الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد اختلف الناس فيمن يبدأ به في القسامة، فقال مالك والشافعي وأحمد: يُبدأ بالمُدَّعين قولاً بظاهر الحديث.
وقال أصحاب الرأي: يبدأ بالمُدَّعى عليه على قضية سائر الدعاوَى، وهذا حكمٌ خاص جاءت به السنة لا يُقاس على سائر الأحكام، وللشريعة أن تخصَّ كما لها أن تعمَّ، ولها أن تخالف بين الأحكام المتشابهة في الصور كما لها أن توفق بينها.
قوله: "فودَاه رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ أي: أعطاه الدِية.
* * *
5 - باب قتلِ أهل الرِّدَّةِ والسُّعاةِ بالفسادِ
(باب قتل أهل الردة والسعاة بالفساد)
و (السُعاة): جمع السَّاعي.
مِنَ الصِّحَاحِ:
2658 -
عن عِكرِمةَ قال: أُتيَ عليٌّ بزنادِقةٍ فأَحرقَهم، فبلَغَ ذلكَ ابن عبَّاسٍ فقال: لو كنتُ أنا لَمْ أُحَرِّقهم لِنهيِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُعَذِّبُوا بعذابِ الله"، وَلَقَتَلْتُهُم لقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بدَّلَ دينَه فاقتلُوه".
قوله: "أُتِيَ عليٌّ بزنادقةٍ فأحرقَهم"، (الزنَادِقة): جمع زنديق، وهو الذي يُخفي الكفر، وأصل (الزنادقة): زناديق، فحذفت منها الياء وعوضت منها الهاء، ومعنى التعويض هنا: عدم اجتماعهما لا لمناسبة بينهما، بل هذه معاقبة لفظته متى حضر أحدهما دفع الآخر، ولو كان هو منه لوجب (1) منع صرف
(1) في "ش": "ولو كان هو لوجب منه".
(زنادقة)، كما يمتنع صرف (زناديق).
وقيل: (الزنديق) أصله: الزندي، كما يقول فلان: قرآني، ونصراني: إنجيلي، يُنسب كل واحد منهما إلى كتاب نبيه، و (زند) كتابٌ لهم؛ أي: للمجوس، أتى به زرادشت، وادَّعى أنه أتى به من السَّماء وأنه بخط الملائكة، والآخر بخط الله تعالى، ولمَّا وصلت العرب إلى هذا الاسم غيرته وعربته إلى الزنديق.
وإنما سُموا بـ (الثنوية) لمقالتهم بالأثنوة؛ لأنهم يقولون: إن الله تعالى وهو بوذان تفكر في الأزل هل يخلق مثله أم لا؟ فحدث إبليس وهو المُسمَّى: أهَرْمَن عندهم، فنازع الحق تعالى، ثم اصطلحا على تقسيم العالم الأرضيات لإبليس، فالشرور والظلم منه، والسماويات لله تعالى، فالخيرات والنور منه.
* * *
2660 -
عن عليٍّ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرجُ قومٌ في آخرِ الزَّمانِ حُدَّاثُ الأَسنانِ، سُفهاءُ الأحلامِ، يقُولونَ خَيْرَ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لا يُجاوزُ إيمانُهم حناجِرَهم يَمرُقونَ من الدِّينِ كما يَمرُقُ السَّهمُ من الرَمِيَّةِ، فأينما لقيتُموهُم فاقتُلوهُم، فإن في قَتْلِهم أجرًا لِمَن قَتَلَهم يومَ القيامَةِ".
قوله: "حُدَّاثُ الأسنان سفهاءُ الأحلام"، (الحداث): جمع حَدَث (1)، و (الأسنان): جمع سِنٍّ، و (السفهاء): جمع سفيه، وهو الذي في عقله خفة؛ يعني: الذي لا يهتدي إلى عواقب الأمور ومصالح نفسه.
(1) في "م" و"ق" و"ش": "حادث" ولعل الصواب ما أثبت.
قوله: "يقولون من خَيْرِ قَوْلِ البريَّة" يريد به نفسه صلى الله عليه وسلم أراد بـ (خير قول البرية): القرآن، و (البرية): الخلق، و (البرايا) جمع.
قوله: "لا يجاوزُ إيمانُهم حناجرَهم"، (الحناجر): جمع حنجرة، وهي الحلقوم؛ يعني: لا يكون إيمانهم عند الله تعالى مقبولاً مرضيًّا.
قوله: "يمرقُون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِية"، يقال:(مَرَقَ السهمُ من الرَّمِيَّة مروقًا)؛ أي: خَرَجَ من الجانب الآخر.
قال في "شرح السنة"؛ أي: يخرجون من الدين؛ أي: من طاعة الأئمة، و (الدين): الطاعة، وهذا نعت الخوارج الذين لا يدينون للأئمة، ويستعرضون الناس بالسيف.
"الرَّمِيَّة": الصيد الذي تقصده فترميه، فـ (الرَّمية) فعيلة بمعنى مفعولة.
قوله: "فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة": قال في "شرح السنة": إن قيل: كيف منع عمر رضي الله عنه عن قتلهم مع قوله: (فأينما لقيتموهم فاقتلوهم)؟.
قيل: إنما أباح قتلهم إذا كثروا وامتنعوا بالسلاح واستعرضوا الناس، ولم تكن هذه المعاني موجودة حين منع من قتلهم، وأول ما نَجَمَ - أي: ظهر - من ذلك في زمان علي رضي الله عنه، فقاتلهم حتى قتل كثيرًا منهم.
وكان ابن عمر يرى الخوارج شرار خلق الله وقال: إنهم انطلقوا إلى آياتٍ نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين.
(يرى)؛ أي: يعتقد.
وقال أيوب السختياني: إن الخوارج اختلفوا في الإسلام، واجتمعوا على السيف. معنى قول السختياني - والله أعلم -: أنهم اختلفوا في ماهية الإسلام وحقيقته، ثم رجع اختلافهم إلى أنهم يجب قتل مَنْ يخالفهم في الاعتقاد، فاتفقوا
على قتل من سواهم، واستحلوا دماء المسلمين بهذا الاتفاق.
* * *
2661 -
وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "تكونُ أُمَّتي فِرْقَتَينِ، فيخرجُ مِن بيِنِهما مارِقةٌ، يَلي قَتْلَهم أَوْلاهم بالحقِّ".
قوله: "فيخرج من بينهما مَارِقةٌ يَلي قتلهم أولاهم بالحق"، (مارقة)؛ أي: فرقة مَارِقة، (يَلي)؛ أي: يقرب، (أولى): أفعل التفضيل، معناه: أقرب. يعني: يخرج من بين الفرقتين زمرة مارقة مَنْ يقومُ بقتلهم فهو أولاهم بالحق؛ أي: أولى المسلمين بالحق.
* * *
2662 -
عن جَرِيْرٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوداعِ: "لا تَرْجِعُنَّ بعدي كُفَّارًا يَضرِبُ بعضُكم رِقابَ بعضٍ".
قوله: "لا ترجِعُنَّ بعدي كفارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعض"، (الرِّقاب): جمع رقبة.
يتأول الخوارج هذا الحديث على الكفر، الذي هو الخروج عن الدين، ويستدلون بهذا الحديث على تكفير من ارتكب الكبيرة، وليس كذلك بل هو زجرٌ ووعيدٌ وتأوله أهل العلم فقال: معناه: لا تتشبهوا بالكفار في قتل بعضهم بعضًا، وقيل: هؤلاء أهل الردة الذين قتلهم أبو بكر، هذا قول محيي السنة في "شرح السنة".
* * *
2663 -
عن أبي بَكْرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا التقى المُسلمانِ
فحَمَلَ أحدُهما على أخيهِ بالسِّلاحِ فهُما في جُرُفِ جَهنَّمَ، فإذا قَتَلَ أحدُهما صاحِبَهُ دَخلاها جميعًا".
قوله: "إذا التقى المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح، فهما في جرت جهنم"، (المسلمان): فاعلُ فعلٍ مقدَّر، و (حمل) مفسرٌ لذلك المقدَّر، تقديره: وإذا حمل المسلمان حمل، (الجُرْفُ والجُرُفُ) مثل (عُسْرٌ وعُسُرٌ) ما تجري فيه السيول وأكلته من الأرض، والجمع: جِرَفَة، كـ (جُحْر وجِحَرَة).
يعني: إذا حمل مسلمٌ على أخيه المسلم السلاح فهما قريبان من الهلاك، فكأنهما أوقفا في حرف جهنم.
ومعلوم أن من وقف على حرف الوادي فهو متعرض للسقوط فيه في الشاهد فكذا في الغائب.
قوله: "فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعًا": الفاء في (فإذا) جواب شرط مقدر؛ يعني: إذا ثبت ذلك، فإذا قتل أحد المسلمين صاحبه يدخلان جميعًا في جهنم؛ أما دخول القاتل في النار فظاهر، وأما دخول المقتول فلشغفه على قتل صاحبه واهتمامه بذلك، كما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم السائل في الحديث الذي بعده.
* * *
2665 -
عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قَدِمَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم نفرٌ من عُكْلٍ فأَسْلَمُوا، فاجتَوَوْا المدينةَ فأَمَرهم أنْ يأتُوا إبلَ الصَّدقةِ فيشربُوا مِن أَبوالِها وأَلبانِها، فَفَعلوا فصَحُّوا، فارتَدُّوا وقتلُوا رُعاتَها واستاقُوا الإبلَ، فبَعثَ في آثارِهم فأُتيَ بهم،
فقطعَ أيديَهم وأرجُلَهم، وسَمَلَ أعينَهم، ثُمَّ لم يَحْسِمْهم حتى ماتوا. ويروى:"فسَمِّروا أعينَهم". ويروى: فَأَمَرَ بمساميرَ فأُحمِيَتْ فَكَحَّلَهم بها، وطرَحهم بالحرَّة يَستسقونَ فما يُسْقَونَ حتَّى ماتوا.
قوله: "قدم على النبي صلى الله عليه وسلم نفر من عُكْل فأسلموا فاجتَووا المدينة": (النفر) من الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: كانوا ثمانية.
قال في "الصحاح": (عُكْل) قبيلة وبلد أيضًا، يقال:(اجتوى البلد)؛ أي: كره المقام به وإن كان في نعمة؛ يعني: أسلم هؤلاء النفر، فما وافقهم ماء المدينة وهواءها، فمرضوا وكرهوا الإقامة بها.
قوله: "فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها": فيه دليل لأحمد فإنه يقول بطهارة بول ما يؤكل لحمه، والأئمة الباقية يحملون الحديث على التداوي ويستدلون به في التداوي بالنجاسة عند الحاجة.
قوله: "وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل"، (الرُّعاة): جمع الراعي، (استاق وساق) بمعنى واحد.
يعني: هؤلاء الثمانية إذا شربوا أبوال الإبل وألبانها صَحَّتْ أبدانهم، ثم قتلوا رعاة الإبل مرتدين، وساقوا الإبل سارقين إلى ديارهم كفرانًا لأنعمه تعالى.
قوله: "وسمل أعينهم ثم لم يحسمهم حتى ماتوا"، و (سمل العين): فقؤها، يقال: سُمِلَتْ عينُه تُسْمَلُ: إذا فُقِئَتْ بحديدةٍ مُحمَّاة، ذكره في "الصحاح".
(الحَسْمُ): القَطع، ومنه: حَسْمُ العِرْقِ؛ أي: كَيُّه لينقطع دم المحسوم.
قوله: "فسَمَرُوا أعينهم"، (سَمَرَ): إذا كحل بمسامير محماة.
قال ابن الأعرابي: "الحَرَّة" حجارةٌ سُودٌ بين جبلين، وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلتهم لأنهم قطعوا أيدي الرعاة وأرجلهم، وفقأوا أعينهم، ففعل بهم ما فعلوا
بالرعاة قصاصًا بمثل صنيعهم، وهذا كان قبل النهي عن المُثْلة، فالآن لا تجوز المُثْلة بحال.
* * *
مِنَ الحِسَان:
2667 -
عن عبدِ الرَّحمنِ بن عبدِ الله، عن أبيه رضي الله عنه قال: كُنَّا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فانطلقَ لحاجتِهِ، فرأينا حُمَّرَةً معها فَرخانِ فأَخذنا فرخَيْها، فجاءتْ الحُمَّرةُ فجعلَتْ تُفَرِّشُ، فجاءَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:"مَنْ فَجَّعَ هذه بولدِها؟ رُدُّوا ولدَها إليها"، ورَأَى قريةَ نملٍ قد حرَّقناها قال:"مَن حرَّقَ هذه؟ " فقلنا: نحن، قال:"إنَّه لا ينبغي أنْ يُعذِّبَ بالنَّارِ، إلا رَبُّ النَّارِ".
قوله: "فانطلق لحاجته"؛ أي: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قضاء حاجته الإنسانية.
قوله: "فرأينا حُمَّرَة معها فرخان"، (الحُمَّرَة): ضرب من الطير كالعصفور، و (الفرخ): ولد الطير.
قوله: "فجعلت تُفَرِّش"، (جعلَتْ)؛ أي: طفقت، (تُفَرِّش) أصله: تتفرش، فحذفت إحدى التائين.
قال في "الصحاح": تفرش الطائر: رفرف بجناحيه وبسطهما.
قال في "الغريبين": معنى (تُفَرِّش)؛ أي: تَقْرب من الأرض، وتُرَفرف بجناحيها.
قيل في رواية: "تعرش" بالعين؛ أي: تجعل جناحيها عريشًا لها، وهو عبارة عن حفظ الحُمَّرَة فرخيها.
قيل: في (كتاب أبي داود): "فجعلت تفرُش أو تعرُش" بالضم، من
التفريش والتعريش.
قال الخطابي: (التفريش) مأخوذ من فرش الجناح وبسطه، و (التعريش): أن ترتفع فوقهما وتظلل عليهما.
قوله: "مَنْ فَجَعَ هذه بولدها"، (التَّفْجِيْعُ): الإيجاع، يقال:(فَجَعَتْهُ) المصيبةُ، و (فَجَّعَتْهُ)؛ أي: أوجعته؛ يعني: مَنْ أذى هذا الطائر بأخذ ولدها.
قوله: "ردُّوا": أمر استحباب، لا أمر إيجاب؛ لأن اصطياد فرخ الطائر جائز.
قوله: "قرية نمل"؛ أي: محلها، و (النَّمل): جمع نملة.
* * *
2668 -
عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ، وأنسِ بن مالكٍ رضي الله عنهما، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:"سيكونُ في أُمتي اختلافٌ وفُرْقةٌ، قوم يحسِنُونَ القِيلَ ويُسيؤون الفِعلَ، يقرؤونَ القرآنَ لا يجاوزُ تراقِيَهم، يَمرُقونَ مِن الدِّينِ مُرُوقَ السَّهمِ مِن الرميَّة، لا يَرجِعونَ حتى يرتدَّ السَّهمُ على فُوقِه، هم شرُّ الخلقِ والخليقةِ، طُوبَى لمن قَتَلهم وقتلُوه، يَدْعونَ إلى كتابِ الله ولَيْسوا مِنا في شيءٍ، مَنْ قاتَلَهم كانَ أَوْلَى بالله مِنهم، قالوا: يا رسولَ الله ما سِيماهُم؟ قال: التَّحْلِيقُ".
قوله: "قوم يحسنون القيل"، (القِيل): القول.
قوله: "يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم"، (التَّرَاقي): جمع تَرْقُوَة، وهي عظم وصل بين ثُغْرة النَّحر والعَاتِق؛ يعني: قرائتهم تظهر في الحناجر فحسب، بحيث يسمع منها أصوات مجردة، ولا مَدخل لها في قلوبهم؛ لكونها قاسية مظلمة لا تقبل ذلك.
قوله: "لا يرجعون حتى يرتدَّ سهم على فُوْقِهِ"، (الفُوق): بضم الفاء موضع
الوتر من السهم، الأفواق جمع؛ يعني: لا يرجعون إلى طاعة الله ورسوله حتى يرجع السهم المرمي إلى فُوقه، عَلَّقَ رجوعهم إلى الدين بأمر مُحال؛ ليفهم أنهم لا يرجعون أبدًا إلى الدين، كما علق الله تعالى دخول الكفار الجنة بشيء مستحيل عقلاً وقال:"ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط".
قوله: "هم شر الخلق والخليقة"، (الخلق والخليقة) واحد إلا أنه صلى الله عليه وسلم ذكرهما معًا للتأكيد، وقيل: أراد بـ (الخليقة) مَنْ خُلِقَ، وبـ (الخلق) من سيُخْلَق.
قوله: "ما سيماهم؟ قال: التحليق"، (السِّيماء): العلامة، (التَّحليق): حلق شعر الرأس.
فإن قيل: التحليق ركن أو واجب في الحج على خلاف فيه، أو سنة العلماء المحققين من المشايخ، فكيف وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الإباحة بذلك؟
قيل: التحليق لا محالة صفةُ مدح لكونه مندوبًا إليه، أو محبوبًا في نفسه، والشيء إذا كان مستحقًا للمدح لا يصير مذمومًا لكونه سمتًا لهم، وقد ذكر استيفاء الشرح في الحديث الثالث من الباب.
* * *
2669 -
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ يشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله إلا بإحدى ثلاثٍ: زنًا بعدَ إحصانٍ فإنَّه يُرجَمُ، ورجلٌ خرجَ مُحارِبًا للَّهِ ورسولِهِ فإنَّه يُقتَلُ أو يصلَبُ أو يُنفَى من الأرضِ، أو يَقتلُ نفسًا فيُقتَلُ بها".
قوله: "زنًا بعد إحصانٍ فإنه يرجم"، (أحصنت المرأة): عفت، فهي محصنة - بكسر الصاد وفتحها -، ويعتبر في الإحصان ثلاث صفات: التكليف،
والحرية، والإصابة في نكاح صحيح، (الرجم): الرمي بالحجارة.
يعني: مَنْ زنى بعد ما حصل له الإحصان، فهو يرمى بحجارة معتدلة حتى يموت.
قوله: "خرج محاربًا لله ورسوله"؛ يعني به: قاطع الطريق، فقاطع الطريق إذا أخذ المال وقتل صاحبه، يقتل قتلاً واجبًا، لا كالقصاص الذي يَرِدُ فيه العفو، والفتوى أنه يُقتل ثم يُصلب ويترك ثلاثة أيام نَكَالاً وعبرة، فإذا قتل شخصًا ولم يأخذْ مالَه، يُقتل ولا يصلب، وإذا لم يصدر منه إلا تخويفُ الرفقة وسدُّ الطريق، يستحق التعزير بالحبس وغيره.
* * *
2670 -
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لمسلمٍ أنْ يُرَوِّعَ مسلمًا".
قوله: "لا يحل لمسلم أن يُرَوِّعَ مسلمًا"، (الترويع): التخويف.
* * *
2671 -
عن أبي الدَّرداءِ رضي الله عنه، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَن أخذَ أرضًا بجِزْيَتِها فقد استقالَ هِجْرَتَه، ومَن نَزَعَ صَغارَ كافرٍ مِن عُنُقِهِ فجعلَه في عُنُقِه فقد ولَّى الإسلامَ ظهرَهُ".
قوله: "من أخذ أرضًا بجزيتها فقد استقال هجرته"، (الجِزية): ما يُؤخذ من أهل الذمة، (جِزًى) جمع، قال الخطابي: معنى (الجزية) ها هنا: الخراج.
ودلالة الحديث: أن المسلم إذا اشترى أرضًا خراجية من كافر؛ فإنَّ الخَراج لا يسقط عنه، وإلى هذا ذهب أصحاب الرأي إلا أنهم لم يَرَوا فيما
أخرجت من حَبٍّ عشرًا، أو قالوا: لا يجتمع الخراج مع العشر.
وقال عامة أهل العلم: العشر عليه واجب فيما أخرجته الأرض من الحَب إذا بلغ خمسة أوسق.
و (الخراج) عند الشافعي على وجهين: أحدهما: جزية، والآخر: بمعنى الكراء والأجرة، فإذا فتحت الأرض صُلحًا على أن أرضها لأهلها، فما وضع عليها من خَراج فمجراه مجرى الجزية التي تؤخذ من رؤوسهم، فمن أسلم منهم يسقط ما عليه من الخراج كما يسقط ما على رقبته من الجزية، ولزمه العشر فيما أخرجت أرضه.
وإن كان الفتح إنما وقع على أن الأرض لنا ويؤدون في كل سنة منها شيئًا، فالأرض للمسلمين وما يؤخذ منهم عنها فهو أجرة الأرض، فسواء من أسلم منهم أو أقام على كفره.
فعليه إذا ما اشترط عليه، ومن باع منهم شيئًا من تلك الأرضين فبيعه باطل؛ لأنه باع ما لا يملك، وهذا سبيل أرض السواد عنده - أي: عند الشافعي - هذا كله منقول من "المعالم"
وإنما قال صلى الله عليه وسلم: "استقال هجرته" لأنه حطَّ منصبه بوضعه على نفسه صَغَار أهل الذمة باشترائه أرضًا خراجية، فيطالب بالخَراج كما يطالب أهل الذمة، وسياق الحديث يدل على هذا التعليل وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"ومن نزع صَغَار كافر من عنقه فجعله في عنقه، فقد ولَّى الإسلام ظهره"، (نزع): إذا جذب وجر، (الصَغار) بفتح الصاد: الذُّل، (ولَّى) أصله من (وَلِيَ): إذا قرب.
يعني: مَنْ تحمل ذل كافر وجعله في عنقه فقد جعل الإسلام في جانب ظهره.
* * *
2672 -
عن جرِير بن عبدِ الله قال: بعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سَرِيةً إلى خثعم، فاعتصمَ ناسٌ منهم بالسُّجودِ، فأسرعَ فيهم القتلُ، فبلغَ ذلكَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأمرَ لهم بنصفِ العَقْلِ وقال:"أنا بريءٌ مِن كلِّ مسلمٍ مُقيمٍ بينَ أَظْهُرِ المشركينَ"، قالوا: يا رسولَ الله! لِمَ؟ قال: "لا تَتَراءى ناراهُما".
قوله: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خَثْعَمَ، فاعتصم ناس منهم بالسجودِ، فأسرع فيهم القتل"، (بعث): أرسل، (السَّرية): قطعة من الجيش، (خَثْعَم): قبيلة.
(اعتصم)؛ أي: تمسك وأخذ.
يعني: جماعة من تلك القبيلة إذا رأوا الجيش شرعوا في السجود، فالجيش قتلوهم ولم يبالوا بسجودهم ظانين أنهم يستعيذون من القتل بالسجود، فإذا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ألزم على القاتلين نصف ديتهم، وإنما لم يلزم عليهم الدية الكاملة؛ لأنهم قتلوا بجناية أنفسهم وجناية غيرهم بسبب أنهم أقاموا مسلمين في دار الحرب.
قال في "شرح السنة": المسلم المضمون الدم لم يسقط ضمان دمه بالمقام فيما بين الكفار أصلاً، فلا يجوز أن ينتقض به الضمان.
ألا ترى أن القاتل إذا عرف مسلمًا مقيمًا فيما بينهم فقتله من غير ضرورة، يجب عليه القصاص أو كمال الدية، ولا تجعل إقامته فيما بينهم مشاركة لقاتله في قتله، فتحتمل - والله أعلم - أن تكون الدية غير واجبة بقتلهم؛ لأن مجرد الاعتصام بالسجود لا يكون إسلامًا، فإنهم يستعملونه على سبيل التواضع والانقياد، فلا يحرم به قتل الكافر، فهؤلاء لم يحرم قتلهم بمجرد سجودهم، إنما سبيل المسلمين في حقهم التثبت والتوقف، فإن ظهر أنهم كانوا قد أسلموا ثم اعتصموا بالسجود فقد قتلوا مسلمًا مقيمًا بين أظهر الكفار ولم يعرفوا إسلامه، فلا دية عليهم غير أنه صلى الله عليه وسلم أمر لهم بنصف الدية استطابة لأنفس أهلهم،
وزجرًا للمسلمين عن ترك التثبت عند وقوع الشبهة.
قوله: "لا تتراءى ناراهما": قال في "الغريبين": لا يتَّسم المسلم بِسِمَةِ المشرك، ولا يتشبه به في هديه وشكله، ولا يتخلق بأخلاقه، من قولك: ما نارُ نعمك؛ أي: ما سمتها، وقرأت لأبي حمزة في تفسير هذا الحديث يقول: لا يجتمعان في الآخرة لبعد كل واحد منهما عن صاحبه.
قال أبو عبيدة: يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه لا يحل للمسلم أن يسكن بلاد المشركين، فيكون مسكنُ كل واحد منهما قريبًا من مسكن الآخر بحيث يرى كل واحد نار صاحبه.
والثاني: أن المراد بها نار الحرب؛ أي: نار الطائفتين مختلفتان، فنار المسلمين تدعو إلى الله تعالى، ونار الكفرة تدعو إلى الشيطان فأنى تتفقان، فكيف يسكن المسلم في ديارهم، فإسناد الرؤية إلى النار مجاز.
قال في "شرح السنة": جعل الرؤية للنار ولا رؤية لها، ومعناه: أن تدنوا هذه من هذه كما يقال: داري ينظر إلى دار فلان، وقيل: معناه: لا يستوي حكماهما يقول: كيف يساكنهم في بلادهم وحكم دينهما مختلف.
قال ابن الأعرابي: النار ها هنا: الرأي، يقول: لا يشاورهم.
* * *
2673 -
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"الإِيمانُ قيَّدَ الفتْكَ، لا يفتِكُ مؤمنٌ".
قوله: "الإيمانُ قيدُ الفَتْكِ لا يفتِكُ مؤمنٌ"، (الفتْكُ): قتلُ أحدٍ بغتةً، (قَيَّدَ): شدَّ ومنعَ؛ يعني: الإيمان يمنع صاحبه من قتل أحد بغتة، حتى يسأل عن إيمانه، كما يمنع المقيد قيده، فإذا كان كافرًا ينبغي أن يُدعى إلى الإسلام، فإن أبى يقتل.
قوله: "لا يفتِكُ" خبر بمعنى النهي.
* * *
2674 -
عن جريرٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أَبَقَ العبدُ إلى الشِّركِ فقد حَلَّ دمُه".
قوله: "إذا أبقَ العبدُ إلى الشركِ فقد حلَّ دمُه"، (أبق): إذا فرَّ وهرب؛ يعني: إذا هرب مملوك أحد إلى دار الشرك، فإذا ظفر أحد من المسلمين بقتله فلا شيء عليه.
* * *
2675 -
عن عليٍّ رضي الله عنه: أنَّ يهوديةً كانتْ تشتُمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وتقعُ فيه، فخنقَها رجل حتى ماتَتْ، فأبطلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم دمَها.
قوله: "وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم دمَها".
(وَقَعَ) في الناس (وقيعةً)؛ أي: اغتابهم، و (تقع فيه)؛ أي: تغتاب النبي صلى الله عليه وسلم، (خَنَقَ يَخْنُقُ): إذا عَصَرَ حَلْقَهُ.
وإنما أبطل صلى الله عليه وسلم دمها لكونها أبطلت ذمتها لشتم النبي صلى الله عليه وسلم وصارت حربيةً بذلك، وفيه دليل على أن الذمي إذا لم يكف لسانه عن الله تعالى ورسوله ودينه فهو حربي مباح الدم.
2676 -
عن جُنْدُبٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "حدُّ السَّاحرِ ضربةٌ بالسَّيفِ".
قوله: "حدُّ الساحرِ ضربةٌ بالسيف"، قال في "شرح السنة": واختلف أهل العلم في قتل الساحر، روي عن عمرو بن دينار أنه سمع بَجَالَةَ تقول:
كتب عمر رضي الله عنه: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، فقتلنا ثلاث سواحر.
وروي عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ جاريةً لها سحرتْهَا، فأمرَتْ بها فَقُتِلَتْ، وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة، وغيرهم من أهل العلم، وهو قول مالك.
وعند الشافعي: يُقتل السَّاحر إن كان ما يسحر به كفر، إن لم يتب، فإن لم يبلغ عمله الكفر، فلا يقتل، وتعلم السحر لا يكون كفرًا عنده إلا أن يعتقد قلب الأعيان منه، وذهب قوم إلى أن تعلمه كفر، وهو قول أصحاب الرأي.
° ° °