقامَ غازٍ في خدمةِ أهل بيته، فقد حصلَ له ثوابُ الغَزْو.
روى هذا الحديثَ زيدُ بن خالد الجُهَني.
* * *
2865 -
وقال: "حُرمَةُ نساءِ المُجَاهدينَ على القَاعِدينَ كحُرمةِ أُمَّهاتِهِم، وما مِن رَجُلٍ مِن القاعِدين يَخْلُفُ رَجُلاً مِن المُجاهدينَ في أهلِهِ، فيَخُونهُ فيهم، إلا وُقِفَ له يومَ القيامَةِ فيَأْخُذُ مِن عَمَلِهِ ما شاءَ، فما ظَنُّكم؟ ".
قوله: "فما ظَنُّكم"، (ما): للاستفهام؛ يعني: هل تشكُّون في هذه المجازاة أم لا؛ يعني: فإذا علمتم صدقَ ما أقولُ، فاحذروا من الخيانةِ في نساء المجاهِدين، وإنما خصَّ الوعيدَ بالخيانة في نساء المجاهدين؛ لأنهم أفضلُ من غيرِهم من المشتغلين بالطاعات، والخيانةُ فيمن هو أفضلُ أَقْبَحُ.
روى هذا الحديثَ بُرَيدةُ الأسلمي.
* * *
2866 -
عن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه قال: جاءَ رجلٌ بناقةٍ مَخْطومَةٍ فقالَ: هذه في سَبيلِ الله، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لكَ بها يومَ القيامَةِ سَبع مِئَةِ ناقَةٍ كلُّها مَخْطُومَةٌ".
قوله: "مَخْطُومةٍ"؛ أي: جُعِلَ الخِطَامُ على أنفها، والخِطَامُ: الزِّمام.
2867 -
وعن أبي سعيدٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثَ بَعْثًا إلى بني لِحْيانَ مِن هُذَيْلٍ، فقالَ:"لِيَنْبَعِثْ مِن كُلِّ رَجُلينِ أحدُهما والأجرُ بينَهما".
قوله: "بَعَثَ بَعْثًا"؛ أي: أرسلَ جيشًا إلى الغزو.
قولُه: "والأَجْرُ بينهما"؛ أي: ثوابُ الغَزْو بينهما، أمَّا ثوابُ مَنْ غَزا فظاهرٌ، وأما ثوابُ من قَعَدَ في بيته؛ فلأنَّه يَخْدِمُ الذي ذهبَ إلى الغزو، ويعينُ أهلَ بيته.
* * *
2868 -
وقال: "لنْ يَبْرَحَ هذا الدِّينُ قائمًا يقاتِلُ عليهِ عِصابةٌ مِن المسلمين حتى تقومَ الساعةُ".
قوله: "لن يَبْرحَ هذا الدِّينُ"؛ يعني: لن يزالَ هذا الدينُ يجاهِدُ عليه جماعةٌ من المسلمين إلى يوم القيامة؛ يعني: لا يخلُو وَجْهُ الأرضِ من الجهاد إن لم يكنْ في ناحيةٍ يكونُ في ناحيةٍ أخرى.
روى هذا الحديثَ جابرُ بن سَمُرَة.
* * *
2869 -
وقال: "لا يُكْلَمُ أَحَدٌ في سبيلِ الله - والله أعلمُ بمَنْ يُكْلَمُ في سبيلِهِ - إلا جاءَ يومَ القيامَةِ وجُرْحُهُ يَثْعَبُ دمًا، اللونُ لونُ الدَّمِ، والريحُ ريحُ المِسْكِ".
قوله: "لا يُكْلَمُ"؛ أي: لا يُجْرَح.
"يَثْعَبُ"؛ أي: يسيلُ؛ يعني: تكونُ علامةُ الشهداء على الشهيدِ من غيرِ أن يكونَ له ألمٌ بسيلانِ ذلك الدمِ منه منه تشريفان:
أحدُهما: أن تفوحَ منه رائحةُ المِسْك في العَرَصَات.
والثاني: أن يظهرَ كونهُ شهيدًا؛ لينالَ ثوابَ الشهداء.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2870 -
وقال: "ما أحدٌ يدخلُ الجَنَّةَ يحبُّ أنْ يَرجعَ إلى الدُّنيا وله ما في الأرض مِن شيءٍ إلا الشهيدُ، يتمنَّى أنْ يرجَعَ إلى الدُّنيا فيُقْتَلَ عَشْرَ مرَّاتٍ لِمَا يرى من الكرامةِ".
قوله: "وله ما في الأرضِ من شيءٍ"، هذا معطوفٌ على قوله:"أن يرجعَ إلى الدنيا"؛ يعني: ما يحبُّ أن يرجعَ إلى الدنيا، وما يحبُّ أيضًا أن يكونَ له شيءٌ مما في الأرض، بل لا يحبُّ أن يرجعَ إلى الدنيا، ولا يتمنَّى مَتاعَ الدنيا.
ويجوز أن تكون الواو في (وَلَهُ) واوَ الحال؛ أي: لا يحبُّ أن يرجِعَ إلى الدنيا في حال كونه مالكًا لكثير من أمتعة الدنيا والبساتينِ والأملاك والأقارب ونفوذِ الأمر؛ يعني: مع أنه كان في الدنيا طَيبَ العيش لا يتمنَّى أن يرجِعَ إلى الدنيا.
روى هذا الحديثَ أنسٌ.
* * *
2871 -
وسُئِلَ عبدُ الله بن مسعودٍ عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: إنَّا قد سَأَلْنَا عن ذلكَ فقال: "أرواحُهُم في جَوْفِ طيرٍ خُضْرٍ لها قناديلُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ، تسرحُ من الجنَّةِ حيثُ شاءَتْ، ثم تَأْوِي إلى تلكَ القناديلِ، فاطَّلَعَ عليهم ربُّهم اطِّلاعةً فقال:
هل تَشْتهونَ شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نَشْتَهِي ونحنُ نَسْرَحُ مِن الجنَّةِ حيثُ شِئْنَا! فَفَعَلَ ذلكَ بهم ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا رَأَوْا أنَّهم لن يُتْرَكُوا مِن أَنْ يُسْأَلُوا، قالوا: يا ربِّ نريدُ أنْ تَرُدَّ أرواحَنَا في أجسادِنَا حتى نُقتَلَ في سبيلِكَ مرَّةً أُخرى، فلمَّا رَأَى أنْ ليسَ لهم حاجةٌ تُرِكُوا".
قوله: " {بَلْ أَحْيَاءٌ} "؛ أي: ليسوا أمواتًا، بل هم أحياءٌ عند الله يُرزقون، وكيفية رزقهم ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن أرواحَهم في أجوافِ طَيْر.
قوله: "ففَعَلَ بهم ذلك"؛ أي: اطلع الله عليهم ثلاثَ اطِّلاعات، وسألهم عما يشتهون.
* * *
2872 -
عن أبي قتادةَ رضي الله عنه قال: قالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! أرأيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سبيلِ الله يُكَفَّرُ عنِّي خطايَايَ؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نعمْ، إنْ قُتِلتَ في سبيلِ الله وأنتَ صابرٌ مُحتَسِبٌ، مُقْبلٌ غيرُ مُدْبرٍ"، ثم قال:"كيفَ قلتَ؟ "، قال: أرأيتَ إنْ قُتِلتُ في سبيلِ الله أَيُكَفَّرُ عني خطايَايَ؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، وأنتَ صابرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبلٌ غيرُ مُدْبرٍ، إلا الدَّيْنَ فإنَّ جبريلَ قالَ لي ذلكَ".
قوله: "مُحْتسِبٌ"؛ أي: طالبٌ ثوابَ الله لا طالبٌ الرياءَ والصِّيْتَ.
* * *
2873 -
وقال: "القتلُ في سبيلِ الله يُكَفِّر كلَّ شيءٍ إلا الدَّيْن".
قوله: "القَتْلُ في سبيل الله يُكَفِّرُ كلَّ شيء إلا الدَّيْن"؛ يعني: مَنْ قُتِلَ في سبيل الله غُفِرَ له جميعُ ذنوبه إلا حقوقَ الآدميين.
روى هذا الحديثَ عبدُ الله بن عمرو.
* * *
2874 -
وقال: "يَضْحَكُ الله إلى رجُلَيْنِ يَقتلُ أحدُهما الآخرَ يَدخُلَانِ الجنَّةَ، يُقاتِلُ هذا في سبيلِ الله فيُقْتَلُ ثم يتوبُ الله على القاتِلِ فيُسْتَشْهَدُ".
قوله: "يَضْحَكُ الله إلى رَجُلَين"، اعلم أن الضَّحِكَ يحصُلُ من استحسان فعلٍ وقولٍ، وأثرُ الضَّحِكِ من الضاحك إيصالُ الخيرِ إلى مَن ضحكَ إلى وجهه.
والمراد بهذا الحديث: أن الله يرحَمُ القاتلَ والمقتولَ، وصورتُه أن يقاتِلَ مسلمٌ وكافر، فيقتلُ الكافرُ المسلمَ، فيرحمُ الله المسلمَ لأنه قُتِلَ شهيدًا، ثم يوفِّقُ الله ذلك الكافرَ للإيمان فآمن، ثم يوفَّقُه للغزو فيغزو فيستشهد؛ أي: يُقْتَل شهيدًا، فيرحَمُه الله أيضًا.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2875 -
وقال: "مَن سألَ الله الشهادةَ بصِدقٍ، بَلَّغَهُ الله منازِلَ الشهداءِ وإنْ ماتَ على فراشِهِ".
قوله: "من سألَ الله الشهادةَ"؛ يعني: مَنْ طلبَ مِن الله أنْ يجعله شهيدًا عن نية خالصة آتاه الله أجرَ الشهداء بصدق نيته، وإن ماتَ على فراشه.
روى هذا الحديثَ سهلُ بن سعد.
* * *
2876 -
عن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ الرُّبَيع بنتَ البَراءِ - وهي أمُّ حارِثَةَ بن سُراقَةَ -
أَتَت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبيَّ الله! أَلَا تُحَدِّثُنِي عن حَارِثَةَ، وكانَ قُتِلَ يومَ بَدرٍ أصابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فإنْ كَانَ في الجَنَّةِ صَبَرْتُ، وإنْ كَانَ غيرَ ذلكَ اجتهدتُ عليهِ في البكاءِ، قال:"يا أُمَّ حارِثَةَ! إنها جِنانٌ في الجنةِ، وإنَّ ابنكَ أصابَ الفِردوسَ الأعلى".
قوله: "سهمٌ غَربٌ" بفتح الراء وسكونها، ويجوز إضافة السهم إلى غرب، ويجوزُ أن نجْعَلَ (غَربًا) صفة لسهم، ومعنى كليهما: سهم لا يُدْرى راميه.
* * *
2877 -
عن أنسٍ رضي الله عنه قال: انطلَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابهُ، حتى سَبقُوا المشركينِ إلى بدرٍ، وجاءَ المشركونَ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"قُومُوا إلى جنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ"، قالَ عُمَيْرُ بن الحُمَامِ: بَخٍ بَخٍ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ما يَحْمِلُكَ على قولِكَ: بَخٍ بَخٍ؟ "، قال: لا والله يا رسولَ الله! إلَاّ رجاءَ أنْ أكونَ من أهلِها، قال:"فإنكَ مِن أَهلِهَا"، قال: فأخرجَ تمراتٍ فجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثم قال: لئنْ أَنَا حَييتُ حتى آكُلَ تَمَراتِي إنَّها لحَيَاةٌ طويلة، قال: فَرَمَى بما كانَ معَهُ مِنَ التَّمر ثم قاتَلَهم حتّى قُتِلَ".
قوله: "سبقوا المشركين"؛ أي: نزلَ رسولَ الله وأصحابُه البدر قبل نزول الكفار.
قوله: "بخ بخٍ"، هذه كلمةٌ يقولُها المتعجِّبُ من شيء، والمستحسِنُ شيئًا.
قوله: "اخْتَرَجَ"؛ أي: أخرجَ تميراتٍ من ظَرْفِها.
* * *
2879 -
وقال: "ما مِن غازِيَةٍ أو سَرِيَّةٍ تغزُو فتَغْنَمُ وتَسْلَمُ إلا كانُوا قد تَعَجَّلُوا ثُلُثي أجورِهم، وما مِن غازِيَةٍ أو سَرِيَّةٍ تُخفِقُ وتُصابُ إلا تَمَّ أُجورُهم".
قوله: "ما من غازيةٍ"؛ أي: ما من جماعةٍ غازيةٍ.
"أو سَرِيَّةٍ"، هذا شكٌّ من الراوي في أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما من غازية، أو قال: ما من سرية.
"تُخْفِقَ" - بضم التاء وسكون الخاء وكسر الفاء -؛ أي: تخلُو يدُه مما يطلبُه من المال، أو الكسب، أو الغنيمة.
"وتُصَابُ"؛ أي: تُجْرَح أو تُقْتَل؛ يعني: مَن غزا، وحَصَلَتْ له الغنيمةُ يكون أجرُه أقلَّ من الذي غزا، ولم يحصلْ له الغنيمةُ، وجُرِحَ أو قُتِلَ؛ لأن الأجر بقدْر التعب.
روى هذا الحديثَ عبد الله بن عمرو.
* * *
2880 -
وقال: "مَن ماتَ ولم يَغْزُ، ولم يُحَدِّثْ نفسَه، ماتَ على شُعبةٍ مِن نِفاقٍ".
قوله: "ولم يحدِّثْ نفسَه"؛ يعني: ولم يقلْ مع نفسه: يا ليتني كنتُ غازيًا؛ يعني: من لم يَغْزُ ولم يتمنَّ الغَزْوَ عند القدرة فهو منافق، أو شابهَ المنافقين في عدمِ إرادةِ الغزو؛ لأن المنافقينَ لا يتمنَّون الغَزْوَ؛ لأنهم كُفَّار.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2881 -
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: الرَّجلُ
يُقاتِلُ للمَغْنَمِ، والرجلُ يقاتِلُ للذِّكْرِ، والرجلُ يقاتِلُ ليُرَى مكانُه، فمَن في سبيلِ الله؟ قال:"مَن قاتَلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا فهوَ في سبيلِ الله".
قوله: "للذَّكْر"؛ أي: ليشتهرَ صيتُ شجاعتِه بين الناس.
قوله: "ليُرَى مكانُه"؛ أي: ليُرَى منزِلُه من الجنة؛ أي: لتحصلَ له الجنة.
قوله: "من قاتلَ لتكون كلمةُ الله هي العليا"، (كلمة الله)؛ أي: دِينُ الله؛ يعني: من غزا لإعزاز الدين لا للغنيمة وإظهارِ الشجاعة، فهو غازٍ، ومَن غزا لمجرد الغنيمة وإظهارِ الشجاعة، فليس له ثوابُ الغُزَاة.
* * *
2882 -
وعن أنسٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجعَ مِن غزوةِ تبوكَ فدَنَا مِن المدينةِ فقال: "إنَّ بالمدينةِ أقوامًا ما سِرْتُم مَسِيرًا ولا قَطَعْتُم وادِيًا إلا كانُوا معَكم - وفي روايةٍ: إلَاّ شَركُوكُم في الأجر -"، قالوا: يا رسولَ الله وَهُم بالمدينةِ! قالَ: "وهَمُ بالمدينةِ حَبَسَهُم العذرُ".
قوله: "حبَسهم العُذْرُ"؛ أي: الفقراءُ والضعفاءُ الذين لم يقدِرُوا على الغزو لضعفهم، أو لعدم زادِهم ومركوبهم = حصلَ لهم ثوابُ الغزو وإن لم يَغْزُوا؛ لأنهم يتمنَّون الغزوَ، ولكنهم لم يقدِرُوا عليه.
* * *
2883 -
عن عبدِ الله بن عَمرٍو قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فاستأذَنَهُ في الجهادِ، فقال:"أَحَيٌّ والِدكَ؟ "، قال: نعم، قال:"ففيهما فجاهِد".
وفي روايةٍ: "فارجِعْ إلى والدَيْكَ فأَحْسِنْ صُحْبَتَهُما".
قوله: "ففيهما فجاهِدْ"؛ يعني: اخدُمْهما واطلبْ رضاهما، فإن خِدْمَتَهُمَا
وطلبَ رضاهما هو جهادُك.
* * *
2884 -
وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ يومَ الفتحِ: "لا هِجْرَةَ بعدَ الفتحِ، ولكنْ جهادٌ ونِيَّةٌ وإذا اسْتُنْفِرتُمْ فانْفِرُوا".
قوله: "ولكنْ جهادٌ ونِيَّةٌ"؛ يعني: إذا فُتِحتْ مكةُ لا فضيلةَ في تَرْكِ مكة، والإتيانِ إلى المدينة؛ لأن كليهما من دار الإسلام، ولكنْ تكونُ الفضيلةُ في الجِهاد، ونيةِ الخير، وإرادةِ ما يحب الله.
"وإذا استنفرتم فانْفِروا"، (النِّفَار والنفور): الانتقالُ والخروجُ، و (الاستنفارُ): طلبُ الخروج والانتقال؛ يعني: إذا أمرَكم إمامُكم بالخروجِ إلى الغزو، فأطيعوه واخرجوا إلى الغزو.
* * *
مِنَ الحِسَان:
2885 -
عن عِمْرانَ بن حُصَينٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ على الحقِّ ظاهرينَ على مَن ناَوأَهم، حتى يُقاتِلَ آخِرُهم المَسيحَ الدَّجَّالَ".
قوله: "ظاهرين"؛ أي: غالبين.
"على من ناوَأَهم"؛ أي: مَن عاداهم.
* * *
2886 -
عن أبي أُمَامَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ لم يَغْزُ ولم يُجَهِّزْ غَازِيًا،
أو يَخْلُفْ غَازِيًا في أهلِه بخيرٍ، أصابَهُ الله بقارعةٍ قبلَ يومِ القيامةِ".
قوله: "بقارعة"؛ أي: بعذاب.
* * *
2887 -
عن أنسٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"جاهِدُوا المُشركينَ بأموالِكُم وأنفسِكُمْ وأَلسِنَتِكُمْ".
قوله: "جاهدوا المشركين بأموالكم"؛ يعني: المشركون أعداؤكم، فأظهروا العداوةَ عليهم بأن تصرِفُوا أموالَكم في تهيئة أسبابِ المجاهدين إن لم تقدِرُوا أن تجاهِدُوا بأنفسكم، وإن قدَرْتُم، فجاهِدُوا بأنفسكم، وجاهدوهم بألسنتكم بأن تذمُّوهم، وتعيبوهم وتعيبوا أصنامهم، ودينَهم الباطل، واعتقادَهم الفاسد، وبأن تخوِّفوهم بالقتل والأخذ، وما أشبهَ ذلك.
* * *
2888 -
عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَفشُوا السَّلامَ، وأَطعِمُوا الطَّعامَ، واضْرِبُوا الهامَ، تُورَثُوا الجِنانَ"، غريب.
قوله: "واضربوا الهَامَ"، (الهامُ): جمع هامَة بتخفيف الميم؛ يعني: اقطعوا رؤوس الكفار.
* * *
2889 -
عن فُضالةَ بن عُبيدٍ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"كلُّ مَيتٍ يُخْتَمُ على عملِهِ، إلا الذي ماتَ مُرابطًا في سبيلِ الله؛ فإنه يُنَمَّى لهُ عملُهُ إلى يومِ القيامَةِ ويَأْمَنُ فتنةَ القبرِ". قال: وسمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "المُجاهِدُ مَن جاهَدَ نفسَه".
قوله: "يُخْتَمُ على عمله"؛ يعني: انقطع عملُه؛ أي: لا يصلُ إليه ثوابُ عمل؛ لأنه لم يكن حيًا حتى يعملَ فيُثَاب، إلا الشهيد، فإنه يُنْمَى له عملُه؛ أي: يزادُ ويربى عمله، ويصلُ إليه كلَّ لحظةٍ أجرٌ جديد؛ لأنه فدى نفسَه في شيءٍ يعود نفعُه إلى المسلمين، وهو إحياءُ الدين، ودفعُ الكفار عن المسلمين، فيكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا مات الإنسان انقطع عملُه إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، فسعيُه مما يستريحُ به المسلمون؛ لأنه دَفَعَ الكفار عنهم، أو لم يدفَعْ، ولكن كانت نيتُه أن يدفعَ الكفارَ عن المسلمين فقُتِلَ قبل أن يبلغَ ما في نيته.
* * *
2890 -
وعن معاذِ بن جبلٍ رضي الله عنه سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ قَاتَلَ في سبيلِ الله فَوَاقَ ناقةٍ، فقد وَجَبَتْ لهُ الجنَّةُ، ومَن جُرحَ جُرحًا في سبيلِ الله أو نُكِبَ نَكْبَةً، فإنها تَجيءُ يومَ القيامةِ كَأَغْزَرِ ما كانت، لونُها الزَّعْفَرانُ وريحُها المِسْكُ، ومَن خَرَجَ به خُرَاجٌ في سبيلِ الله فإنَّ عليهِ طابَعَ الشُّهداءِ".
قوله: "من قاتل في سبيل الله فَوَاقَ ناقةٍ، فقد وجبتْ له الجنة"، قال أهل اللغة:(الفَوَاقُ): ما بين الحَلْبتين من الوقت، وهذا يحتملُ أن يكونَ ما بين الغداةِ إلى المساءِ؛ لأن الناقةَ تُحلَب في وقت الغداة، ثم في وقت المساء، أو تُحلَبُ في وقت المساء، ثم إلى المساء الآخر.
ويحتملُ أن يكونَ ما بينَ أن يحلِبَ في ظرفٍ فامتلأ، ثم يحلِبَ في ظرفٍ آخر في ذلك الوقت، فيكون الفواق الزمان الذي فرغ في ملء ظرف، ثم الحلب إلى ظرف آخر.
ويحتملُ أن يكونَ ما بين جَرِّ الضَّرْعِ إلى جَرِّه مرةً أخرى، كلَّ ذلك
مُحْتمَل، والوجه الآخَرُ أَلْيَقُ بالترغيب في الجهاد، وإكمالِ أجره؛ يعني: من قاتل في سبيل الله لحظةً ثبتتْ له الجنة.
قوله: "ومن جُرِحَ جرحًا في سبيل الله، أو نُكِبَ نَكبةً".
(الجرحُ) و (النكبةُ) كلاهما واحدٌ هنا؛ بدليل أنه يصفُ لونهما بلون الزَّعْفَران؛ يعني: يسيلُ منهما الدمُ، ولونُ ذلك الدمِ كلون الزعفران، وريحُه ريحُ المِسْك، ولون الزعفران في حال كونه يابسًا يشبه لونَ الدَّمْ، وهذا الحديث مثلُ قوله:"لا يُكْلَمُ أحدٌ في سبيل الله"، وقد ذكرنا شرحَه في هذا الباب.
واعلمْ أن الفرقَ بين الجرح والنكبة هنا: أن الجرح: ما يكون من نَصْلِ الكفار، والنكبة: الجراحة التي أصابته من وقوعه من دابة، أو وقع عليه سلاحُ نفسِه، وغير ذلك.
قوله: "ومن خرجَ به خُرَاجٌ في سبيل الله فإنَّ عليه طابَعَ الشهداء".
(الخُرَاجُ) - بضم الخاء -: ما يخرُجُ في البدن من القروح والدَّمَاميل.
(الطابَع): - بفتح الباء - والخاتم: ما يُخْتَمُ به على شيء؛ أي: يُعَلَّم؛ يعني: من كان في سبيل الله، فخرج منه دُمَّل، أو أصابته جِراحةٌ غير جِراحَةِ الكفار، فيحشَرُ يومَ القيامة وعليه علامةُ الشهداء؛ ليُعْلَمَ أنه سعى في سبيل الله؛ ليُعْطَى أجرَ المجاهدين.
* * *
2892 -
عن أبي أمامةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الصَّدقاتِ ظِلُّ فُسْطاطٍ في سبيلِ الله، ومِنْحَةُ خادمٍ في سبيلِ الله، أو طَرُوقَةُ فَحْلٍ في سبيلِ الله".
قوله: "ظِلُّ فُسْطاطٍ"، (الفسطاط): نوعٌ من الخَيْمة؛ يعني: أفضلُ
الصدقاتِ إعطاءُ خيمةٍ صدقةً في سبيل الله؛ ليستريحَ بظلِّها المجاهدون، وكذلك جميعُ الصدقات ما يكون في سبيل الله منها أفضلُ مما يكون في غيرِ سبيلِ الله.
قوله: "ومِنْحَةُ خادم"؛ أي: إعطاءُ عبدٍ في سبيل الله؛ ليخدمَ المجاهدين.
"أو طَرُوقَةُ فَحْلٍ"، (الطَّرُوقَةُ) - بفتح الطاء -: الناقةُ التي بَلَغَتْ إلى سِنٍّ ينزو عليها الفَحْلُ، والمراد بها: إعطاءُ مركوبٍ في سبيل الله.
* * *
2893 -
عن أبي هريرةَ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَلِجُ النَّارَ مَن بَكَى مِن خشيةِ الله، حتى يعودَ اللَّبن في الضَّرْعِ، ولا يجتمعُ غُبَارٌ في سبيلِ الله ودُخَانُ جهنَّمَ في مَنْخِرَي مُسلمٍ أبدًا".
ويُروَى: "في جوفِ عبدٍ أبدًا، ولا يجتمعُ الشُّحُّ والإيمانُ في قلبِ عبدٍ أبدًا".
قوله: "لا يجتمعُ غبارٌ في سبيل الله، ودخانُ جهنَّمَ في مَنْخِرَي مسلمٍ أبدًا"؛ يعني: من دخلَ الغبارُ مَنْخِرَه في الجهاد لا يدخل دخانُ جهنَّم مَنْخِرَه.
قوله: "ولا يجتمعُ الشحُّ والإيمانُ في قلبِ عبدٍ أبدًا"؛ يعني: منْ كان في قلبه الشُّحُّ لا يكونُ في قلبهِ الإيمانُ، ومن كان في قلبه الإيمانُ لا يكون في قلبه الشحُّ.
وهذا مَشْكِلٌ إن أريدَ بالشُّحِّ منعُ الزكاةِ مع اعتقاد وجوبها، أو أريدَ به منعُ الصدقات؛ لأن الإيمانَ يجتمعُ في قلبِ مانعِ الصدقات ومانعِ الزكاةِ مع اعتقاد وجوبها.
وتصحيحُ معنى هذا الحديثِ أن نقول: لا يجتمعُ الإيمانُ ومنعُ الزكاةِ مع
اعتقاد أنها غيرُ واجبةٍ؛ لأنه حينئذ يصيرُ كافرًا لإنكار ركن من أركان الإسلام.
أو نقول: يريد صلى الله عليه وسلم بالإيمانِ هنا كمالَ الإيمان؛ يعني: لا يجتمعُ كمالُ الإيمان، ومنعُ الصدقاتِ والزكاةِ في قلبِ رجلٍ.
* * *
2894 -
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "عَيْنَانِ لا تمسُّهما النارُ: عينٌ بَكَتْ مِن خشيةِ الله، وعينٌ باتَتْ تحرُسُ في سبيلِ الله".
قوله: "تحرسُ في سبيل الله"؛ أي: يكونُ حارسًا للمجاهدين يحفظُهم عن الكفار.
* * *
2895 -
عن أبي هريرةَ قال: مَرَّ رجلٌ مِن أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِشِعْبٍ فيهِ عُيَيْنَةٌ من ماءٍ عذبةٌ فَأَعْجَبَتْهُ، فقال: لو اعتزلتُ الناسَ فأَقَمْتُ في هذا الشِّعْبِ، فذكر ذلكَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال:"لا تفعلْ! فإنَّ مُقامَ أحدِكم في سبيلِ الله أفضَلُ مِن صلاتِهِ في بيتِهِ سبعينَ عامًا، ألا تُحِبونَ أنْ يغفرَ الله لكم وُيدْخِلَكُمْ الجَنَّةَ، اُغزُوا في سبيلِ الله، مَن قاتَلَ في سبيلِ الله فَوَاقَ ناقةٍ وجبَتْ له الجَنَّةُ".
قوله: "بشِعْبٍ" بكسر الشين؛ أي: بطريقٍ وفُسْحَةٍ بينَ الجبلين.
"فيه عُيَيْنَةٌ"، تصغيرُ عين، وهي عينُ الماء.
وفي بعض نسخ "المصابيح": (غَيْضَة)، وهذا سهوٌ من النساخ، ولو ثبتَ مجيئها في رواية؛ لكان المرادُ بالغَيضة عينًا من الماء؛ لأن الغيضةَ مجتَمعُ الأشجارِ والنباتات، واللازمُ في الغَيضة أن يكون فيها الماءُ، فسمِّيَ العينُ
غَيْضَةً؛ لاشتمال الغيضة بالعين العذبة الطَّيبة.
"فأعجبته"؛ أي: حَسُنَتْ في عينه، وطابَتْ في قلبه.
* * *
2897 -
وعن أبي هريرةَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "عُرِضَ عليَّ أولُ ثلاثةٍ يدخلونَ الجنةَ: شهيدٌ وعَفيفٌ مُتعفِّفٌ، وعبدٌ أحسنَ عبادةَ الله ونصحَ لِمَوَاليهِ".
قوله: "عُرِضَ عليَّ أولُ ثلاثةٍ يَدْخُلُون الجَنَّةَ: شهيدٌ، وعفيفٌ متعفِّفٌ، وعبدٌ أحسن عبادةَ الله ونصحَ لمواليه".
(العفيفُ): الذي يمنَعُ نفسَه عما لا يجوزُ في الشرع، (المتعفِّفُ): الصابر على مخالفة نفسه، (ونصح لمواليه)؛ أي: أراد الخير لسيده وأقام بخدمته.
قوله: "أول ثُلَّةٍ"، (الثُّلَّةُ): الجماعة؛ يعني: هذه الثُّلَّةُ أولُ جماعةٍ يدخلُون الجنة.
وفي بعض الروايات: (أول ثلاثة)، فعلى هذا تقديرُ الكلام: أولُ ثلاثةٍ يدخلون الجَنَّةَ: شهيدٌ، ثم عفيفٌ متعفِّفٌ، وعبدٌ أحسنَ عبادةَ الله.
* * *
2898 -
عن عبدِ الله بن حُبْشِيٍّ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: "إيمانٌ لا شَكَّ فيهِ، وجِهادٌ لا غُلولَ فيهِ، وحَجَّةٌ مَبرورَةٌ"، قيلَ: فَأَيُّ الصَّلاةِ أفضلُ؟ قال: "طولُ القيامِ"، قيلَ: فأيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ قال: "جُهْدُ المُقِلِّ"، قيل: فأيُّ الهِجْرةِ أفضلُ؟ قال: "مَن هَجَرَ ما حَرَّم الله عليهِ"، قيل: فأيُّ الجهادِ أفضلُ؟ قال: "مَن جاهَدَ المشركينَ بمالِهِ ونفسِهِ"، قيل: فأيُّ القتلِ أشْرَفُ؟ قال: "مَن أُهْريقَ دَمُهُ وعُقِرَ جَوادُهُ".
قوله: "طولُ القِيام"؛ أي: طولُ القيامِ في الصلاة.
قوله: "جُهْدُ المُقِلِّ"، (الجُهْدُ) - بضم الجيم -: الطاقةُ، و (المُقِلُّ): الفقيرُ؛ يعني: ما أعطاه الفقيرُ مع احتياجه إلى ما أعطاه، وهذا بشرطِ أن يكونَ المُعطي قد أعطى نفقةَ العيال، ثم جوَّع نفسَه، وأعطى نصيبَه السائلَ، ولا يجوزُ أن يقطَعَ النفقةَ عن العيال، ويدفعَها إلى السائل إلا برضا العيالِ البالغين.
قوله: "فأيُّ القتل أشرفُ؟، قال: من أُهرِيقَ دمُه، وعُقِرَ جوادُه"، وتقدير هذا الكلام: قتلُ مَنْ أُهريقَ دمُه في الجِهاد، وعُقِرَ جوادُه فيه، فحذفَ المضافَ، وهو الَقْتلُ، وأقامَ المضافَ إليه، وهو لَفْظَةُ (مَنْ) مُقَامَه.
(العَقْرُ): القَتْلُ، وقَطْعُ عَقِبِ الرَّجُل، و (الجَوادُ): الفرسُ الجَيد.
يعني: القتلُ في الجهاد أنواع:
أحدها: أن يخرجَ المجاهِدُ، ثم يفرَّ ويموتَ بعد الفرار.
والثاني: أن يخرجَ المجاهِدُ في صفِّ المسلمين بأن يقعَ عليه سهمٌ فيموت.
والثالث: أن يحملَ على الكفار، ويوقِعَ نفسه بين الكفار، ويحاربَهم حتى يَعْقِرَ الكفارُ فرسَه ويقتُلوه، فهذا أفضلُ القَتْلِ في الجهاد.
* * *
2899 -
عن المِقْدَامِ بن مَعدِ يكرِبَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "للشَّهيدِ عندَ الله سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لهُ في أولِ دفعةٍ، ويَرَى مَقْعَدَهُ مِن الجَنَّةِ، ويُجَارُ مِن عذابِ القبرِ، ويَأْمَنُ مِن الفَزَعِ الأكبرِ، ويُوضَعُ على رأسِهِ تاجُ الوَقارِ، الياقوتَةُ منها خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ويُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وسبعينَ زوجةً من الحورِ العينِ، ويُشُفَّعُ في سبعينَ مِن أقربائه".
قوله: "ويُرى مَقْعَدَه من الجنة"، بضم الياء مضارع مجهولٌ مِن (رأى) إذا أبصرَ، فنقلَه إلى باب أَفْعَلَ ليُعَدَّى إلى مفعولين، أحد المفعولين: ذاك الرجل، وهو أقيم مُقامَ الفاعل، والمفعول الثاني (مقعده)؛ يعني: عند زهوق روحِ الشهيد يُرَى مقعدَه من الجنة.
قوله: "ويُجَار"؛ أي: ويُحْفَظُ.
قوله: "وَيأْمَنُ من الفَزَعِ الأكبر"، قيل:(الفزع الأكبر): الوقتُ الذي يُؤْمَرُ أهلُ النار بدخول النار.
وقيل: الوقت الذي يُذْبَحُ الموتُ، فيَيْأَسُ الكفارُ عن التخلُّصِ من النارِ بالموت.
وقيل: الوقتُ الذي أطبقتِ النارُ على الكفار، فييأَسَوا عن الخروج منها.
قوله: "تاجُ الوقار"؛ أي: تاج العزة.
قوله: "ويُشَفَّعُ" بضم الياء وتشديد الفاء؛ أي: تُقْبَلُ شفاعته.
* * *
2900 -
وقال: "مَن لَقِيَ الله بغيرِ أثرٍ مِن جهادٍ، لقِيَ الله وفيهِ ثُلمَة".
قوله: "بغير أثرٍ"؛ أي: بغير علامةٍ للغَزْو عليه.
وتلك العلامة: إما التعبُ النفساني، أو الجراحةُ في الغزو، أو بذلُ المالِ في الغزو، وإرادة تهيئة أسباب المجاهدين، كلُّ ذلك داخلٌ في الأَثَر؛ يعني: مَنْ كان له شيءٌ من هذه الأشياء؛ فقد كان عليه أَثَرُ الغزو، ومَن كان خارجًا من هذه الأشياء لم يكنْ عليه أثرُ الغزو، وحينئذٍ يكونُ عليه "ثُلْمَةٌ" يومَ
القيامة؛ أي: نقصانٌ.
فهذا الحديث مثل قوله: "من مات ولم يَغْزُ ولم يحدِّثْ نفسَه، ماتَ على شعبةٍ من النفاق"، وقد ذكر في هذا الباب.
روى هذا الحديث - أعني: "من لقي الله بغير أثرٍ" - أبو هريرة.
* * *
2901 -
وقال: "الشَّهيدُ لا يجدُ أَلَمَ القَتْلِ، إلا كما يَجِدُ أَحَدُكم ألمَ القَرْصَةِ"، غريب.
قوله: "الشهيدُ لا يجدُ ألمَ القَتْل إلا كما يجدُ أحدكم ألم القَرْصَة"، (القَرْصَةُ): عضُّ النملةِ الإنسانَ.
فإن قيل: إذا كان ألمَ القَتْلِ مثلُ أَلَمِ القَرْصَة، فبأيِّ شيءٍ يموتُ الشهيد، فإنَّ مثلَ هذا الألمِ مما لا يموتُ به الإنسان؟.
قلنا: ليس زهوقُ الروحِ بالألم، بل بأمر الله تعالى، فإنه قد يُزْهِقُ الروحَ بغير ألم بأمر الله، وقد يكون الألمُ بالإنسان على غاية الشدة، ولا تُزْهَقُ به روحُه إذا لم يأمر الله بزهوق روحِه.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2902 -
وعن أبي أُمامَةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ليسَ شيءٌ أَحَبَّ إلى الله مِن قَطْرَتَيْنِ وأثَرَيْنِ: قطرةُ دَمْعٍ مِن خَشيةِ الله، وقطرةُ دمٍ يُهْراقُ في سبيلِ الله، وأمَّا الأَثَرانِ: فأَثَرٌ في سبيلِ الله، وأَثَرٌ في فريضةٍ مِن فرائضِ الله تعالى"، غريب.
قوله: "فأثرٌ في سبيل الله"، (الأَثَرُ): العلامةُ؛ يعني: علامةُ الغزو على الغازي من الجِرَاحة، أو غبارُ الطريق وغيرهما، "وأثرُ فريضةِ الله": علامةُ الوضوءِ ببللِ الماءِ على الأعضاءِ، وعلامةُ السجود على الجبهة، و (الأثرُ) أيضًا: الخُطْوَة؛ يعني: الخطواتُ في الغزو، وفي المشي إلى الصلاة.
* * *
2903 -
عن عبدِ الله بن عَمرٍو قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَركبِ البحرَ إلا حاجًا أو مُعتَمِرًا أو غازيًا في سبيلِ الله، فإنَّ تحتَ البحرِ نارًا، وتحتَ النارِ بحرًا".
قوله: "لا تركب البحر إلا حاجًّا، أو معتمِرًا، أو غازيًا في سبيل الله"، هذا الحديثُ يدلُّ على وجوبِ ركوبِ البحرِ للحَجِّ والجهاد إذا لم يجدْ طريقًا آخر، وفيه قولٌ للشافعي: أنه لا يجب.
قوله: "فإن تحت البحر نارًا، وتحتَ النَّارِ بحرًا"، يُحْمَلُ هذا الحديثُ على ظاهره؛ يعني: خلقَ الله تحتَ ما ترى من البحر نارًا، وتحتَ تلك النارِ بحرًا، فإن الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ، والغَرَضُ من هذا الحديث: تعظيمُ خَطَرِ ركوبِ البحر؛ يعني: إذا كان في ركوب البحر خطرٌ شديدٌ عظيمٌ لا تركبوه إلا لضرورة.
* * *
2904 -
عن أمَّ حرامٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"المائدُ في البحرِ الذي يُصيبهُ القَيْءُ لهُ أجرُ شهيدٍ، والغريقُ لهُ أجرُ شهيدَيْنِ".
قوله: "المائِدُ في البحر"، هذا اسمُ فاعلٍ من مادَ يَمِيدُ: إذا دارَ رأسُ
الرجلِ من خوفِ البحرِ وغِشْيانِ معدتهِ من تحرك السفينة في البحر؛ يعني: مَن ركب البحرَ وأصابَه دُوارٌ له أجرُ شهيدٍ إن كان يمشي إلى طاعةٍ، كالغزو والحج وتحصيل العلم.
وأما التجار؛ فإن لم يكن لهم طريقٌ سوى البحر، وكانوا يتَّجِرون للقُوت لا لجمعِ المال، فهم داخلون في هذا الأجر.
* * *
2905 -
عن أبي مالكٍ الأشعريِّ قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن فَصَلَ في سبيلِ الله فماتَ، أو قُتِلَ، أو وَقَصَهُ فرسُه أو بعيرُه، أو لدَغتْهُ هامَّةٌ، أو ماتَ على فراشِهِ بأَيِّ حتفٍ شاءَ الله فإنه شهيدٌ، وإنَّ لهُ الجَنَّةَ"
قوله: "من فَصَلَ"؛ أي: خَرَجَ.
"وقَصَه فرسُه"؛ أي: ألقاه على الأرض، فمات منه.
"هامّة"؛ يعني: حيوانٌ له سُمٌ مثلُ الحيةِ والعَقْرَب.
"أو ماتَ على فراشه"؛ يعني: في طريق الغزو.
"بأيِّ حَتْفٍ"؛ أي: بأي هلاك قدَّره الله.
* * *
2906 -
عن عبدِ الله بن عَمرٍو أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "قَفْلَةٌ كغزوةٍ".
قوله: "قَفْلَةٌ كغزوة"، (القَفلَةُ): الرجعة، وصورتُها: أن يغزوَ جيشُ الإسلام، وأغاروا على بلدٍ من بلاد الكفار، ثم خرجوا من ذلك البلد إلى موضعٍ آخر، ثم يأمر أميرُ الجيشِ سَرِيَّةً من جيشه أن يرجِعُوا إلى ذلك البلد، وأغاروا على مَن بَقِيَ من كفار ذلك البلد وأموالهم، ثم يُرَغِّبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرجعة
والإغارة على الكفار مرة ثانية، ويقول: لا فرقَ في الثواب بين هذه الرَّجْعَةِ وبين الغَزْوِ الأول مع أمير الجيش، ويجوز أن يريد صلى الله عليه وسلم بالقفلة: الرجوعَ إلى أوطانهم.
يعني: المجاهدون يؤجَرون في الرجوع من الغزو إلى أوطانهم كما يُؤْجَرون في الذهاب إلى الغزو.
* * *
2907 -
وقال: "للغازي أَجْرُه، وللجاعِل أَجرُهُ وأجرُ الغازي".
قوله: "للغازي أَجْرُه، وللجَاعِلِ أَجْرُه، وأَجْرُ الغازي"، (الجَاعِلُ): الذي يدفع جُعْلاً؛ أي: أُجرةً إلى غازٍ ليغزو.
وهذا العَقْدُ صحيحٌ عند أبي حنيفة ومالك، فإذا كان صحيحًا يكون للغازي أجرٌ بسعيه، وللجاعل أجران: أجرُ صَرْفِ المال في سبيل الله، وأجرُ كونهِ سببًا لغزو ذلك الغازي؛ فإنه لولاه لما خرجَ ذلك الغازي إلى الغزو، ومن لم يَجَوِّز هذا العَقْدَ يقول: يجبُ على الغازي رَدُّ الأجرة التي أخذها للغزو على مالكها.
روى هذا الحديثَ عبد الله بن عمرو.
* * *
2908 -
عن أبي أيوبَ سَمِعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ستُفتَحُ عليكم الأمصارُ، وستكونُ جنودٌ مُجَنَّدةٌ، يُقطَعُ عليكم فيها بُعوثٌ، فيَكرهُ الرَّجلُ البعثَ فيَتخلَّصُ مِن قومِهِ، ثم يتصفَّحُ القبائلَ يَعرِضُ نفسَهُ عليهم: مَن أَكْفِيهِ بعثَ كذا، ألا وذلك الأجيرُ إلى آخرِ قطرةٍ من دمِهِ".
قوله: "ستُفْتَحُ عليكم الأمصارُ، وستكونُ جنودٌ مجنَّدَةٌ"؛ أي: مجموعة؛
يعني: إذا بلغ الإسلامُ في كلِّ ناحية، فحينئذ يحتاجُ الإمامُ إلى أن يرسِلَ في كلِّ ناحيةٍ جيشًا ليحاربَ من يَلِي تلك الناحيةَ من الكفار، كي لا يغلبَ كفارُ تلك الناحيةِ على أهل تلك الناحيةِ من المسلمين، فإذا احتاجَ الإمامُ إلى أن يرسلَ إلى كل ناحيةٍ جيشًا يحتاج إلى أن يجمعَ الجيشَ من كلِّ قبيلة، ومن كل بلدٍ من بلاد المسلمين.
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يكون في ذلك الوقت مَن لا يرغَبُ في الجهاد، بل يفِرُّ من قبيلته إلى قبيلةٍ أخرى، ويأخذُ أُجْرةً على الجهاد، ويمشي بما أخذ من الأجرة إلى الجهاد، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن فَرَّ عن أمر الإمام وطاعته، ولم يَفِرَّ بأمر الإمام من غير الأجرة، ثم أخذ الأجرة من أحدٍ، وغزا بالأجرة لم يكنْ له ثوابٌ بمخالفة أمرِ الإمام، وبأخذِ الأجرة.
قوله: "يُقْطَعُ"؛ أي: يُؤْمَرُ ويُوْضَع.
"عليكم فيها"؛ أي: في تلك الجنود.
"بُعوثٌ"؛ أي: جنودٌ، و (البُعُوثُ): جمع بَعْث، وهو جماعةٌ يرسِلُها الإمام إلى ناحيةٍ للغزو.
"فيكْرَهُ الرجلُ البَعْثَ"؛ أي: يكونُ بعضُ الرجالِ يَكْرَهُ أن يخرُجَ بلا أجرةٍ إلى ذلك الغزو.
"فيتخَلَّصُ"؛ أي: فيخرُجُ من بينِ قومه، "ثم يتصفَّح القبائلَ"؛ أي: ثم يتتبَّعُ.
"من أَكْفِيه"؛ يعني: يقول لأهلِ تلكَ القبائل: مَن يعطيني أجرةً لأمشيَ إلى الغزو عنه، وأكفي؛ أي: أدفعُ عنه الخروجَ بنفسِه إلى الغزو.
"ألا وذلك الأجيرُ إلى آخرِ قطرةٍ من دمه"؛ يعني: وذلك الأجيرُ أجيرٌ، وليس بغازٍ إلى أن يُقْتَل؛ يعني: إذا رغبَ عن الثواب، وطاعةِ الامام، وأَخْذِ
الأُجْرةِ في الغزو، فليس له إلا تلكَ الأجرة، وليس له ثوابٌ من الغزو.
* * *
2909 -
عن يَعلى بن أُميَّةَ قال: آذَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالغزوِ، وأنا شيخٌ كبيرٌ ليسَ لي خادِمٌ، فالتمستُ أجيرًا يَكفيني، فوَجَدْتُ رَجُلاً سَمَّيتُ لهُ ثلاثةَ دنانيرَ، فلمَّا حضرَتْ غَنيمةٌ أردْتُ أنْ أُجريَ لهُ سهمَهُ، فجئتُ إلى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكرتُ لهُ فقالَ:"ما أَجِدُ لهُ في غَزوَتِهِ هذهِ في الدُّنيا والآخرةِ، إلا دنانيرَهُ التي سَمَّى".
قوله: "آذنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم"؛ أي: أَمَرَ.
"فالتمسْتُ"؛ أي: طَلَبْتُ.
"يَكْفِيني"؛ أي: يدفعُ عني الخروجَ إلى الغَزْوِ بأن يأخذَ مني أجرةً، ويخرجَ عني إلى الغزو.
"أن أُجْرِيَ له سهمَه"؛ أي: أن آخذَ له من القِسْمةِ سهمًا مثلَ سهامِ سائرِ الغانمين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أجدُ له في غَزْوَتهِ"؛ يعني: ليس لهم سهمٌ من الغَنيمة، بل ليس له في الدنيا من القِسْمة، ولا في الآخرة من الثَّواب، إلا ما أخذَ من الأُجْرة، وهل للأجيرِ سهمُ الغنيمة؟.
* * *
2910 -
عن أبي هريرةَ: أنَّ رَجُلاً قال: يا رسولَ الله! رجلٌ يريدُ الجهادَ في سبيلِ الله وهو يبتغي عَرَضًا مِن عَرَضِ الدنيا؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا أَجْرَ لهُ".
قوله: "يبتغي عَرَضًا"؛ أي: يطلُبُ مالاً، يحتمل أن يريد بقوله:(عَرَضًا): الغنيمة، ويحتمل أن يريد به: الأجرة التي يأخذها الرجلُ ليغزوَ بها.
قوله: "لا أَجْرَ له"؛ أي: لا ثوابَ له؛ لأنه لم يَغْزُ لله تعالى.
* * *
2911 -
وعن معاذٍ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "الغَزْوُ غَزْوانِ، فأمَّا مَن ابتغَى وجهَ الله، وأَطاعَ الإِمامَ، وأَنفقَ الكريمةَ، وياسرَ الشَّريكَ، واجتنبَ الفسادَ، فإنَ نومَهُ ونُبْهَهُ أجرٌ كلُّه، وأمَّا مَن غَزا فَخْرًا ورِياءً وسُمْعَةً، وعَصَى الإمامَ وأَفسدَ في الأرضِ، فإنه لم يرجعْ بالكَفافِ".
قوله: "وأنفق الكَرِيمةَ"؛ أي: أنفقَ المالَ العزيزَ؛ يعني: ليكنْ ما تحتاجُ إليه من الفَرَس والسلاح والزاد مِن خاصِّ ماله، ولم يأخذْه من أحدٍ غَصْبًا، كما هو عادة الظالمين.
"وياسرَ الشريكَ"، (المياسرة): المساهَلَةُ والموافَقَةُ وتَرْكُ الخشونةِ والإيذاءِ؛ يعني: ليكنْ سهلًا رحيمًا برفيقِه في الطريق.
"ونُبْهَهُ"؛ أي: يقظته.
قوله: "لم يرجِعْ بالكَفَاف"؛ أي: لم يرجِعْ من الغَزْوِ رأسًا برأسِ بحيث لا يكونُ له أَجْرٌ، ولا يكونُ عليه وِزْرٌ، بل يرجِعْ ووزْرُه أكثرُ من أجره؛ لأنه لم يغزُ لله، وأفسدَ في الأرض.
* * *
2912 -
عن عبدِ الله بن عَمرٍو أنه قال: يا رسولَ الله! أَخبرني عن الجهادِ؟ فقالَ: "إنْ قاتلْتَ صابرًا مُحْتسِبًا بعثَكَ الله صابرًا محتسبًا، وإنْ قاتلْتَ مُرائيًا مُكاثِرًا، بعثَكَ الله مُرائيًا مُكاثِرًا، يا عبدَ الله بن عمروٍ! على أَيِّ حالٍ قاتلْتَ أو قُتِلْتَ بعثَكَ الله على تِيكَ الحالِ".
قوله: "مكاثِرًا"، (المكاثَرَةُ): أن يقولَ رجلٌ لآخر: أنا أكثرُ منك مالاً وعددًا؛ يعني: إن غزوتَ ليقال: جيشُكَ أكثرُ وأشجعُ من جيش أميرٍ آخرَ، وخُدَّامُك وخيلُك أكثرُ من غيرك؛ فليسَ لك ثوابٌ، بل ينادى يومَ القيامة: إن هذا قد غزا فخرًا ورياءً، لا محتسِبًا؛ أي: لا طالبًا لثواب الله.
* * *
2913 -
عن عُقبَةَ بن مالكٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أَعَجَزتُم إذا بَعثتُ رَجُلاً فلم يَمْضِ لأمري، أنْ تَجْعَلُوا مكانَه مَن يَمضي لأمري".
قوله: "أَعَجَزْتُم إذا بعثتُ رجلاً فلم يمضِ لأمري أن تَجْعلُوا مكانَه مَن يَمْضي لأمري".
(يمضي)؛ أي: يذهبُ؛ يعني: إذا جعلتُ عليكم أحدًا أميرًا، وأمرتُ ذلك الأميرَ بأمرٍ، فلم يُطِعْني ذلك الأميرُ، ولم يذهبْ إلى حيثُ أرسَلْته، فاعزِلُوه، وأقيموا مكانَه أميرًا آخر.
وهذا الحديثُ معمولٌ به أبدًا إذا كان الأميرُ لا يحفَظُ أمرَ الرعية، ويظلمُ عليهم جاز أن يعزِلَه المسلمون، ويقيموا مُقَامه آخرَ إن أمكنَ العَزْلُ بغير إثارةِ فتنةٍ، وإراقةِ دماءٍ، فإن احتاجَ في عزلِه إلى إراقَة دمِه، ودمِ جماعةٍ من مُحِبيه، فانظر؛ فإن كان لا يُرِيقُ دمَ أحدٍ ظلمًا، بل يظلمُ عليهم في الأموال لا يجوزُ قتلُه، ولا قتلُ أحدٍ من محبيه.
وإن كان يقتلُ الناسَ ظلمًا، فانظر؛ فإن كان حصولُ القتلِ في عزله أقلَّ من القتل في بقائه على العمل جازَ قتلُه وقتلُ متعصِّبيه، وإن كان القتلُ في عزلِه أكثرَ من القتل في بقائه على العمل، لا يجوزُ عزلُه.
* * *