الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في النُّذورِ
(فصل في النُّذور)
(النُّذور): جمع نذر، قيل: هو وعدٌ بطاعة الله على شرطٍ؛ يعني: إيجاب طاعةٍ على نفسه على شرطٍ، كما لو قال: إن شفى الله مريضي، فله عليَّ إعتاقُ رقبة.
* * *
مِنَ الصِّحَاحِ:
2567 -
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَنْذُروا فإنَّ النَّذرَ لا يُغْني من القَدَرِ شيئًا، وإنما يُستَخرَجُ بهِ مِن البخيلِ".
قوله: "لا تنذروا؛ فإن النذرَ لا يُغني من القَدَر شيئًا"، أراد بهذا النهي: تأكيدًا لأمر النذر، وتحذيرًا عن التهاون به بعد لزومه؛ لأنه لو لم يكن كذلك، لَمَا وجبَ على الناذرِ الوفاءُ بنذره؛ لأنه إذا كان مَنهيًّا عنه، يكون الإتيانُ به معصيةً، وتركُ المعصية واجبٌ، وكلُّ ما كان تركُه واجبًا، كيف يلزمُ الوفاءُ به؟!
وإذا تقرَّر هذا فوجهُ الحديث: أنَّ النذرَ لا يردُّ القضاءَ السماويَّ، ولا يجلب لصاحبه نفعًا، ولا يدفعُ عنه ضرًا؛ بل معناه: أنه لا تنذروا على ظنِّ أنكم تنتفعون بشيءٍ لم يُقدِّرْه الله سبحانه، أو تدفعون عن أنفسكم به القضاءَ الأزليَّ الذي جرى عليكم، فإذا نذرتُم فأتوا بالمنذور؛ فإنَّ الذي نذرتُمُوه، لزم عليكم الوفاءُ به، هذا ما أورده الخطَّابي رحمه الله في "معالمه".
قوله: "وإنما يُستخرَجُ به من البخيل"، (يُستخرَج) معناه: يخرج، الضمير في (به) يعود إلى النذر؛ يعني: يُخرَج المالُ من البخيل بواسطة النذر؛
يعني: مَن لم يكن فيه بخلٌ، فهو يعطي باختياره من غير واسطة النذر، ومَن كان فيه بخلٌ، فلا يعطي إلا إذا وجبَ عليه الإعطاءُ بالنذر.
وفيه دليلٌ على وجوب الوفاء بالنذر إذا لم يكن معصيةً، فإذا امتنعَ عن الوفاء بالنذر، ألزمَه الحاكمُ بالوفاء.
* * *
2568 -
وقال: "مَن نذرَ أنْ يُطيعَ الله فلْيُطِعْهُ، ومَن نذرَ أنْ يعصيَهُ فلا يَعصِه".
قوله: "مَن نذرَ أن يطيعَ الله فَلْيُطِعْه، ومَن نذرَ أن يعصيَ الله فلا يَعصِه"، قال في "شرح السُّنَّة": فيه دليلٌ على أنَّ مَن نذرَ طاعةً يلزم الوفاءُ به، وإن لم يكن مُعلَّقًا بشيءٍ، وأنَّ مَن نذر معصيةً، فلا يجوز له الوفاءُ به، ولا تلزمُه به الكفَّارةُ، إذ لو كانت كفَّارةٌ لأشبهَ أن يبين، وهو قول الأكثرين، وبه قال مالك والشافعي.
وقال أصحاب الرأي: إذا نذر في معصية، فكفَّارتهُ كفَّارةُ يمين.
* * *
2569 -
وقال: "لا وفاءَ لنذْرٍ في مَعصِيةٍ، ولا فيما لا يَملِكُ العبدُ".
وفي روايةٍ: "لا نذْرَ في معصيةِ الله".
قوله: "ولا فيما لا يملك العبد"؛ يعني: لا يلزمُه الوفاءُ بنذرِ شيءٍ لا يملكه؛ فقال مالك والشافعي: لو نذرَ صومَ العيد، لم يجبْ عليه شيءٌ، وإن نذرَ نحرَ ولده فباطلٌ، وقال أبو حنيفة وأحمد: فعليه كفَّارةُ اليمين في النذر الثاني، وفي الأول: فعليه صومُ يومٍ آخرَ، هذا معنى ما أورده في "شرح السُّنَّة".
* * *
2571 -
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: قال: بينا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطُبُ إذا هو برجلٍ قائمٍ فسألَ عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيلَ، نذرَ أنْ يقومَ ولا يقعدَ، ولا يَستظِلَّ، ولا يتكلَّمَ، ويصومَ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"مُرْهُ فليتكلَّمْ وليستظِلَّ وليَقعُدْ، ولْيُتِمَّ صَوْمَهُ".
قوله: "فسأل عنه"؛ أي: سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن قيامه، لا عن اسمه.
"فقالوا: أبو إسرائيل؛ نذر أن يقومَ ولا يقعدَ
…
" إلى آخره، (أبو إسرائيل): رجل من قريش.
تقول: استظلَّ بالشجرة؛ أي: استترَ بها وقعد في ظلَّها.
وإنما أمرَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن يُتمَّ صومَه فقط دون المنذورات الأُخَر؛ لأنَّ نذرَه كان على نوعَين: نذرُ طاعةٍ، ونذرُ معصيةٍ؛ فالصومُ كان نذرَ طاعةً، فأمرَه بالوفاء به، والباقي كان نذرَ معصيةٍ، فلم يأمرْه بالوفاء به.
* * *
2572 -
وعن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى شيخًا يُهادَى بين ابنيْهِ فقال: "ما بالُ هذا؟ " قالوا: نذرَ أنْ يمشيَ، قال:"إنَّ الله عز وجل عَنْ تَعْذِيب هذا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ"، وأَمَرَهُ أنْ يركبَ.
وفي روايةٍ: "اركبْ أيُّها الشَّيخُ، فإنَّ الله غنيٌّ عنكَ وعن نذرِك".
قوله: "رأى شيخًا يُهادَى بين ابنيه
…
" إلى آخره، (المُهاداة): المشي بين الاثنين مُعتمِدًا عليهما من ضعفٍ أو تمايُلٍ؛ يعني: رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم شيخًا يمشي بين ابنيه مُعتمِدًا عليهما من الضعف، بحيث كان يجرُّ أخمصَيه على الأرض، فقال: ما حالُ هذا الشيخ؟ قالوا: نذرَ أن يمشيَ إلى بيت الله، فقال: مُرُوه فَلْيَركبْ؛ فإنَّ الله سبحانه لَغنيٌّ عن تعذيبه نفسَه، وعن نذره.
قال الخطَّابي: قد اختلف العلماء فيمَن نذر أن يمشيَ إلى بيت الله؛ فقال الشافعي: يمشي إن أطاقَ المشيَ، فإن عجز أراق دمًا وركب، وقال أصحاب الرأي: يركب ويُريق دمًا، سواءٌ أطاقَ المشيَ أو لم يُطِقْه.
* * *
2573 -
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّ سعدَ بن عُبادَةَ استفْتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في نذرٍ كانَ على أُمَّهِ، فتُوفِّيَت قبلَ أنْ تَقْضيَه؟ فأفتَاه بأنْ يَقضيَه عنها.
قوله: "استَفتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في نذرٍ كانَ على أمِّه"، (استفتى)؛ أي: طلب الفتوى، "فتُوفِّيت"؛ أي: ماتت.
فيه دليلٌ على أنَّ مَن مات وعليه حقٌّ من حقوق الله تعالى كالزكاة والكفارة والنذر؛ يجب أداؤها من التركة قبل الوصايا والميراث، كما يجب أداء ديون الآدمي، سواءٌ كان وصَّى بها أو لم يُوصِ، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تُقضَى ما لم يُوصِ بها. وقال مالك: لا تُقضَى ما لم يُوصِ بها، فإذا أوصى يُقضَى من الثلث، لكنه يُقدَّم على سائر الوصايا، هذا معنى كلام "شرح السُّنَّة".
* * *
2574 -
وعن كعبِ بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسولَ الله: إنَّ مِن تَوْبَتي أنْ أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى الله وإلى رسولهِ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أمسِكْ بعضَ مالِكَ فهو خيرٌ لكَ"، قلتُ: فإني أُمسِكُ سَهْمي الذي بخيبرَ.
قوله: "إنَّ من توبتي أن أنخلعَ من مالي صدقةً"، (من توبتي): خبر (إن)، (أن أنخلعَ): اسمه، و (أن) مع ما بعده في تقدير المصدر، تقديره: من توبتي انخلاعي.
قال الإمام التُّورِبشتي في "شرحه": الصواب أن يُروَى: (أنخلع)، من (الانخلاع)، بدل (أتخلَّعَ) من (التخلُّع)؛ وإنما قال: الانخلاع أصحُّ؛ لأنه مُطاوعٌ، خلعتُه فانخلعَ؛ أي: قَبلَ الخلعَ وانقادَ له، ولا يدلُّ التخلُّعُ على هذا، فلهذا عدل إليه، كأنه قال: ما أنا فيه يقتضي خلعَ مالي صدقة مكفرة، فينخلعُ منه بتَّةً، ولا يدل التخلُّعُ لا على الموجب الخالع المتقدم، ولا على بتِّ الخلع.
* * *
مِنَ الحِسَان:
2575 -
عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذرَ في معصيةِ الله، وكفَّارتُه كفارةُ اليمينِ".
قوله: "لا نذرَ في معصيةِ الله، وكفارتُه كفارةُ اليمين": هذا مُستنَدُ أبي حنيفةَ رحمه الله كما ذُكر قبلُ.
* * *
2576 -
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لم يُسَمِّهِ فكفّارتُه كفَّارةُ يمينٍ، ومَن نَذَرَ نَذْرًا في معصيةٍ فكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ، ومَن نَذَرَ نَذْرًا لا يُطيقُه فكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ، ومَن نَذَرَ نَذْرًا أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بهِ"، ووقَفه بعضُهم على ابن عباسٍ رضي الله عنهما.
قوله: "مَن نذرَ نذرًا لم يُسمِّه، فكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ"؛ يعني: مَن نذر مطلقًا، فقال: للهِ عليَّ! ولم يُسمِّ شيئًا، فعليه كفَّارةُ اليمين، ذكرَه في "شرح السُّنَّة".
* * *
2577 -
عن ثابتِ بن الضَّحَّاك: أنه قال: أتَى رَجُلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: إني نذرتُ أنْ أنحر إبلاً ببُوانَةَ قال: "أكان فيها وَثَنٌ مِن أَوثانِ الجاهليةِ يُعْبَدُ؟ " قالوا: لا، قال:"فهلْ كانَ فيها عيدٌ مِن أعيادِهم؟ " قالوا: لا، قال:"أَوفِ بنذرِكَ فإنه لا نَذْرَ في معصيةِ الله، ولا فيما لا يملِكُ ابن آدمَ".
قوله: "نذرتُ أن أنحرَ إبلاً ببُوانةَ"، (بُوانة) بضم الباء: اسم موضع، وقال الشاعر:
أَيَا نَخْلَتَي وَادِي بُوانةَ حَبَّذا
…
إذا نامَ حُرَّاسُ النَّخِيلِ جَنَاكُمَا
ذكره في "الصِّحاح".
قال في "شرح السُّنَّة": أسفلَ مكةَ دونَ يَلَمْلَم، يُقال: كان السائلُ كرْدَمَ بن سفيانَ الثقفيَّ.
وفيه دليلٌ على أنَّ الوفاءَ بنذرٍ لا معصيةَ فيه واجبٌ.
* * *
2578 -
وعن عمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدَّه: أنَّ امرأةً قالت: يا رسولَ الله! إني نَذَرتُ أنْ أَضرِبَ على رأسِكَ بالدُّفَّ؟ قال: "أَوْفي بنذرِكِ"، قالت: إني نذرتُ أنْ أذبَحَ بمكانِ كذا وكذا - بمكانٍ كانَ يذبحُ فيهِ أهلُ الجاهليةِ، قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لِصَنَمٍ؟ " قالت: لا، قال:"أَوْفي بنذرِك".
قولها: "إني نذرتُ أن أضربَ على رأسِكَ بالدُّف، قال: أوفي بنذرك": ضربُ الدُّفَّ ليس من القُربات والطاعات التي وجب على الناذر الوفاءُ بها؛ بل من المباحات، كأكل الأطعمة اللذيذة، ولبس الثياب الناعمة وغير ذلك، لكنه صلى الله عليه وسلم أمرَها بالوفاء به نظرًا إلى قصدها الصحيح، الذي هو إظهارُ الفرح والسرور بمَقدمِهِ الشريفِ سالمًا غانمًا ظافرًا على الأعداء، وذلك يُوجِب الفرحَ لأهل
الإيمان، والمساءةَ لأهل النفاق والكفر والطغيان، فصار ضربُ الدُّفَّ ها هنا كالطاعات، فلهذا قال:(أوفي بنذرك)؛ وكذا استُحِبَّ ضربُ الدُّفَّ أيضًا في النكاح؛ لِمَا فيه [من] إعلانٍ وإظهارٍ للطاعة، التي هي موافقةُ الأنبياء والمرسلين، وكذلك قولُه صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت:"اُهجُ قريشًا؛ فإنه أشدُّ عليهم من رشقِ النبلِ"؛ فإنه مثلُ ضربِ الدُّفِّ في الموضَعين؛ لأنه يُوجبُ غيظَ أعداء الله تعالى، وهو كعين الطاعة.
* * *
2579 -
عن أبي لُبابَةَ: أنَّه قالَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ مِن تَوْبَتي أنْ أَهْجُرَ دارَ قَوْمي التي أَصبتُ فيها الذنبَ، وأنْ أنخلِعَ مِن مالي كلَّه صَدَقةً، قال:"يُجْزِئ عنكَ الثُّلُثُ".
قوله: "إن من توبتي أن أهجرَ دارَ قومي التي أصبتُ فيها الذنبَ
…
" إلى آخره، (هجَر يهجُر هِجرانًا): إذا ترك، (أصاب): وجد؛ يعني: مِن جملة توبتي أن أتركَ الدارَ التي أذنبتُ فيها، وهي دار قومي، وإنما قال هذا فِرارًا عن موضع غلب عليه الشيطانُ بالذنب فيه، ومِن جملة توبتي أن أتصدَّقَ بجميع مالي شكرًا لقَبولِ توبتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُجزئ عنكَ الثلثُ"، (يُجزئ): يكفي؛ يعني: تصدُّقُك بثلث مالك يكفيك.
قيل: فيه دليلُ الصُّوفيةِ على إثبات الغَرَامةِ على مَن يُذنب ذنبًا في الطريقة، ثم يستغفر.
قيل: إنَّ أبا لُبابةَ كان من بني قُريظة، وسببُ ذنبه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حاصَرَ يهودَ بني قُريظةَ إحدى وعشرين ليلةً، فسألوا الصلح كما صالَحَ إخوانَهم بني النَّضير؛ على أن يسيروا إلى أَذْرِعات وأريحا من أرض الشام، فأبى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلَّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبَوا وقالوا: أَرسِل إلينا أبا لُبَابةَ مروانَ بن
المنذر، وكان مُناصِحًا لهم؛ لأنَّ عيالَه ومالَه في أيديهم، فبعثَه إليهم، فقالوا له: ما ترى؟ هل ننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار إلى حلقه أنه الذبح؛ يعني: إن تَنزلوا على حكم سعد تُقتَلوا، قال أبو لُبابة: فما زالتْ قدماي حتى علمتُ أني قد خنتُ الله ورسولَه صلى الله عليه وسلم، فنزلت:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]، فشدَّ نفسَه على ساريةٍ من سَواري المسجد وقال: والله لا أذوقُ طعامًا ولا شرابًا - يعني: أموت - أو يتوبَ الله عليَّ، فمكث سبعةَ أيام حتى خرَّ مغشيًّا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تِيب عليك، فحُلَّ نفسَك، فقال: لا، والله لا أحلُّها حتى يكونَ رسولُ الله هو الذي يحلُّني، فجاءه، فحلَّه بيده، فقال: إنَّ من تمامِ توبتي أن أهجرَ دارَ قومي
…
إلى آخره، ذكرَه مولانا وسيدُنا صفيُّ الدِّين رحمه الله في "تفسيره".
* * *
2580 -
عن جابرِ بن عبدِ الله رضي الله عنه: أنَّ رجلاً قالَ يومَ الفتحِ: يا رسولَ الله! إني نذرتُ إنْ فتحَ الله عليكَ مكَّةَ أنْ أُصلَيَ في بيتِ المَقْدسِ ركعتينِ، فقالَ:"صلِّ ههنا"، ثم أَعادَ عليهِ فقال:"صل ههنا"، ثم أَعادَ عليهِ فقالَ:"شَأنُكَ إذًا".
قوله: "شأنَك إذًا"، (شأنَك): نُصب على المفعول به، تقديره: الزَمْ شأنَك، (إذًا): جوابٌ وجزاءٌ لمُقدَّرٍ هنا، تقديره: فإذا فعلتَ الصلاةَ هناك فقد جازيتَ شرطَك النذر، وجوابٌ لقوله: نذرتُ هناك، فكيف تأمرُني ها هنا؟! فأجابه بإجابة ذلك؛ أي: افعلْ ذلك.
وقوله: (شأنَك) فيه نوعٌ من الرمز، يشير إلى أنَّ الصوابَ ما فاته، وهو أنَّ النذرَ والوفاءَ به عبادةٌ، والصلاةُ عبادةٌ، ومكةُ أفضلُ من بيت المَقدس، فيكون أداءُ العبادة فيها أكملَ، فلما نبَّهه على الأكمل ولم يَقبلْه، وَكَلَ ذلك إلى شأنه وخيَّرَه.
وفيه نوعٌ تهديد ما.
بقي أنَّ السائلَ كيف اجترأ على مخالفته؟! وكيف أذن له بعد أن نهاه؟! فَلْيُنظرْ فيه.
* * *
2581 -
وعن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّ أختَ عُقْبةَ بن عامرٍ نَذَرت أنْ تحُجَّ ماشيةً فسُئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقيلَ: إنها لا تطيقُ ذلكَ، فقال:"إنَّ الله لغنيٌّ عن مَشْي أُختِكَ، فلتَرْكبْ ولتُهْدِ بَدَنَةً".
وفي روايةٍ: "فأمَرَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ تَرْكَبَ وتُهدِيَ هَدْيًا".
وفي روايةٍ: قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله لا يَصْنَعُ بشقاءِ أختِكَ شيئًا، فلْتَحُجَّ راكِبَةً وتُكَفِّرَ يمينَها".
قوله: "إنها لا تُطيق ذلك": الضمير في (إنها) يعود إلى أخت عقبة، وذلك إشارة إلى قوله:"أن تحج ماشية"؛ يعني: إلى حجِّها بالمشي.
قوله: "فَلْتَركبْ وَلْتُهدِ بَدَنة"، (البَدَنة): ناقة أو بقرة تُنحَر بمكة، الفاء في (فَلْتَركب) جواب شرط مُقدَّر؛ يعني: إذا عجزت عن المشي إليها، فَلْتَركبْ، وَلْتُرسلْ بَدَنة إلى مكة؛ يعني: إذا أطاقت المشي [فـ]ـلا يجوز لها الركوب، هذا مُستنَدُ الشافعي.
وقال أصحاب الرأي: يجوز للناذر أن يركبَ ويُريقَ دمًا، سواءٌ أطاق المشي أو لم يُطِقْه.
قوله: "إن الله لا يصنعُ بشقاءِ أختِكَ شيئًا"، (الشقاء): المشقة والتعب، الفاء في "فَلْتَحجَّ" أيضًا جواب شرط مُقدَّر، وتقديره: إن عجزَتْ فَلْتَحجَّ.
* * *
2582 -
ورُوي: أن عُقْبَةَ بن عامرٍ رضي الله عنه سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أُختٍ له نذرَتْ أنْ تَحُجَّ حافيةً غيرَ مُختمِرَةٍ؟ فقال: "مروها فلْتَخْتَمِرْ ولتَركبْ، ولتَصمْ ثلاثةَ أيامٍ".
قوله: "نذرتْ أن تحجَّ حافيةً غيرَ مُختمِرة"، (حافية): حال من الضمير في (أن تحجَّ)، و (غيرَ مُختمِرة): حال بعد حال من الضمير المذكور.
قوله: "مُرُوها فَلْتَخْتَمِرْ وَلْتَركبْ، وَلْتَصمْ ثلاثةَ أيام"، قال الخطَّابي: أمَّا أمرُه إياها بالاختمار والاستتار، فلأنَّ النذرَ لم ينعقدْ فيه؛ لأنَّ ذلك معصيةٌ، والنساءُ مأموراتٌ بالاختمار والاستتار. وأمَّا نذرُها المشي حافيةً، فالمشي قد يصحُّ فيه النذر، وعلى صاحبه أن يمشيَ إن قدرَ عليه، فإذا عجز ركبَ وأهدى هَدْيًا، وقد يحتمل أن تكونَ أختُ عقبة كانتَ عاجزةً عن المشي، بل قد رُوي ذلك من رواية ابن عباس.
وأمَّا قولُه: (وَلْتَصمْ ثلاثةَ أيام)، فإنَّ الصيامَ بدلٌ من الهدي، خُيرتْ فيه كما خُير قاتلُ الصيد أن يفديَه بمثله إذا كان له مثلٌ، وإن شاء قوَّمَه وأخرجَه إلى المساكين، وإن شاء صام بدلَ كلِّ مُدٍّ من الطعام يومًا، وذلك قوله تعالى:{أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، هذا كلُّه لفظُ الخطَّابي.
* * *
2583 -
وعن سعيدِ بن المُسيبِ: أنَّ أَخَوَيْنِ مِن الأنصارِ كانَ بينَهما ميراثٌ فسألَ أحدُهما صاحبَهُ القِسْمَةَ فقال: إنْ عُدتَ تسألُني القِسْمَةَ فكلُّ مالي في رِتاجِ الكعبةِ، فقالَ لهُ عمرُ رضي الله عنه: إنَّ الكعبةَ غنيةٌ عن مالِكَ، كفِّرْ عن يمينِكَ وكلَّم أخاكَ، فإنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ:"لا يمينَ عليكَ، ولا نذرَ في معصيةِ الربَّ، ولا في قَطيعةِ الرَّحِمِ، ولا فيما لا تملكُ".
قوله: "إن عدتَ تسألُني القِسمةَ فكلُّ مالي في رِتاجِ الكعبةِ"، (الرَّتاج، والرَّتَج) بالتحريك: الباب العظيم، ذكره في "الصِّحاح".
قال في "شرح السُّنَّة": ومَن ذكر هذا لا يريد نفسَ الباب، إنما يريد به أن يكونَ مالُه هَدْيًا إلى الكعبة، فيضعه منها حيث نواه وأراده؛ هذا نذرٌ أخرجَه مخرجَ اليمين؛ لأنه قصد به منعَ نفسِهِ عن الفعل، كالحالف يقصد بيمينه منعَ نفسه عن الفعل، فذهب الشافعي - في أصحِّ أقواله - وأحمد وإسحاق إلى أنه إذا فعل ذلك الفعلَ، يجبُ عليه كفَّارةُ اليمين، كما لو حنثَ في يمينه.
وذهب قومٌ إلى أنَّ عليه الوفاءَ بما سَمَّى، وهو المشهور من قول أصحاب الرأي، وبه قال مالك.
° ° °