الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2972 -
عن جابرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ أحسنَ ما دخلَ الرجلُ على أهلِهِ إذا قدِمَ مِن سفرٍ أولُ الليلِ".
قوله: "إن أحسن ما دخل الرجل أهله إذا قدم من سفر أول الليل" قد ذكر قبل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يطرق أهله، وأنه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا طال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقدمُ من سفر إلا نهارًا.
هذه الأحاديث صريحةٌ بأن الدخول على الأهل من السفر قبل الليل أفضل من الدخول ليلًا، وتأويل هذا الحديث أن أحسن ساعات الليل في الدخول على الأهل أول الليل؛ يعني: أنه إذا فاته الدخول نهارًا وأراد أن يدخل ليلًا فأولُ الليل قبل أن يظلم الليل أحسن من الدخول في وسط الليل.
* * *
4 - باب الكتابِ إلى الكُفَّارِ ودعائِهم إلى الإسلامِ
(باب الكتاب إلى الكفار)
مِنَ الصِّحاحِ:
2973 -
عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتبَ إلى قيصرَ يدعُوه إلى الإِسلام، وبعثَ بكتابهِ إليه مع دِحْيَةَ الكلبيَّ، وأمَرَهُ أنْ يدفعَهُ إلى عظيم بُصْرَى ليدفَعه إلى قيصرَ، فإذا فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
مِن محمدٍ عبدِ الله ورسولهِ إلى هِرَقْلَ عظيم الرُّومِ، سلامٌ على مَن اتَّبعَ
الهدَى، أمَّا بعدُ: فإني أَدعُوكَ بداعيةِ الإِسلامِ، أسلِمْ تَسْلَم، وأسلِمْ يُؤْتِكَ الله أجرَكَ مرَّتينِ، فإنْ تَوَلَيتَ فعليكَ إثمُ الأرِيسيَّينَ، و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ".
ويُروَى: "بدِعايةِ الإِسلامِ".
قوله: "بعث بكتابه إليه"، (بكتابه)؛ أي: مع كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر. "إلى عظيم بصرى"؛ أي: إلى أمير بصرى، و (بصرى): اسم بلد من الشام.
"من محمَّد"؛ أي: هذا الكتاب جاء من محمَّد، أو مبعوثٌ من محمَّد "عبد الله" صفةُ (محمَّد).
"هرقل" بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف: اسم عظيم الروم؛ أي: ملك الروم في ذلك الوقت، و (قيصر) اسمٌ لجميع ملوك الروم، كما يقال في بعض البلاد لملكهم: أتابك، ولبعض البلاد: سلطان.
"سلام على من اتبع الهدى"، (الهدى): طريق الحق وهو الإِسلام، ولم يقل: سلام عليك؛ لأنه كافرٌ ولا يجوز أن يسلَّم النبي على كافر، وكذلك لا يجوز للمسلمين أن يسلَّموا على كافرِ، بل يقولون: السلام على مَن اتبع الهدى.
قوله: "بداعية الإِسلام"، (الداعية): بمعنى الدعاء.
قوله: "أسلم تسلم"؛ يعني: أَسْلِمْ لكي تَسْلَمَ من أن نقتلك، وتَسْلَمَ من عذاب يوم القيامة.
"يؤتك الله أجرك مرتين" قد ذكرناه في أول الكتاب في قوله: "ثلاثة لهم أجران"، وكان هرقل نصرانيًا فلهذا قال صلى الله عليه وسلم:"يؤتك الله أجرك مرتين".
"فإن تولَّيت"؛ أي؛ فإن أعرضت عن الإِسلام.
"فعليك إثم الأريسيين" وهو جمع أريسيًّ - بكسر الهمزة وتشديد الياء - وهو منسوبٌ إلى الإرِّيس وهو الزارع، والمراد بالأريسيين: أتباعه من الرعايا؛ يعني: فإن لم تُسْلِمْ يوافقك رعاياك في الكفر، فيكون عليك إثم كفرهم؛ لأنهم وافقوك في الكفر.
قوله تعالى: " {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} "؛ يعني: تعالوا لنقول شيئًا هو واجب الإقرار به، والتكلُّمُ به في ديننا ودينكم، وقد أمركم نبيكم عيسى صلى الله عليه وسلم بذلك وذلك الشيء هو:" {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا} "؛ أي: ولا تتخذ مخلوقًا إلهًا.
" {فَإِنْ تَوَلَّوْا} "؛ أي: فإذ أعرض أهل الكتاب عن اتخاد إله واحد فقولوا أيها المسلمون: اشهدوا يا أهل الكتاب بأنَّا مسلمون؛ لأنَّا لا نعبد مع الله إلهًا آخر، ولستم مسلمين؛ لأنكم تعبدون غير الله.
قوله: "بدعاية الإِسلام"؛ أي: بدعاء الإسلام، وقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة أنه لمَّا وصل كتاب رسول الله إلى هرقل، فسأل هرقلُ حالَ النبي مِن الذي جاء بكتابه فقال له: محمد من أشراف قومه، أو من أوساطهم، أو من أوضاعهم؟ فقال: بل من أوساطهم، فقال: هكذا كان الأنبياء، فقال: أتباعه فقراء أم أغنياء؟ فقال: بل فقراء، فقال: هكذا كان أتباع الأنبياء، فقال: إذا حارب قومًا يكون الظفر كله له أو يكون بعض الظفر له وبعضه لخصمه؟ فقال: يكون بعض الظفر له وبعضه لهم، فقال: هكذا كان الأنبياء.
فلما ظهر لهرقل كون محمَّد نبيًا بما سأل من السؤالات، فقال: آمنت بمحمد، وأمر قومه أن يؤمنوا، فارتفعت أصوات قومه وقالوا: إنا لا ندع دين آبائنا، فخاف هرقل من قومه، وأمر بإغلاق باب قصره، وبعث مناديًا يأمر أن ينادى على سطح قصره: أيها الناس إن هرقل يمتحنكم بعرض دين محمَّد صلى الله عليه وسلم -
ليعلم أنكم ثابتون على دين آبائكم أم لستم بثابتين فيه، فارجعوا إلى دين آبائكم فإن هرقل ثابثٌ على دينه القديم ولم يؤمن بمحمد.
وقال هرقل لمن جاء بكتاب نبي الله: قل لمحمد إني أعلم أنك نبي ولكن أخاف من الرعايا ومن ذهاب ملكي، فلهذا لا أُظهر الإيمان.
* * *
2974 -
وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثَ بكتابهِ إلى كِسرى مع عبدِ الله بن حُذافَةَ السَّهميِّ، فأمرَهُ أنْ يدفَعَه إلى عظيم البحرَيْنِ فدفعَهُ عظيمُ البحرينِ إلى كِسْرَى فلمَّا قرأَهُ مَزَّقَه، قال ابن المسيبِ: فدعا عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُمَزَّقُوا كلَّ ممزَّقٍ.
قوله: "أن يدفعه
…
إلى كسرى"، (كسرى): بفتح الكاف وكسرها: اسم ملوك العجم، كما أن قيصر اسمٌ لملوك الروم.
"مزقه"؛ أي: خَرَّقه.
"فدعا عليهم رسول الله أن يمزقوا كل ممزق"، (الممزق) هنا: مصدرٌ ميمي بمعنى التمزيق؛ يعني دعا عليهم رسول الله وقال: مزَّقهم الله تمزيقًا تامًا؛ أي: فرَّقهم الله.
ذكر أن كسرى في ذلك الوقت خسرو الذي زوجته شيرين، فأجاب الله دعاء نبيه فيهم، فقام ابن خسرو شيرويه فشق بطن أبيه ليتزوَّج بشيرين لغلبة عشقه بها، فلما دفن خسرو قال شيرويه لشيرين: تعالي أتزوَّجُك، فقالت شيرين: اصبر لأدخل قبر أبيك وأودَّعه، ودخلت القبر وأخذت سيفًا ووضعت مقبضه على جرح خسرو، ووضعت بطنها على طرف السيف واعتمدت على السيف حتى دخل السيف في بطنها، وخرت على خسرو ميتة.
وكان أخذ بلاد العجم في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان ملك العجم في ذلك الوقت يزدجرد بن شهريار بن شيرويه بن برويز - وهو اسم خسرو - بن أنوشروان بن قباد بن هرمز، وتزوج أمير المؤمنين الحسين بن علي رضي الله عنهما شهريانو بنت يزدجرد.
* * *
2975 -
وقال أنسٌ: إنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كتبَ إلى كِسْرَى وإلى قيصرَ وإلى النَّجاشيِّ وإلى كلِّ جبَّارٍ يدعُوهم إلى الله، وليسَ بالنَّجاشيِّ الذي صلَّى عليهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
قوله: "وإلي النجاشي"، و (النجاشي): اسم ملوك الحبشة.
* * *
2976 -
عن سليمانَ بن بُرَيْدةَ، عن أبيه قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّرَ أميرًا على جيشٍ أو سريَّةٍ، أَوْصاهُ في خاصَّتِه بتقوَى الله، ومَن معَهُ مِن المسلمينَ خيرًا ثم قال: "اُغزُوا بسم الله في سبيلِ الله، قاتِلوا مَن كفَر بالله، اُغزُوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِروا، ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتُلوا وَليدًا، وإذا لقيتَ عدُوَّكَ مِن المُشركينَ فادعُهم إلى ثلاثِ خِصالٍ، أو خِلالٍ، فأيَّتُهنَّ ما أَجابُوكَ فاقْبَلْ منهم وكُفَّ عنهم: ثمَّ ادعُهم إلى الإسلام، فإنْ أجابُوكَ فاقبلْ منهم وكُفَّ عنهم، ثمَّ ادعُهم إلى التحوُّلِ من دارِهم إلى دارِ المهاجرينَ، وأخبرْهم أَنَّهم إنْ فعلُوا ذلكَ فلهم ما للمُهاجرينَ، وعليهم ما على المُهاجرينَ، فإن أَبَوا أَنْ يتَحوَّلُوا منها فأَخْبرْهم أنهم يكونُونَ كأعرَابِ المسلمينَ، يجري عليهم حُكْمُ الله الذي يجري على المؤمنينَ، ولا يكونُ لهم في الغنيمةِ والفيءِ شيءٌ إلا أنْ يُجاهِدُوا مَعَ المسلمينَ، فإن هُم أَبَوا فسَلْهم الجزْيَةَ، فإن هُم أَجابُوكَ فاقبلْ منهم وكُفَّ عنهم، فإنْ هم أَبَوا فاستَعِنْ بالله وقاتِلهم، وإذا حاصرْتَ أهلَ حِصْنٍ
فأَرادُوكَ أنْ تجعلَ لهم ذِمَّةَ الله وذِمَّةَ نَبيهِ فلا تَجعلْ لهم ذِمَّةَ الله ولا ذِمَّةَ نَبيهِ، ولكنْ اجْعَلْ لهمْ ذِمَّتَكَ وذمَّة أصحابكَ، فإنكم أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَمِكُمْ وَذِمَمِ أصحابكم، أهونُ مِن أنْ تَخْفِرُوا ذِمَةَ الله وذمةَ رسولِهِ، وإنْ حاصرْتَ أهلَ حِصْنٍ فأرادُوكَ أنْ تُنْزِلَهم على حُكْمِ الله فلا تُنْزِلْهم على حُكْمِ الله، ولكنْ أَنْزِلْهُمْ على حُكْمِكَ، فإنك لا تدرِي أَتُصيبُ حكمَ الله فيهمْ أم لا".
قوله: "أوصاه في خاصته بتقوى الله"؛ يعني: أوصاه في أمر نفسه، وفي أمر من معه من الجيش، فأما وصيته إياه في أمر نفسه أن يقول له: اتق الله، ووصيته إياه في أمر الجيش أن يأمره بحفظ مصالحهم، وأَمْرِه إياهم بما فيه الخير.
قوله: "ولا تَغُلُّوا"؛ أي: ولا تسرقوا شيئًا من الغنيمة.
"ولا تغدروا"؛ أي: ولا تحاربوا الكفار قبل أن تدعوهم إلى الإسلام.
"ولا تمثَّلوا"؛ أي: ولا تجعلوا المثلة، وهي قطع الأعضاء؛ يعني: مَن قتلتموه فاتركوه ولا تقطعوا أعضاءه.
"ولا تقتلوا وليدًا"؛ أي: ولا تقتلوا الأطفال بل اسبوهم، وكذلك النساء.
"وإذا لقيتَ" هذا خطاب مع أمير الجيش.
قوله: "إلى ثلاث خصال، أو خلال": هذا شك من الراوي في أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث خصال)، أو (ثلاث خلال)، و (الخصال): جمع الخصلة، و (الخلال): جمع خَلَّةٍ - بفتح الخاء - وهي الخصلة.
"فأيتهن ما أجابوك"، (ما) هنا زائدة.
"وكف عنهم"؛ يعني: فإذا فعلوا شيئًا من هذه الخصال اتركهم ولا تقتلهم. "ادعُهم إلى الإسلام" هذا هو الخصلةُ الأولى، "ثم ادعُهم إلى التحوُّل من دارهم إلى دار المهاجرين"؛ يعني: فلمَّا أسلموا فمُرْهم بالانتقال من دار الكفار إلى دار المسلمين.
"فلهم ما للمهاجرين"؛ أي: فإن انتقلوا من دارهم إلى دار المسلمين فأخبرهم أن حكمهم حكم المهاجرين من حصول الثواب واستحقاق الفيء، وذلك الاستحقاق كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم كان ينفق على المهاجرين مما أتاه الله من الفيء، ولم يُعْطِ من الفيء شيئًا لأعراب المسلمين.
"وعليهم ما على المهاجرين"؛ يعني: يجب عليهم الخروجُ إلى الجهاد إذا أمرهم الإمام، سواءٌ كان بإزاء العدو مَن به الكفايةُ أو لم يكن، بخلافِ غير المهاجرين فإنه لم يجب عليهم الخروج إلى الجهاد إذا كان بإزاء العدوَّ مَن به الكفايةُ، هكذا قال الخطابي.
"منها"؛ أي: من دار الكفار.
"فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين"، (الأعراب): أهل البادية؛ يعني: فإن لم ينتقلوا إلى دار المسلمين فلن يكون حكمُهم حكمَ المهاجرين، بل حكمُهم حكمُ المسلمين الذين لازموا أوطانهم في البادية لا في دار الكفار.
"يجري عليهم حكم الله" من وجوب الصلاة والصوم والزكاة وغيرها من الأحكام، ويجري عليهم القصاصُ أو الدية والكفارة إذا قتلوا أحدًا، وليس لهم من الفيء والغنيمة شيءٌ وإذا لم يجاهدوا، بخلافِ المهاجرين، فإنَّ رسول الله ينفق عليهم من الفيء وإن لم يجاهدوا.
"فإن هم أبوا"؛ يعني: فإن لم يقبلوا الإِسلام.
"فسلهم الجزية" اعلم أن الجزية عند الشافعي لا تؤخذ إلَّا من المجوس وأهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى عربًا كانوا أو عجمًا.
وقال مالك: تؤخذ من جميع الكفار إلا من المرتدِّ ومشركي قريش.
وقال أبو حنيفة: تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس ومن الوثني إذا كان من العجم.
وعن أحمد روايتان: رواية كأبي حنيفة، ورواية كالشافعي.
اعلم أن الخصال الثلاثة غير متضحة تحتاج إلى تبيينها:
فإحدى الخصال: الإِسلام والتحوُّل إلى دار المسلمين.
وثانيها: الإِسلام وتركُ التحوُّل.
وثالثها: الجزية.
"فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم (1) أن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهونُ من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله".
"الذمة": العهد؛ يعني: فإن قال أهل القلعة من الكفار لأمير جيش المسلمين: اجعل لنا ذمة الله وذمة رسول الله، فلا تقل؛ أيها الأمير: جعلت لكم ذمة الله وذمة رسوله، بل قل: جعلتُ لكم ذمتي، أو ذمتي وذمة أصحابي، فإنهم لو نزلوا ثم نقضوا عهدكم أهون من أن ينقضوا عهد الله وعهد رسوله.
"وإن حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيبُ حكمَ الله فيهم أم لا؟ ".
يعني إن اشترط أهلُ القلعة معك وقالوا: إنا ننزل من القلعة بما تحكم علينا باجتهادك، فاقبل منهم هذا الشرط؛ لأنك تقدر على اجتهادك فيهم: مِن قتلهم، أو ضربِ الجزية عليهم، أو استرقاقهم، أو المنِّ، أو الفداء، فأيُّ شيء رأيت فيه المصلحة لجيشك من هذه الأشياء فاحكم به، وإن قالوا: ننزل بما يحكم الله علينا - أي: بما يوحي على نبيه فينا - فلا تقبل هذا الشرط منهم؛ لأنك
(1) في جميع النسخ: "فإنهم".
لا تدري أن الله ينزل الوحي على نبيه فيهم أو لم ينزل.
ومع أن زمان النبي زمانُ الوحي لا يجوز للإمام أن يشترط نزول أهل قلعة بحكم الله، فكيف يجوز بعد النبي لإمامٍ أو لأمير جيش أن يشترط نزول أهل قلعة بحكم الله على واحد من الأشياء المذكورة على التعيين؛ لأن أحدًا لا يعرف مراد الله تعالى، بل يشترط الإمام مع أهل القلعة النزول بما يقتضي إليه اجتهاده من الأشياء المذكورة.
* * *
2977 -
عن عبدِ الله بن أبي أَوْفَى رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في بعضِ أيَّامِهِ التي لَقِيَ فيها العَدُوَّ انتظرَ حتى مالَت الشمسُ ثمَّ قامَ في الناسِ فقالَ: "يا أيُّها الناسُ، لا تتمَنَّوا لقاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا الله العافيةَ، فإذا لقيتمُوهم فاصبرُوا، واعلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تحتَ ظِلالِ السيوفِ، ثمَّ قال: اللهمَّ مُنزِلَ الكتابِ، ومُجْرِيَ السحابِ، وهازِمَ الأحزابِ، اهْزِمْهُمْ، وانصرَنا عليهم".
قوله: "لقي فيها"؛ أي: قاتل الكفار، الضمير في (فيها) ضمير (الأيام).
"انتظر حتى مالت الشمس"؛ يعني: لم يحارب قبل الظهر لفَرْطِ الحرارة، وانتظر حتى دخل الظهر وانكسر بعض الحرارة، ثم وعظ الناس وحرَّضهم على القتال.
قوله: "واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف"؛ يعني: الجنة تحصل للرجل عند استعمال السيوف في قتال الكفار، وإنما ذكر السيوف من بين آلات الحرب؛ لأن أكثر سلاح العرب السيوف، ولأن استعمال السيوف أشد من استعمال السهم؛ لأن استعمال السيوف إنما يكون بمقاربة العدو، ومقاربةُ العدو أشدُّ خوفًا من مباعدته.
* * *
2978 -
عن أنسٍ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا غزا بنا قومًا لم يكنْ يَغْزُو بنا حتى يُصبحَ وينظرَ، فإنْ سمعَ أذانًا كَفَّ عنهمْ وإنْ لم يَسْمَعَ أذَانًا أغارَ عليهم، قال: فخرجْنَا إلى خيبرَ فانتهَيْنَا إليهم ليلًا، فلمَّا أصبَحَ ولم يسمعْ أذانًا ركبَ وركبتُ خلفَ أبي طلحةَ وإنَّ قَدَمي لَتَمَسُّ قدمَ نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم قال: فخرجُوا إلينا بِمَكاتِلِهم ومَساحِيهم، فلمَّا رَأَوْا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالوا: مُحمَّدٌ والله، محمدٌ والجيشُ، فَلَجَؤوا إلى الحصنِ، فلمَّا رآهمُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال:"الله أكبرُ الله أكبرُ، خَرِبَتْ خيبرُ، إنَّا إذا نَزَلْنا بساحةِ قومٍ فَساءَ صباحُ المُنْذَرِينَ".
قوله: "غزا بنا" الباء بمعنى المصاحبة والمعية؛ يعني: إذا غزونا وهو مصاحبنا لم يتركنا أن نُغِير بلدًا في الليل حتى يدخل الصباح، ونستمعَ الأذانَ.
ويُعرف بلد المسلمين من بلد الكفار بالأذان.
ويحتمل أن يكون تركُ الإغارة لأجل أن يكون الكفار في الليل عراةً نائمين الرجال منهم والنساء، فكره صلى الله عليه وسلم أن يفضحهم، فتركهم حتى يستيقظوا من النوم ولبسوا ثيابهم ثم أغار عليهم.
قوله: "وإن قدميَّ لتمسُّ قدم النبي صلى الله عليه وسلم"؛ يعني: كنت وأبو طلحة والنبيَّ صلى الله عليه وسلم راكبينَ على جمل واحد.
"فخرجوا إلينا"؛ أي: خرجوا من القلعة قاصدين عمارة نخلهم ولم يعلموا دخولنا عليهم.
"المكاتل": جمع مكتل وهو الزنبيل، و"المساحي": جمع مِسْحاةٍ وهي معروفة.
قوله: "محمَّد"؛ أي: هذا محمَّد.
"والخميس"؛ أي: وهذا الجيش جيشه.
"فلجؤوا"؛ أي: التجؤوا وعادوا إلى القلعة.
"بساحة قوم"؛ أي: بأرض قوم.
"فساء صباح المنذرين"، (ساء): بمعنى بئس؛ أي: ينزل العذاب من الله والقتلُ والإغارةُ معًا على مَن أنذرتُه ولم يؤمن.
* * *
2979 -
وعن النُّعمانِ بن مُقَرِّن قال: شهدتُ القتالَ مَع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَكانَ إذا لم يُقاتِلْ أولَ النهارِ انتظرَ حتى تهبَّ الأرواحُ وتحضُرَ الصَّلاةُ.
قوله: "حتى تهب الأرواح وتحضر الصلاة"، (تهب الأرواح)؛ أي: تجيء الأرواح، جمع ريح، وأصله: رِوْح، فقلبت الواو ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، وأراد بـ "الصلاة" هنا: صلاة الظهر؛ أي: أخَّر القتال حتى تكسر الحرارة.
* * *
مِنَ الحِسَان:
2980 -
عن النُّعمانِ بن مُقَرَّن قال: شهِدْتُ معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فكانَ إذا لم يقاتِلْ أوَّلَ النَّهارِ انتظرَ حتى تزولَ الشمسُ وتَهُبَّ الرياحُ وينزِلَ النصرُ.
قوله: "وينزل النصر"؛ يعني: حتى يدخل وقت صلاة الظهر والعصر، ويدعو المسلمون عقيب الصلاة لجيوش المسلمين، فإن عادة المسلمين أن يدعو عقيب الصلوات لجيوش المسلمين، فإنهم إذا دعوا جيوش المسلمين تقبل دعوتهم.
* * *