الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[16]
كِتابُ الإمَارَة وَالقَضَاءِ
1 - باب
مِنَ الصِّحَاحِ:
2752 -
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أطاعَني فقد أطاعَ الله، ومن عصَاني فقد عَصَى الله، ومَن يُطِع الأميرَ فقد أطاعَني، ومن يَعْصِ الأميرَ فقد عصَاني، وإنَّما الإمامُ جُنَّةٌ، يُقاتَلُ مِن ورَائِه ويُتَّقَى بهِ، فإنْ أَمَرَ بتقوَى الله وعَدلَ فإنَّ له بذلك أَجْرًا، فإن قالَ بغيرِه فإنَّ عليهِ مِنهُ".
"إنما الإمام جُنَّةٌ، يقاتَلُ من ورائه ويُتَّقَى به"؛ يعني: الإمام كترسٍ ينبغي أن يكون قدام جيشه في الحرب؛ ليقاتل المسلمونَ الكفارَ بقوته واستظهاره، ويتعلم الجيشُ الشجاعةَ منه، ولا يجوز له أن يفرَّ ويترك المسلمين بين الكفار، وكذلك في جميع الأمور ينبغي أن يكون ملجأً للمسلمين، يقضي حوائِجَهم، ويعينُهُم على أمورِهِم، ويدفع الظالمينَ عن المظلومين.
و (يُتَّقَى به)؛ أي: يُدفع بسببه وبقوته الظلمُ عن المسلمين.
قوله: "فإنَّ عليه منه"؛ يعني: فإن عليه وزرًا منه؛ أي: من ذلك الظلم وتَرْكِ العدل.
* * *
2753 -
وقال: "إنْ أُمِّرَ عليكم عبدٌ مُجَدَّعٌ يَقودُكم بكتابِ الله، فاسمَعُوا له وأَطيعُوا".
قوله: "إن أُمِّرَ عليكم عبدٌ مُجَدَّعٌ يقودُكم بكتابِ الله فاسمعوا له وأطيعوا"، (أُمِّرَ)؛ أي: جُعل أميرًا، و (المُجَدَّعُ): مقطوع الأنف أو الأذن.
(يقودُكُمْ)؛ أي: يأمركم بإتباع ما في القرآن، فأطيعوه ولا تحقروه لحقارة صُورَتِهِ؛ لأنه نائب الشرع.
روت هذا الحديث: أم الحصين.
* * *
2754 -
وقال: "اسمعُوا وأطيعُوا وإنْ استُعمِلَ عليكم عبدٌ حَبَشيٌّ، كأنَّ رأسَهُ زَبيبةٌ".
قوله: "وإن استُعْمِلَ عليكم"؛ أي: وإن جُعِلَ عليكم أميرًا وحاكمًا، "كأنَّ رأسَهُ زبَيبةٌ"؛ يعني: وإن كان صغيرَ الجثة حتى كأن رأسه زبيبة في الصغر، هذا مبالغةٌ في تركِ حقارة الحاكم، وإن كان حقيرَ الصورة.
روى هذا الحديث: أنس.
* * *
2755 -
وقال: "السَّمعُ والطَّاعةُ على المرءِ المسلمِ فيما أَحَبَّ وكرِهَ، ما لم يُؤمرْ بمعصيةٍ، فإذا أُمِرَ بمعصيةٍ فلا سَمْعَ ولا طاعةَ".
قوله: "السمعُ والطاعةُ"؛ يعني: سماعُ كلام الحاكم وطاعتُه واجبٌ على كل مسلم؛ سواء أمره بما يوافق طبعه، أو لم يوافقه، بشرط أن لا يأمره
بمعصية، فإن أمره بمعصية فلا تجوز طاعتُهُ، ولكن لا يجوز محاربة الإمام، بل يخبر الإمامَ بأني لا أفعلُ هذا لأنه معصية، فإن تركه من غير إيذاء فهو المراد، وإن قصد إيذائه فليفرَّ منه.
روى هذا الحديث: ابن عمر.
* * *
2756 -
وقال: "لا طاعةَ في معصيةٍ، إنَّما الطَّاعةُ في المعروفِ".
قوله: "لا طاعة في معصية"؛ يعني: لا تجوزُ طاعةُ الإمامِ فيما لا يرضى الله به.
روى هذا الحديث: علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
* * *
2757 -
وعن عُبادة بن الصَّامت رضي الله عنه قال: بايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السَّمعِ والطَّاعةِ، في العُسرِ واليُسرِ، والمَنْشَطِ والمَكْرَهِ، وعلى أَثَرَةٍ علينا، وعلى أنْ لا نُنازِعَ الأمرَ أهلَهُ، وعلى أنْ نقولَ بالحقِّ أينما كُنَّا، لا نخافُ في الله لومَةَ لائمٍ.
وفي روايةٍ: وعلى أنْ لا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، إلا أنْ تَرَوْا كُفرًا بَواحًا عندَكم مِن الله فيهِ بُرهانٌ.
قوله: "المَنْشَطِ والمَكْرَهِ": كلُّ واحد منهما مصدرٌ ميمي، أو مكان أو زمان، وكل واحد من هذه الثلاثة يُحتمل فيهما؛ يعني: أطعناه ونصرناه فيما فيه لنا نَشَاطٌ وكراهيةٌ، أو في زمانِ النَّشاط والكراهية، أو في موضع فيه نشاط وكراهية؛ أي: فيما يوافقُ طباعنا أو لا يوافِقَهَا.
"وعلى أثَرَةٍ علينا"، (الأَثَرَة) بفتح الهمزة والثاء: اسم من (استأثرَ) الشيءَ: إذا استبدَّ به؛ أي: أخذه بخاصة نفسه، وفعل الشيء بنفسه من غير إذن أحد، والمراد من (أَثَرَة) في الحديث: أَنَّا نطيعُ الأمير، وإن كان يفعل شيئًا لنفسه بغير إذننا ورضانا، وإن كان يفضل أحدًا علينا من غير استحقاق، وإن كان يأخذ شيئًا لنفسه بغير رضانا؛ يعني: لا نخالفُهُ ولا نعصيه فيما يفعل، وإن كان شيئًا لا نرضى به.
قوله: "وعلى أن لا ننازعَ الأمرَ أهلَهُ"؛ يعني: بايعناه على أن لا نأخذ الحكم من الحاكم؛ أي: لا نعزلَ الأميرَ عن الإمارة، ولا نحاربُهُ.
"في الله"؛ أي: في أمر الله؛ أي: في سبيل الله.
"لومةَ لائمٍ": ملامَةَ لائمٍ؛ أي: عاذل؛ يعني: لا نخافُ إيذاءَ مَنْ يُؤذِينا فيما فيه رضى الله تعالى.
"إلا أن تروا كُفْرًا بَوَاحًا عندكم منَ الله فيه برهان"، (البَوَاح): الخالص والظاهر؛ يعني: لا تعزلوا الأميرَ إلا أن تروا منه كفرًا ظاهرًا لا يحتملُ تأويلاً، ويكون لكم بقتله في الكفر عند الله عذرٌ، فحينئذ جازَ أن تقتلوه بالكفر، وإن لم يصدر منه كفرٌ لا تقتلوه، ولا تعزلوه بصدورِ المعصية والظلم منه.
* * *
2759 -
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "من رَأَى مِن أمِيرِه شيئًا يكرهُهُ فليصبرْ، فإنَّه ليسَ أحدٌ يُفارِقُ الجماعةَ شِبرًا فيموتُ، إلا ماتَ مِيتةً جاهليةً".
قوله: "مِيْتَةً جاهلية"؛ يعني: كانت عادة أهل الجاهلية أن يستقلَّ كلُّ واحدٍ برأيه وكلُّ جماعةٍ برأيهم، ولا يطيعون أميرًا.
وفي الشَّرع: لا يجوزُ هذا، بل يجبُ على المسلمين أن يكونَ لهم إمامٌ
يطيعونَهُ؛ كيلا تتفرقَ أمورُ المسلمين، فإنَّ حُكْمَ الشرع على جميع المسلمين واحدٌ، فيجب أن يكونَ إمامُهُم واحدًا، لتُحْفَظَ أحكامُ الشرع، ويُزْجَرَ مَنْ خَالف الشرعَ، وكلُّ حاكم في ناحية من البلاد، يجبُ أن يكون نائبًا للإمام الأعظم، ويحكم على الوجه الذي أمره الإمام.
فمن تركَ طاعةَ الإمام أو طاعةَ نائبه فقد خرجَ من الجماعة، ومن خرجَ من الجماعة فهو مخالفٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإمامَ نائبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خالف نائبَ رسول الله فقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى هذا الحديث: ابن عباس.
* * *
2760 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن خرجَ مِن الطَّاعةِ وفارقَ الجَماعةَ فماتَ، ماتَ مِيتةً جاهليةً، ومَن قاتَل تحتَ رايةٍ عُمِّيَّةٍ يَغضبُ لِعَصبيَّةٍ، أو يَدعُو لِعَصبيَّةٍ، أو يَنصرُ عَصبيَّةً فقُتِلَ، فقِتلَةٌ جاهليةٌ، ومَن خرجَ على أُمَّتي بسيفِهِ يَضرِبُ بَرَّها وفاجِرَها، ولا يتحاشَى مِن مؤمِنِها، ولا يَفي لذي عَهْدٍ عهدَه، فليسَ مِنِّي ولَستُ مِنهُ".
قوله: "ومن خرجَ من الطَّاعة"؛ أي: من طاعةِ الإمامِ، وفارقَ ما عليه جماعة المسلمين من طاعةِ الإمام، وما اجتمع عليه أئمة المسلمين من الاعتقادات والحلال والحرام، "فمات" على مفارقة الإمام قبل أن يرجع إلى طاعته "فقد مات ميتة جاهلية".
قوله: "تحتَ رايةٍ عمِّيَّةٍ"، (العمِّيَّة): الأمرُ المُشْتَبه، الذي لا يُدَرى ما سببه، ولا يُدرَى أنه حق أو باطل؛ يعني: من سَمِعَ أنَّ أميرًا يقاتلُ مع أمير آخر
أو مع الإمام، ولم يكن قتالُهُ للدِّين، بل لغضبٍ حصلَ في نفسِهِ، أو لطلبِ مالٍ، أو لغيره من الأمور الدنيوية = فهذا القتال باطل، فمن قُتِلَ مع ذلك الأمير الظالم، فقتله قِتْلَةٌ جاهلية.
قوله: "لا يتحاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا"؛ أي: ولا يجتنبُ من المؤمنين، بل يقاتل مَنْ رأى.
قوله: (من مؤمنها): تأكيد وتكرار؛ لأنه إذا قال: (من خرجَ على أمتي) عُلِمَ أن أمته لا تكون إلا المؤمنين، إلا أن يريد بالأمة هنا: الناس، وحينئذ يدخل فيه أمة الإجابة وأمة الدعوة، فأمةُ الإجابة: مَنْ دعاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأجابوه، وأمة الدعوة: من دعاهم فلم يجيبوه، فإذا كان المراد بالأمة هنا: الناس فقوله: (لا يتحاشى من مؤمنها) مميزٌ للكفار، فمَنْ خرج بسيفه على الكفار لم يكن داخلاً في هذا الوعيد.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
2761 -
عن عوفِ بن مالكٍ اْلأَشجعيِّ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:"خِيارُ أئِمَّتِكُم الذينَ تُحِبُّونَهم ويُحِبُّوَنُكم، وتُصَلُّونَ عليهم ويُصَلُّوَن عليكم، وشِرارُ أئِمَّتُكم الذينَ تُبغِضُونَهم ويُبغِضُونَكم، وتَلعنُونَهم ويَلعنُونَكم"، قال: قُلنا: يا رسولَ الله! أفلا نُنابذُهم عندَ ذلك؟ قال: "لا، ما أَقامُوا فيكم الصلاةَ، لا، ما أَقامُوا فيكم الصلاةَ؛ أَلا مَن وُلِّيَ عليهِ والٍ فرآهُ يأتي شيئًا مِن معصيةِ الله، فليَكرهْ ما يأتي مِن معصيةِ الله، ولا يَنزِعنَّ يدًا مِن طاعةٍ".
قوله: "يُصَلُّونَ عليكم"؛ يعني: خير الأئمة الذين عدلوا في الحكم، فينعقد بينكم وبينهم مودة، بحيث يُصَلُّوْنَ عليكم إذا متم، وتُصَلُّونَ عليهم إذا ماتوا
عن الطَّوع والرغبة، وشرار الأئمة الذين ظلموا عليكم بحيث انعقدَتْ بينكم وبينهم عداوةٌ، بحيث تلعنوهم ويلعنونكم، ولم يذكر ها هنا: أنكم لا تُصَلُّونَ عليهم؛ لأن الصلاةَ واجبةٌ على كل مسلم وإن كان ظالمًا، ولا يجوز تَرْكُ الصلاة على ميتٍ مسلم، وإن كان بينه وبين مَنْ يصلي عليه عداوة، إلا إذا صلى عليه واحدًا أو أكثر، فإذا صُلِّيَ عليه سقط الفرض عن الباقين.
قولهم: "أفلا نناِبذُهُمْ عندَ ذلك"؛ يعني: أفلا نعِزلُهم عن الإمامة، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا"؛ لأن عزل الإمام يهيج الفتنة، وتهييج الفتنة، لا يجوز.
* * *
2762 -
عن أمِّ سلمةَ قالت: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يكونُ عليكم أمراءُ تَعرِفُونَ وتُنكِرون، فمَن أَنْكَرَ فقد بَرِئَ، ومَن كَرِهَ فقد سَلِمَ، ولكنْ مَن رضيَ وتابعَ"، قالوا: أَفَلا نُقاتلُهم؟ قال: "لا، ما صَلَّوا، لا، ما صلَّوا"، يعني: مَن كَرِهَ بقلبه وأنكرَ بقلبه.
قوله: "تَعِرفُون وتُنكرون"؛ يعني: سترون أنهم يفعلون أفعالاً ويقولون أقوالاً تعرفونها من الشرع، ويفعلون أفعالاً ويقولون أقوالاً تُنكرونها؛ أي: تنكرون كَونها من الشرع.
"فمن أنكر فقد برئ"؛ أي: فمن أنكر أفعالهم وأقوالهم القبيحة بلسانِهِ "فقد برئ" من الإثم، ومن لم يقدر أن ينكرها بلسانه، وكرهها بقلبه فقد سلم من الإثم أيضًا، ولكن "مَنْ رضيَ وتابَع"؛ يعني: ليس على المُنْكِرِ والكَاره إثمٌ، ولكنَّ الإثم على من رضيَ وتابَعَ أفعالهم وأقوالهم القبيحة.
قوله: "مَنْ كَرِهَ بقلبهِ ومَن أَنْكَرَ بقلْبهِ" هذا التفسير غير مستقيم؛ لأن الإنكار يكون باللسان، والكراهية تكون بالقلب، ولو كان كلاهما بالقلب لكانا
مكررين؛ لأنه لا فرقَ بينهما بالنسبة إلى القلب، وقد جاء هذا الحديث في رواية أخرى، وفي تلك الرواية:"مَنْ أنكَرَ بلسانِهِ فقد بَرِئَ، ومَنْ كَرِهَ بقلبه فقد سَلِمَ".
* * *
2763 -
عن عبدِ الله رضي الله عنه قال: قالَ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم سَتَرَوْنَ بعدي أَثَرَةً وأُمورًا تُنْكِرونها"، قالوا: فما تامُرنا يا رسولَ الله؟ قال: "أَدُّوا إليهم حقَّهم، وسَلُوا الله حَقَّكم".
قوله: "سَتَرَون بعدي أَثَرَةً وأمورًا تُنْكِرونها"، قوله:(أمورًا تنكرونها) هذا بيان قوله: (أَثَرَةً)(الأَثَرُ) بفتح الهمزة والثاء: اسمٌ مِن (اسْتَأْثَرَ): إذا فعل وقال شيئًا من غير إذنِ أحد، أو اختار شيئًا لنفسه.
يعني: سترونَ أمراء يفعلون ويقولون أشياءَ لستم عنها راضين، ويُفَضلُون عليكم مَنْ ليس له فضيلة، وأنتم تكرهون تلك الأشياء.
قوله: "أَدُّوا إليهم حقَّهم"؛ يعني: أطيعوهم فيما يأمرونكم وأعطوهم ما يطلبون منكم، وإن كان ما يطلبونَ ظُلمًا، ولا تطلبوا حقوقكم منهم كرهًا، فإن لم يعطوكم حقوقكم فلا تحاربوهم، بل اتركوها واسألوا الله الثواب على ما يظلمونكم.
* * *
2764 -
وسأل سلمةُ بن يزيدٍ الجُعْفيُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبيَّ الله! أرأيتَ إنْ قامَتْ علينا أُمراءُ يَسأَلونَنا حقَّهم ويَمنعونَنا حقَّنا، فما تَأمرُنا؟ قال:"اسمعُوا وأَطيعوا، فإنَّما عليهم ما حُمِّلُوا وعليكم ما حُمِّلْتُم".
قوله: "عليهم ما حُمِّلُوا"، (حُمِّلوا) بتشديد الميم، و (حملوا) بتخفيفها: إذا وُضعَ شيءٌ على أحد؛ يعني: إنما يسألهم الله عما أمرهم به، ويسألكم عما أمركم به، هذا مثل قوله: لهم ما كسبوا ولكم ما كسبتم.
* * *
2765 -
عن عبدِ الله بن عُمرَ رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن خَلعَ يدًا مِن طاعةٍ لقيَ الله يومَ القيامةِ لا حُجَّةَ لهُ، ومَن مَاتَ وليسَ في عُنقِهِ بَيْعةٌ ماتَ مِيتَةً جاهليةً".
قوله: "من خَلَعَ يدًا من طاعة".
(خَلَعَ)؛ أي: نزعَ؛ يعني: من تركَ طاعة الإمام يكونُ يومَ القيامة مأخوذًا، ولا يكون له عذرٌ؛ لأنه خالفَ أمر الرسول.
"وليس في عنقه بيعةٌ"؛ أي: وليس مطيعًا لإمام المسلمين.
* * *
2766 -
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"كانت بنو إسرائيلَ تَسُوسُهم الأنبياءُ، كُلَّما هلكَ نبيٌ خَلَفَهُ نبيٌّ، وإنَّه لا نبيَّ بعدي، وسيكونُ خلفاءُ فيَكثُرون"، قالوا: فما تَأْمرُنا؟ قال: "فُوا بَيْعَةَ الأولِ فالأولِ، أَعطُوهم حقَّهم، فإنَّ الله تعالى سائِلُهم عَمَّا استرعاهُم".
قوله: "تَسُوسُهُم"؛ أي: يحفظهم ويَلِي أمرَهم.
"خَلَفَه"؛ أي: قام مَقامه.
"فَيكْثُرون"؛ يعني: يقوم في كلِّ ناحيةٍ شخصٌ يطلب الإمامةَ فيكثرون.
"فما تأمرُنا"؛ يعني: باقتدائهم بأمرنا.
قوله: "فُوْا بيعةَ الأَوَّل".
(فُوْا)؛ أمرُ الجماعةِ الحاضرين، مِن (وَفَى بالعهد) يعني: اقتدوا مَن عُقِدَتْ له الإمامةُ أولاً، واعزِلُوا مَن كان بعدَه، إلا مَن كان نائبًا عن الإمام الأول، فإنَّ الله سائلُهم عمَّا استرْعاهُم.
"استرعى": إذا طلبَ رعايةَ شيءٍ من أحدٍ؛ يعني: إذا جعلَ الله أحدًا حاكمًا على قومٍ فقد استرعاه حِفْظَ نفوسِهم وأموالِهم وجميعِ أمورهِم، فإن ظَلَمُوا عليهم فيسألهم عما ظَلَمُوا؛ يعني: لا تنتقِمُوا منهم، بل اصبرُوا على ظُلْمِهم، فإن الله ينتقمُ منهم لكم.
* * *
2767 -
وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بُويعَ لخليفتَيْنِ، فاقتلوا الآخِرَ منهما".
قوله: "إذا بويعَ لخَلِيفَتَيْنِ فاقتلُوا الآخِرَ منهما"؛ يعني: إذا عُقِدَتِ الإمامةُ لشخصين فإمامةُ الأولِ صحيحةٌ وإمامةُ الثاني باطلةٌ؛ لأنه لا يجوزُ أن يكونَ للمسلمين إمامان؛ لأنه لو كان كذلك لتفرَّقَ أمرُ المسلمين ولَوَقَعتِ الفتنةُ بينهم، فلأجلِ أن تتفقَ أمورُ المسلمين لا يجوزُ إلا إمامٌ واحد.
* * *
2768 -
وقال: "إنَّه سيكونُ هَنَاتٌ وهَنَاتٌ، فمَن أرادَ أنْ يُفرِّقَ أمرَ هذهِ الأُمةِ وهي جَمِيعٌ، فاضرِبُوهُ بالسَّيفِ كائِنًا مَنْ كانَ".
قوله: "سيكونَ هَناتٌ".
(الهَنَاتُ): محصِّلاتُ سوءٍ؛ يعني: ستظهر في الأرض أنواعُ الفتنة والفسادِ،
ويطلبُ الإمارَة في كلِّ ناحيةٍ أحدٌ، فليكنِ الإمام واحدًا، فمن أراد أن يعزِلَ الإمامَ الأولَ ويأخذَ الإمامةَ فاقتلُوه.
"كائنًا من كان"؛ يعني سواءٌ كان من أقاربي أو من أولادي أو من غيرهم، بشرطِ أن يكونَ الإمامُ الأول قُرَشيًا أهلاً للإمامة، ولا يجوزُ إمامةُ غير القرشي، ونعني بالإمامةِ في هذا البابِ الخلافةَ، روى هذا الحديثَ والذي بعدَه عَرْفَجةُ بن شُرَيح.
* * *
2769 -
وقال: "مَنْ أَتاكُم وأَمرُكم جَمِيعٌ على رَجُلٍ واحدٍ، يريدُ أنْ يَشُقَّ عَصَاكُم، ويُفرِّقَ جماعتَكم فاقتُلُوه".
قوله: "مَن أتاكم"؛ يعني من قصدَ أن يعزِلَ إمامَكم الذي اتفقُتم على إمامته، وأراد أن يأخذَ الإمامةَ أولاً بقصْدِ عَزْلِ الإمامِ الأول، ولكن يريدُ أن يكونَ إمامًا آخرَ في ناحيةٍ أخرى فاقتلوه.
ومعنى: "أن يَشُقَّ عصاكم"؛ أي: يفرِّقَ جمعَكم.
و (العصا): الجمعُ والجَمْعِيَّة.
* * *
2770 -
وقال: "مَنْ بايَعَ إمامًا فأعطاهُ صَفْقَةَ يدِه وثَمَرةَ قلْبهِ، فلْيُطِعْهُ إنْ استطاعَ، فإنْ جاءَ آخرُ يُنازِعُه فاضرِبُوا عُنُقَ الآخرِ".
قوله: "فأعطاه صفقَة يدهِ وثمرَة قلبه"، (الصفقة): العَقْدُ، وسُمِّيَ العَقْدُ صفقةً لأن التَّصْفيقَ ضربُ اليدِ باليدِ، وعادةُ المُتَعاقِدَينِ والمُتَبايعَيْنِ أن يأخذَ أحدُهما يدَ الآخر، فلهذا سُمِّيَ العَقْدُ والبيعة صفقةً، يعني: مَن بايعَ إمامًا ووقعَ في قلبه حبُّه.
روى هذا الحديث ابن عمر.
* * *
2771 -
وقال: "يا عبدَ الرحمنِ بن سَمُرةَ! لا تَسأل الإمارةَ، فإنَّك إنْ أُعطِيتَها عن مسألةٍ وُكِلتَ إليها، وإنْ أُعطِيتَها عن غيرِ مسألةٍ أُعِنتَ عليها".
قولُه: "إنْ أعطيتَها"؛ يعني: إن طلبتَ الإمارة فأعطيتها.
"وُكِلْتَ إليه"؛ أي: لا يُعِينكَ الله فيها؛ لأنك حرصْتَ على العمل والمنصِب، فلا يكونُ عملُك لله، فإذا لم يكن عملُك لله لا يُعينُك الله فيها، وإذا أُكْرِهْتَ على الإمارة يكونُ عملكَ لطاعةِ الإمامِ الذي أَكْرهكَ على العمل، وطاعةُ الإمام طاعةُ الله، ومن يطعِ الله يُعِنْه الله؛ أي: يحفظه من أن يُجْرِيَ على يده ولسانه ما فيه عليه إثمٌ.
* * *
2772 -
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّكم ستحرِصُونَ على الإمارةِ وستكونُ نَدامةً يومَ القِيامَةِ، فَنِعمَتِ المُرضعَةُ، وبئْستِ الفاطِمَةُ".
قوله: "وستكونُ نَدامةً يومَ القيامة"، وإنما تكونُ الإمارةُ ندامةً لأنه قلَّ ما يَقْدِرُ الرجلُ على العَدْل، بل يغلِبُ عليه حبُّ المالِ والجاهِ ومراعاةُ جانبِ الأحباء، فلا يعدِلُ لهذه الأشياء.
قوله: "فنعمَ المُرْضعَةُ، وبئستِ الفَاطِمةُ"، لفظة (نعم وبئس) إذا كان فاعلهما مؤنثًا جاز إلحاقُ تاء التأنيث، فنقول: نعمت وبئست، وجاز تركُ إلحاقها فنقول: نعم وبئس، فلم يلحقها هنا في (نعم)، وألحقها في (بئست)، يعني: مثالُ العملِ ومَنْ يعطيكَ العمل: مثال امرأة تُرْضعُك، ومثال مفارقتِك العملَ بأن تُعزَلَ أو تموتَ مثالُ المرأةِ التي تقطعُ عنك الرضَاع؛ يعني: تفرحُ
بالعمل، ولكن ستغتمُّ بما يلحَقُكَ من العذاب على العمل يومَ القيامة.
* * *
2773 -
عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ الله! ألا تَستعمِلُني، قال: فضربَ بيدِه على مَنْكِبيْ ثم قال: يا أبا ذر، إنَّك ضعيفٌ، وانَّها أَمانةٌ، وإنَّها يومَ القيامةِ خِزْيٌ ونَدامةٌ، إلا مَنْ أخذَها بحقِّها وأَدَّى الذي عليهِ فيها".
قوله: "ألا تَسْتَعْمِلُني"، الهمزة للاستفهام؛ أي: ألا تجعلني حاكمًا على قومٍ.
* * *
2773/ م - وقال: يا أبا ذرٍّ! إنّي أَرَاكَ ضعيفًا، وإنِّي أُحِبُّ لكَ ما أُحِبُّ لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنينِ ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يتيمٍ".
قوله: "أُحِبُّ لك ما أُحِبُّ لنفسي"؛ أي: أحبُّ لك الخيرَ كما أحبُّ لنفسي الخيرَ، وخيرُكَ في أنْ لا تَأَمَّرَ على اثنين؛ أي: ألَاّ تصيرَ حاكمًا على اثنين أو أكثر، فإن العَدْلَ في الحكمِ شَدِيدٌ.
* * *
2774 -
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: دخلتُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنا ورَجُلانِ مِن بني عمِّي فقالا: أمِّرْنا على بعضِ ما وَلَاّكَ الله، فقال:"إنّا والله لا نُوَلِّي على هذا العملِ أحدًا سألَهُ، ولا أحدًا حَرَصَ عليهِ".
قوله: "أَمِّرْنا"، بتشديد الميم؛ أي: اجعلنا أميرين.
"ما ولَاّكَ الله"؛ أي: ما جعلكَ الله حاكمًا فيه من الأمور.
* * *
2774/ م - وقال: "لا نستعملُ على عَملِنا مَنْ أرادَهُ".
قوله: "لا نَسْتَعْمِلُ على عَمِلنِا مَنْ أَرادَه".
(لا نستعمل)؛ أي: لا نجعلُ عاملاً مَنْ طلبَ العملَ وحَرِصَ عليه؛ لأن حِرْصَه على العمل دليلٌ على أنه حريصٌ على حبه للمنصب وجمعِ المال، ومَن كان كذلك قلَّما عَدَلَ في الحكم.
روى هذا الحديثَ أبو موسى.
* * *
2775 -
وقال: "تَجِدونَ مِن خيرِ النَّاسِ أشدَّهُم كَراهِيةً لهذا الأمرِ حتى يقعَ فيه".
قوله: "لهذا الأمر"؛ أي: للإمارة؛ يعني: مَنْ يفرُّ عن الإمارة فيَكْرِهُه الإمامُ على عملٍ خيرٌ ممن يطلبُ الإمارةَ والعمل.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2776 -
وقال: "ألا كلُّكُم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رَعِيَّتِه، فالإمامُ الذي على النَّاسِ راعٍ، وهوَ مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ، والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ، والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ زوجها وولدِه وهي مسؤولةٌ عنهم، وعبدُ الرَّجُلِ راعٍ على مالِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ، أَلا فَكُلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعِيَّتِهِ".
قوله: "ألا كُلُّكم راعٍ وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعيته".
(الراعي): الحافظ، و (الرعية): المحفوظ، والمراد بالراعي هنا: مَن
جُعِلَ حاكمًا على أحدٍ أو قومٍ أو في شيءٍ؛ يعني: يسألُ الله يومَ القيامة عن كلِّ حاكمٍ وعن كلِّ أميرٍ: هلْ حَفِظَ العَدْلَ والأمانةَ أم لا، روى هذا الحديثَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه.
* * *
2777 -
وقال: "ما مِن والٍ يلي رعيةً مِن المسلمينَ، فيموتُ وهو غاشٌّ لهم إلا حرَّمَ الله عليهِ الجنةَ".
قوله: "وهو غاشٌّ"؛ أي خائنٌ، لا يعطي حقوقَهم، ويأخذ منهم ما لم يجبْ عليهم.
روى هذا الحديث مَعْقِل بن يسار (1).
* * *
2778 -
وقال: "ما مِن عبدٍ يَسْتَرعيهِ الله رَعِيَّةً، فلم يَحُطْها بنصيحةٍ إلاّ لم يَجِدْ رائحةَ الجنَّةِ".
قوله: "يَستَرْعِيهِ الله رَعِيَّةً"؛ أي: يطلُبُ منه أن يكونَ راعيَ جماعة؛ أي: أميرَ جماعة.
"فلم يَحُطْها"؛ أي: فلم يحفظْها، مِن (حاطَ يحوطُ): إذا حفظَ بنصيحة؛ أي: بخير.
روى هذا الحديث مَعْقِلُ بن يَسَار.
* * *
(1) في جميع النسخ: "معقل بن سنان"، والصواب المثبت.
2779 -
وقال: "إنَّ شرَّ الرِّعاءِ الحُطَمَةُ".
قوله: "إن شَرَّ الرِّعَاءِ الحُطَمة"، (الحُطَمَة) هنا معناها: قليلُ الرَّحمة، يعني: شرُّ الملوك من قلَّتْ رحمتُه وشفقتُه على الرعية.
روى هذا الحديثَ عائذُ بن عمرو.
* * *
2780 -
وقال: "اللهم مَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شَيئًا فشَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليهِ، ومَن وَلِيَ مِن أمرِ أُمَّتي شَيئًا فَرَفَقَ بهم فارْفُقْ بهِ".
قوله: "فشقَّ عليهم"؛ أي: عَسَّرَ عليهم أمورَهم، وأوصلَ المشقَّة إليهم.
"فَرفِقَ بهم"؛ أي: فرَحِمَ عليهم ويسَّرَ عليهم أمورَهم.
روت هذا الحديثَ عائشةُ.
* * *
2781 -
وقال: "إنَّ المُقسِطينَ عندَ الله على منابرَ مِن نورٍ عن يمينِ الرَّحمنِ، وكِلتا يديهِ يمينٌ، الذينَ يَعدِلُون في حُكْمِهِم وأهليهم وما وَلُوا".
قوله: "إن المُقْسِطين"؛ أي: إن العادِلين عند الله؛ أي: لهم قُربةٌ من الله من حيث الثوابُ والدرجةُ، لا من حيثُ المكان، فإن الله منزَّهٌ عن المكان.
"عن يمين الرحمن".
قال الخطابي: ليس اليمينُ هنا اليمين التي هي ضدُّ الشِّمَال، فإن الشِّمالَ ضعيفٌ بالنسبة إلى اليمين، فلو كان للهِ يمينٌ وشِمالٌ لكانَ أضيفتْ إليه قوةٌ وضعفٌ، والله تعالى منزَّهٌ عن الضَّعْف، بل لله القدرةُ الكاملةُ من غير نقصٍ، بل ما جاءَ من ذِكْرِ اليمين واليدِ والإصبَعِ وغيرِها في صفات الله، لا نؤوله بل نؤمن
به ونقول هو صفة من صفات الله تعالى ولا نعلم كيفيتَها.
قوله: "وما وَلُوا"، أصلُه (وَلِيُوا) على وزن (عَلِمُوا)، نُقِلَتْ ضمةُ الياء إلى اللام، وحُذِفَت الياء لسكونها وسكونِ الواو، والمراد بقوله:(وما وَلُوا)؛ أي: يعدِلُون فيما تحتَ أيديهم من أموال اليَتَامى، مثل الجد فإنه وليُّ الطفل، والوصيُّ فإنه حاكمٌ في التصرُّفِ في مال الطفل اليتيم، والقاضي فإنه حاكمٌ في التصرُّفِ في أموال اليتامى.
روى هذا الحديثَ عبدُ الله بن عمرو.
* * *
2782 -
وقال: "ما بَعَثَ الله مِن نبيٍّ ولا استخلَفَ مِن خَليفةٍ إلا كانَتْ لهُ بِطانتَان: بِطانَةٌ تَأمُرُهُ بالمعروفِ وتَحُضُّهُ عليهِ، وبطانةٌ تأمرُهُ بالشرِّ وتَحضُّهُ عليهِ، والمعصومُ مَن عَصَمَهُ الله".
قوله: "بِطَانة"، (البطَانَةُ): الخَلِيلُ.
"تَحُضُّه"؛ أي: تُحَرِّضُه؛ يعني: لكلِّ أحدٍ جليسٌ وخليلٌ يأمرُه بالخير، وجليسٌ وخليلٌ يأمرُه بالشر، والمعصومُ من عصمَه الله؛ يعني: لا يقدِرُ الرجلُ على طاعة الذي يأمرُه بالخير واجتنابِ قولِ الذي يأمرُه بالشر إلا بتوفيق الله تعالى.
روى هذا الحديثَ أبو سعيد وأبو هريرة.
* * *
2783 -
وقال أنس رضي الله عنه: كانَ قيسُ بن سعدٍ رضي الله عنه مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمنزلةِ صاحِبِ الشُّرَطَةِ مِن الأميرِ.
قوله: "بمنزلة صاحبِ الشُّرَط".
(الشُّرَطُ): بضم الشين: جمعُ شُرْطَة، وهو الذي يقال له بالفارسي سرهنك؛ يعني: نَصَّبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قيسَ بن سعدٍ ليحبسَ مَن يستحقُّ الحَبْسَ، ويأخذَ مَن يستحقُّ الأَخْذَ، ويضربَ من يستحقُّ الضَّرْب، أو يأمرَ بهذه الأشياءِ جماعةً.
* * *
مِنَ الحِسَان:
2785 -
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "آمُرُكم بخمسٍ: بالجَماعةِ، والسَّمعِ، والطَّاعةِ، والهِجرةِ، والجِهادِ في سَبيلِ الله، فإنَّهُ مَن خرجَ مِن الجَماعةِ قِيْدَ شِبْرٍ، فقد خَلعَ رِبْقةَ الإسلامِ مِن عُنُقِهِ، إلا أنْ يُراجِعَ، ومَن دَعا بدعْوَى الجاهِليةِ فهوَ مِن جُثَاء جهنَّمَ، وإنْ صامَ وصلَّى وزَعمَ أنَّه مسلمٌ".
قوله: "بالجماعة"؛ أي: باتِّباع إجماعِ المسلمين في الاعتقادِ والقولِ والفِعْل.
قوله: "والسَّمْع"؛ أي: بسماع كلمةِ الحقَّ من الأمير أو المُفْتِي أو غيرهما.
قوله: "والطاعة"؛ أي: بطاعة الأمير.
قوله: "والهجرة"؛ أي: بالهجرة من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة، وبالهجرة من الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى التوبة.
"قِيْدَ شِبْرٍ"؛ أي: قَدْرَ شِبْر.
"فقد خَلَعَ"؛ أي: نَزَعَ.
"رِبْقَةُ الإسْلام"، (الرِّبْقَةُ): الحبلُ؛ أي: عَقْد الإسلام؛ يعني: مَن خرجَ من موافقة إجماع المسلمين فقد خرجَ من دائرة أهل السُّنَّةِ إلى دائرة أهل البدْعة.
"ومن دعا بدعوى الجاهلية"؛ أي: ومن قال أو فعل أو أمر بشيء لم يَجُزْ في الإسلام.
"فهو من جُثَا جهنم"، (الجُثَا): جمع جُثوَة بضم الجيم، وهي الجماعة.
روى هذا الحديثَ الحارثُ الأشعري.
* * *
2786 -
وقال: "مَن أهانَ سُلطانَ الله في الأرضِ أَهَانَهُ الله"، غريب.
قوله: "مَنْ أهانَ سلطانَ الله"؛ أي: من أذلَّ حاكمًا من الحُكَّام بأن آذاه أو عصاه أذلَّه اللهُ.
روى هذا الحديثَ أبو بكرة.
* * *
2787 -
وقال: "لا طَاعةَ لمخلُوقٍ في معصيةِ الخَالقِ".
قوله: "لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق"؛ يعني لا يجوزُ لأحدٍ أن يطيعَ أحدًا فيما فيه معصية.
روى هذا الحديثَ نَوَّاس بن سَمْعَان.
* * *
2788 -
وقال: "ما مِن أميرِ عَشَرَةٍ إلا يُؤتَى بهِ يومَ القيامةِ مَغْلولاً، حتى يَفُكَّ عنه العَدلُ، أو يُوبقَهُ الجَوْرُ".
قوله: "مغلولاً"؛ أي: مشدودًا يداه على عنقه.
"حتى يَفُكَّ"؛ أي: يَحُلَّ ويزيلَ عنه القيدَ.
"أو يوبقَه"؛ أي: أو يهلكه؛ يعني: يؤتَى يومَ القيامة بكلِّ حاكمٍ أسيرًا متحيرًا في أمره حتى يحاسَبَ له، فإنْ كان قد عدلَ في الحكم خلَّصَه العدلُ، وإن كان قد ظلمَ أُدخِلَ النارَ بظلمه.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2789 -
وقال: "وَيْلٌ للأُمراءِ، ويلٌ للعُرفاءِ، ويلٌ للأُمناءِ، لَيَتَمنَّينَّ أقوامٌ يومَ القيامةِ أنَّ نوَاصِيَهم مُعلَّقةٌ بالثُريَّا، يَتَجَلْجَلُونَ بينَ السَّماءِ والأرضِ وأنَّهم لم يَلُوا عَملاً".
قوله: "ويل للعُرَفاء"، (العرفاء)؛ جمعُ العريف، وهو من يعرِفُ قومَه عند الأمير، ويجعلُ الأميرُ حكمَ قومه إليه، وهو سيدُ القوم.
"الأُمَنَاء"؛ جمعُ الأمين، وهو الذي نُصِّبَ قَيمًا على اليتامى لحفظهم وحِفْظِ أموالهم، وكذلك من جُعِلَ أمينًا على خزانة مال، أو تَصرَّفَ في مال.
"يتجَلْجَلُون"؛ أي: يتحرَّكون.
"لم يَلُوا": أصلهُ: (لم يَوْلِيُوا) فسقطت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، ونُقلَتْ ضمةُ الياء إلى اللام، وحذفت الياء لسكونها وسكون واو الجمع؛ ومعناه: لم يصيروا حاكمين؛ يعني: لمَّا رأى الأمراء والعرفاء والأمناء الذين ظلَمُوا وخانوا في عملهم عذابَ الله يومَ القيامة ندِمُوا على ما عملوا، ويقولون: يا ليتنا كنا في الدنيا معلّقين بين السماء والأرض، معذَّبين، ولم نعملْ ما عَمِلْنا حتى لم نكُنْ معذَّبين في هذا اليوم.
روى هذا الحديثَ أبو هريرة.
* * *
2790 -
وقال: "إنَّ العِرافَةَ حقٌّ، ولا بُدَّ للنَّاسِ مِن عُرَفاءَ، ولكنَّ العُرفاءَ في النَّارِ".
قوله: "إن العِرَافَةَ حَقٌّ"، (العرافة)؛ مصدر، معناها: صار الرجل عريفًا لقوم إذا أقام بمصالحهم ورئاستهم، يعني: سيادةُ القومِ جائزةٌ، وهي من الأمور الجائزة في الشرع؛ لأنها تتعلَّق بمصالح الناسِ وقضاءِ أشغالهم.
"ولكنَّ العُرَفَاءَ في النار"؛ أي: العُرَفَاءُ الذين لم يعدِلُوا في الحكم، وهذا تحذيرٌ عن الرئاسة والسيادة؛ لأن فيها خطرًا؛ لأن الرجلَ يصيرُ بها مغرورًا متكبرًا، وبها يأخذُ الرشوةَ ويظلِمُ الناسَ.
قال الخَطَّابي: روى هذا الحديثَ غالبٌ القَطَّانُ عن رجلٍ عن أبيه عن جده
* * *
2792 -
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن سَكن الباديةَ جَفا، ومن اتَّبَع الصَّيدَ غَفَلَ، ومَن أَتَى السُّلطانَ افتُتِنَ".
ويروى: "من لزِمَ السُّلطانَ افتُتِنَ، وما ازدادَ عبدٌ مِن السُّلطانِ دُنُوًّا إلا ازدادَ مِن الله بُعْدًا".
قوله: "من سكنَ الباديَة جفا"؛ يعني من اتخذَ البادية وطنًا ظلمَ على نفسه، إذ لم يحضُرْ صلاة الجمعة، ولا الجماعة، ولا مجلسَ العلماء، ولم يتعلَّم العِلْم.
"ومن اتَّبَعَ الصَّيدَ غَفَلَ"؛ يعني: من اعتاد الاصطيادَ للهو والطَّرَب يكون
غافلاً؛ لأن اللهوَ والطَّرَبَ يكونُ من القَلْب المَيت، وأما من يصطادُ لا للهو والطَّرَب، بل للاضطرار أو ليبيعَ ما يصطادُ ويجعلَه قوتَه، جاز؛ لأن سلمةَ بن الأَكْوَع رضي الله عنه وغيرَه من الصحابة كانوا يصطادون بإذن النبي صلى الله عليه وسلم.
"ومن أتى السُّلْطانَ اْفتُتِنَ"؛ يعني: من دخلَ على السلطان وصدَّقَه على ظُلْمِه، أو داهَنه على ظُلْمِه، أو يرى الظُّلْمَ منه ولم ينصحْه، وقعَ في الفتنة، فإنه رضيَ بالظلم، وأما من دخلَ على السلطان وأَمَره بالمعروف ونهاه عن المُنكَر فكان دخولُه عليه أفضلَ الجهاد.
* * *
2794 -
عن عُقْبةَ بن عامرٍ قال: قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا يدخُلُ الجنَّةَ صاحِبُ مَكْسٍ"، يعني الذي يَعْشُرُ النَّاسَ.
قوله: "يَعْشُرُ الناسَ"؛ أي: يأخذُ عُشْرَ أموالِ المسلمين، وأما أَخْذُ عُشْرِ أموال الكفار إذا دخلوا دار الإسلام فجائزٌ.
2795 -
وقال: "إنَّ أحبَّ النَّاسِ إلى الله يومَ القِيامةِ، وأَقربَهم منهُ مجلِسًا إمامٌ عادِلٌ، وإنَّ أبغضَ النَّاسِ إلى الله يومَ القيامةِ وأشدَّهم عذابًا - ويروى: وأَبعدَهم منهُ مجْلِسًا - إمَامٌ جائرٌ"، غريب.
"وأقربُهم منه مجلسًا"؛ يريدُ بهذا القرب الثوابَ والدرجةَ لا قُرْبَ المكانِ، فإنَّ الله تعالى منزَّهٌ عن المكان.
روى هذا الحديث أبو سعيد.
* * *
2796 -
وقال: "أفضلُ الجِهادِ مَن قالَ كلمةَ حَقٍ عندَ سُلطانٍ جائرٍ".
قوله: "أفضلُ الجهادِ مَنْ قالَ كلمةَ حقٍّ عند سلطانٍ جائِرٍ"، تقديرُ هذا الكلام: أفضلُ الجهادِ تكلُّمُ مَنْ قالَ كلمةَ حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ؛ يعني: من أمرَ سلطانًا بمعروف أو نهاه عن منكَرٍ فهو أفضلُ المجاهدين؛ لأن الجهادَ هو قَتْلُ كافرٍ، وقتلُ كافرٍ نفعُه أقلُّ من نهيِ سلطانٍ عن ظلم؛ لأن ظُلْمَ السلطان يتعلَّقُ بجميع الرعية، والرعيةُ في مُلْكِه ربما تكون كثيرةً، فإذا دفعَ سلطانًا عن ظلمٍ فقد أوصلَ النفعَ إلى خَلْقٍ كثير.
روى هذا الحديثَ أبو أُمامة.
* * *
2797 -
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرادَ الله بالأميرِ خيرًا جَعلَ لهُ وزيرَ صدقٍ، إنْ نَسيَ ذَكَّرَهُ وإنْ ذَكرَ أعانَهُ، وَإذا أرَادَ بهِ غيرَ ذلكَ جَعلَ لهُ وزيرَ سُوءٍ، إنْ نَسيَ لم يُذَكِّرْهُ، وإنْ ذكرَ لم يُعِنْهُ".
قوله: "وزير صِدْقٍ"؛ أي: وزيرًا صادقًا مصلحًا.
"إن نَسِيَ"؛ أي: نسيَ السلطانُ ما هو الحقُّ علَّمَه الوزيرُ، وإن كان السلطانُ عالمًا بما هو الحقُّ أعانه الوزير بأن يحرِّضَه على إتمام الحقِّ، ويعلَّمَه ثوابَه، ولا يتركه أن يَتَّكِلَ ويغترَّ فيه.
* * *
2798 -
عن أبي أُمامةَ رضي الله عنه، عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الأميرَ إذا ابتغَى الرِّيبَةَ في النَّاسِ أَفْسَدَهم".
قوله: "إنَّ الأميرَ إذا ابتغى الرِّيبةَ في الناس أَفْسَدَهم".
(ابتغى)؛ أي: طَلَبَ الريبةَ؛ أي: اتَّهمَه يعني: لو طلبَ الأميرُ عيوبَ
الناس، وتجَسَّسَ أحوالهم لأهلكهم، فإن الإنسانَ قلَّما سلمَ من صغيرةٍ أو زلَّةٍ، فلو آذاهم بكلِّ ما يقولون ويفعلون لاشتدَّت عليهما الأحوالُ، بل ينبغي أن يسْتُرَ عليهم عيوبَهم ويعفوَ عنهم ذنوبَهم ما استطاع.
* * *
2799 -
وعن مُعاويةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّك إذا اتَّبَعْتَ عَوراتِ النَّاسِ أَفسدْتَهم".
قوله: "إنك إذا اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ الناسِ أَفْسدتَهم".
(العورات)؛ جمعُ عَوْرة، وهي القبيحُ من القول أو الفعل، معنى هذا الحديث كمعنى الحديث المتقدِّم.
* * *
2800 -
عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كيفَ أنتم وأَئمةً مِن بَعدي يَسْتأثِرونَ بهذا الفَيْءِ؟ "، قلتُ: أَما والذي بعَثَكَ بالحقِّ أَضَعُ سَيْفِي على عاتِقي ثم أَضْرِبُ بهِ حتى أَلقاكَ، قال:"أَوَلا أَدُلُّكَ على خيرٍ من ذلكَ؟ تَصْبرُ حتى تَلْقاني".
قوله: "يستَأْثِرون بهذا الفيء"؛ يأخذُون مالَ بيتِ المال وما حصَلَ من الغنيمة، ويستخلصونه لأنفسهم، ولا يُعْطُونه مستحقِّيه.
"أَضَعُ سيفي على عاتِقي"؛ أي: أحارِبُهم حتى يقتلوني.
"تَصْبرُ حتى تَلْقَاني"؛ يعني لا تحاربْهم، بل اصْبرْ على ظُلْمِهم حتى تموت.
* * *