الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1-
الأهرام:
صحيفة عاصرت الأحداث الجسام التي مرت مصر بها منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، ولا تزال حتى اليوم تؤدي رسالتها في وفاء ودقة وأمانة وحذق والتزام. تأسست 1875 بمدينة الأسكندرية بجهود سليم تقلا 1849-1892 وأخوه بشار تقلا 1852-1901 وكانت أسبوعية في أول أمرها، ثم أصبحت يومية، ولما توفي سليم تقلا استقل أخوه بشارة بها ثم نقلها إلى القاهرة، ولما توفي بشارة تقلا 1901 آلت إلى ابنه جبرائيل، وبعد تنظيم الصحافة في 1960 أصبحت مؤسسة صحافية أشرفت الدولة عليها، ولا تزال -كعهدها- تؤدي رسالتها على الوجه الأكمل.
تولى شيخ الصحافة داود بركات المتوفى 1933 رياسة تحرير الأهرام فترة، حرص خلالها على كتابة مقال افتتاحي يومي عنوانه:"السياسة في العالم العربي" ولما لحق بربه خلفه -فيما بين الثلاثينات والأربعينات- أنطون الجميل 1887-1948، فأحل مكان سلفه موضوعًا إخباريا، يظهر من أسبوع لآخر يشير فيه إلى شيء سياسي هام، يوهم قارئه أن وراء الأفق حدثا ما، وكان من طبيعة الرجل ألا يتجاوز الثلاثين سطرًا في مقالاته، وبذا كان يفرض على القارئ أن يقف طويلًا أمام كل سطر، مما زاد من شأن الأهرام وزيادة توزيعه فوق المائة ألف نسخة، وهذا رقم أسطوري في مجال توزيع الصحف خلال تلك الفترة، وأجمع رجال الصحافة -حينئذ- على أن أنطون الجميل أنسى الناس اسم داود بركات، بعد أن ملأ فراغه من الأدب والسياسة والكياسة.
وحرص أنطون الجميل على عقد ندوات أدبية بدار الأهرام، ولا غرابة
في ذلك فهو أديب كان يحرر منذ 1910 مجلة "الزهور" المتخصصة في الشعر، وفنون الأدب العربي الجديد الذي ظهرت طلائعه عقب الحركات الوطنية التي سادت العالم العربي، وفي إحدى ندواتها ناقش عباس العقاد أستاذ جامعيا في الزراعة، انتهت الندوة بتبرم الأستاذ الجامعي من معارضة أديب لا صلة له بالزراعة، مما دفع العقاد إلى الانصراف، وعاد بعد أسبوعين يحمل رسالة من تأليفه في المادة الزراعية موضوع المناقشة، وأجمع نفر من أساتذة الجامعة المختصين على صواب العقاد، كما كان كامل الشناوي يحرص على حضور ندوات الأهرام الأدبية وغيرهما من رجال الفكر والثقافة والأدب بمصر.
استقطبت الأهرام العديد من كبار الأدباء والمفكرين في مصر وغيرها من أمثال الدكتور أحمد زكي الملقب بشيخ العروبة 1867-1934، فقد نشر مقالات عديدة عن رحلاته إلى أوروبا والأندلس خلال سنوات حياته "1892-1934" وظلت الأهرام مجاله الواسع، وميدانه الطليق في نشر مقالاته وتعليقاته وتحقيقاته في أي وقت. وكتب فيها كذلك محمد توفيق دياب 1887-1967 بعد توقف جريدته "الجهاد" 1939 وظل ينشر مقالاته الوطنية على صفحات الأهرام حتى قامت ثورة يوليو 1952.
وعمل الدكتور محمود عزمي 1889-1954 مستشارًا للشئون الخارجية بها، ونجح خلال عمله بها من تطوير الصحافة العربية ونقلها إلى الأسلوب البسيط السهل. وعمل كذلك بها محمود أبو الفتح 1885- 1958 محررًا، وحقق واثنين من الصحافيين العالميين أكبر نصر صحفي في أول رحلة جوية للمنطاد الألماني "زيان" في وقت لم يؤلف الطيران العادي في مصر أو خارجها. ولما اختلف مع جبرائيل تقلا لحياد الأهرام في بعض المواقف السياسية، قرر محمود أبو الفتح إنشاء صحيفة يومية تواجه الأهرام، فكانت جريدة المصري 1936، وفي الحرب العالمية الثانية كان محمود أبو الفتح أحد ثلاثة من الصحفيين العالميين سمح لهم بدخول خط "ماجينو" في فرنسا، فحقق عن طريق هذه الرحلة النجاح الفني والسياسي والمادي لصحيفة "المصري" وأصبحت ذات خطر على الأهرام أكثر الصحف العربية انتشارًا إذ ذاك.
ونشرت "مي زيادة" 1890-1941 مقالات لها في الأهرام في مقابل شقة فسيحة في عمارتها التي كانت إلى عهد قريب تشغل أقسام إدارة الأهرام، وحاول القائمون في الأهرام جذب "مي" إليها لتكون عضوًا في أسرة تحريرها، لكنها آثرت أن تحكون صلتها بالأهرام صلة الكاتبة الحرة التي لا تختلط بأي من في الجريدة التي تنشر مقالاتها بها، كما حررت منيرة ثابت المتوفية 1974 المقالات النسوية بجريدة الأهرام، وشاركت في شئون التحرير على الرغم من أنها لم تكن من هيئة التحرير.
وعمل الشاعر كامل الشناوي مندوبًا بالأهرام في البرلمان يصف جلسات المجلس ولم تمض شهور حتى أصبح كل شيء في الصفحة البرلمانية بالأهرام، وتدرج في المناصب حى أصبح أحد رؤساء التحرير بها.
وحرر الأديب أسعد داغر المتوفى 1958 بالأهرام ركنًا خاصا بالقضايا العربية، قبل أن تعرفه الصحف الأخرى، وظل يعمل بها حتى نقل مستشارًا إعلاميا للجامعة العربية عند إنشائها 1945. وبرز أزهري يسمى "محمد خالد" في صحيفة الأهرام، وأخذ يعقد الصداقات بينه وبين الدبلوماسيين العرب، ويستقي منهم معلومات تعد جديدة في الصحافة إذ ذاك، ثم طاف بالبلاد العربية وعاد منها بحصيلة وافرة من الأخبار والتعليقات مما رفع مقامه في الأهرام، فأفرد له غرفة خاصة حتى يتمكن من استقبال مصادر أخباره.
ومنذ 1961 تولى مجلس إدارتها نفر يتحملون تبعة تحريرها كان منهم محمد حسنين هيكل، وعلي أمين، وعلي حمدي الجمال وعبد الله عبد الباري. وها هي نماذج من مقالاتها العديدة.
أولًا: كتاب الدكتورة نعمات أحمد فؤاد بعد أحداث الزاوية الحمراء مقالًا عنوانه: "مصريون قبل الأديان ومصريون بعد الأديان ومصريون إلى آخر الزمان" جاء فيه: "شاءت قدرة الله أن يخلق الناس أمما شتى وألوانًا شتى، وألسنة شتى دليلًا على قدرته، وسبيلًا إلى إدراك حكمته من وراء هذا التباين في الأشكال والطباع والمواهب والعقول، وما دام الناس مختلفين في التكوين، فهم مختلفون أيضًا في التصرف والسلوك. يحدث
هذا الخلاف في البيت الواحد، ويحدث في المدينة الواحدة، يحدث هذا على مستوى الأشقاء، ويحدث هذا على مستوى الزوجين، بل يحدث هذا بين الأبناء والآباء حتى بين الرسل منذ اختلف نوح مع ابنه، وإبراهيم مع أبيه، لماذا هذه الظاهرة الجديدة علينا، والجديدة بيننا، كلما اختلف مصريان تحول الخلاف إلى دينين سمحين ليست في طبيعتهما الصافية النقية ما يحصل عليهما حملًا أو يلصق بهما إلصاقا؟ وفي مصر خاصة تعانق الدينان منذ البداية، فنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم أصهر إلى مسيحي مصر وأنجب من المصرية الرقيقة مارية القبطية ابنه إبراهيم فصرنا لها أصهارًا ولابنه أخوالًا، والإسلام من دون الأديان جميعًا جعل الإيمان برسالات السماء جميعًا شرطًا للإيمان به، وحماية الرسول صلى الله عليه وسلم، منهم بلال الحبشي، وسليمان الفارسي، وأبو رافع القبطي المصري، وأشهر وأيسر قراءة في القرآن الكريم قراءة "ورش" وهو مصري قبطي".
"وحين تكلمت مصر العربية ووقفت وراءها بالعطاء العلمي والفني، كانت لها وللإسلام بيئة حضارية قام عليها بناؤه، فجمعت مصر الحديث الشريف، وفسرت القرآن الكريم، ورتلت الأذان، وكتبت الموسوعات، وكيفت المذاهب الفقهية كمذهب الإمام الشافعي والإمام مالك، وأعملت رأيها في كل شيء، ووضعت بصمتها على كل شيء، بل وضعت قاموس العربية الأكبر: "لسان العرب" من 24 جزءًا وضعه ابن منظور المصري، حين فعلت مصر هذا من خلال الرجال العلماء كان من بين هؤلاء من المسلمين: علي بن منجب الصيرفي الذي نقل عنه صاحب خريدة القصر، ومنهم القفطي والسخاوي والبوصيري صاحب البردة والإمام الليث بن سعد ومنهم من المسيحيين ساويرس بن المقفع أسقف الأشمونيين وملوي وأول من ألف بالعربية من الأقباط، وكتابة "تاريخ البطارقة" موسوعة استمد منها المقريزي الكثير من خططه كما نقل عنه القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى". ومن رجال مصر من الأقباط الذين أسهموا في التأليف في علوم العربية وأدابها سعيد بن بطريق، وبنو العسال، وجرجس بن العميد المعروف بابن المكين صاحب كتاب "تاريخ المسلمين" والمفضل بن أبي المفضال، وبطرس أبو شاكر ويعرف بابن الراهب، وابن كير وهو شمس الرياسة أبو البركات
وأسعد بن مماني الشاعر الأديب صاحب الخطوة في الدولة الأيوبية".
"وحين نهضت مصر بالفن الإسلامي كانت تستمد إبداعها فيه من وراثاتها في الفن المصري القديم، والفن المصري القبطي، بل إن الأقباط في أول عهد الإسلام بمصر هم الذين نهضوا بزخرفة الكتب، وزخرفة الخشب بل استعان بهم الوليد بن عبد الملك في بناء مسجد دمشق والمسجد الأقصى وقصر أمير المؤمنين، بل يضيف "البلاذري" في "فتوح البلدان" مسجد المدينة فيما أعانوا عليه، ونهض المصريون أقباطًا ومسلمين في العصر الفاطمي أي: في العصر الذي تم فيه إسلام مصر وتعريبها بالفن المصري الإسلامي نهضة فيها من إحساس مصر ووجدانها وذوقها الحضاري، ما أضفى على فن مصر الإسلامية طابعًا مميزًا، وشخصية فذة. يقول الأستاذ محمد شفيق غبريال في كتابه "تكوين مصر": "إن طرائق الفن القبطي وأساليبه كانت عاملًا من العوامل المؤثرة في فنون مصر الإسلامية وصناعاتها. وهذا دليل على أهمية العنصر المسيحي في تكوين مصر".
"هل يعلم هذا ضحايا عتاة الانشقاق وهواة الصيد في الماء العكر؟. جاءت المسيحية من بيت لحم بفلسطين وبعد تفكير وتمحيص للدين الوافد ولموقفها هي من الرومان، اختارت مصر المسيحية ودافعت عنها بالرأي والروح، وبما تمثل المسيحية من وقفة مصر وموقفها، نعتز بالمسيحية مسلمين وأقباط لأننا مصريون، وجاء الإسلام من الجزيرة العربية ولم يكن غربيا عن طبيعة مصر ولا عن مسيحيتها. ولهذا لم يكن إسلامها تسليمًا بل كان إسلامها موقفًا واستجابة وإيجابًا فدافعت عنه بالرأي والروح، وبما يمثل الإسلام من سماحة مصر وتفتحها، نعتز بالإسلام أقباطًا ومسلمين لأننا مصريون".
"آمنت مصر بالدينين؛ لأنها اهتدت منذ ألوف السنين بالفطرة السليمة والدافع الحضاري معًا، إلى عقيدة البعث والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، بل اهتدت إلى التوحيد وابتهلت وتبتلت وشكرت وأفضلت، اهتدت مصر إلى هذا كله، ولهذا وقفت بوجدانها الدين وراء الأديان، وفعلت للمسيحية والإسلام ما لم يفعله أتباعهما في أي مكان، لم تعرف مصر
الحروب التي دارت بين المدن اليونانية، ولم تعرف مصر محاكم التفتيش أو ديوان التحقيق وما وقع في إسبانيا عقب خروج العرب من الأندلس، ولم يحدث في مصر ما حدث في محاكمة الليدي جان جراي في إنجلترا التي كان الدافع القوي على إعدامها كونها بروتستانتية حين كانت الملكة ماري التي حاكمتها كاثوليكية".
"لقد عرفت مصر حياة التدين ولكنها لم تعرف التعصب في الدين أو الضغينة بسببه، فسلم الدين فيها كما يقول الأستاذ العقاد في كتابه عن "سعد زغلول": "من لوثة العصبية العمياء وقسوة الهمجية الرعناء سلم تاريخ مصر كله من المذابح الطائفية إلا ما يتسلل إليها من طائفة غريبة أو نحلة دخيلة". وكم عانت مصر من المتسللين مثل "جورست" خلفه "كرومر وكتشنر" وكاتب استعماري مثل "جون بورنج" في القرن التاسع عشرن وشايعه "إدوارد وكين" في الستينات من القرن العشرين في كتابه "أقلية متوحدة" وإن لم يستطع أمثال هؤلاء أن ينكروا التماثل بين الأقباط والمسلمين حتى "كرومر" في كتابه "مصر الحديثة" لم يستطع الفكاك من هذه الحقيقة حيث يقول في الفصل السادس والثلاثين من كتابه، وأنا هنا أترجم حرفيا "القبطي من قمة رأسه إلى أخمص قدمه في السلوك واللغة والروح مسلم وإن لم يدر كيف فالقبطيات يتشبهن بالمسلمات، والأطفال تكيفوا عامة، وعادات الزواج والجنائز تشبه ما عند المسلمين".
"وقد لاحظ عبد الله النديم في "الأستاذ" -الجزء الرابع من السنة الأولى- أن الحروب الصليبية أو الثورة العرابية لم تشب إحداهما ما بين المسلمين والأقباط من صفاء أو ترابط، لقد كنا غداة الفتح نتبادل قناديل المساجد والكنائس في الاحتفالات الدينية في الجانبين. ونحن اليوم تجمعنا عادات واحدة وأعياد مشتركة مثل عيد الربيع ووفاء النيل وليلة النفطة وكلها أعياد مصرية قديمة صاحبتنا مع الزمن وصاحبناها إلى يومنا هذا؛ لأننا مصريون، مصريون قبل الأديان ومصريون بعد الأديان ومصريون إلى آخر الزمان1".
1 راجع: الأهرام في 22/ 6/ 1981.
ثانيًا: كتب الدكتور الدكتور محمد نصر منها عن "لقاء الأوروبية بالعربية في فكر الطهطاوي السياسي" فقال: "تعتبر تجربة رفاعة رافع الطهطاوي تجربة ثرية في التقاء الحضارة الغربية بالحضارة المصرية الإسلامية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد اتسمت هذه الفترة بثراء الترجمة من علوم الغرب وأدابه ونظمه في معالجة الشئون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ففي الفترة التالية لعام 1805 كان محمد علي يحث أعضاء البعثات على تعريب الكتب الأجنبية، وكانت الحكومة تعلق على أعمال الترجمة أهمية كبرى لكي تظفر بأكبر عدد من الكتب المترجمة في أقل زمن".
وقد قضى رفاعة الفترة 1825-1831 في باريس التي أوفد إليها في بعثة تعليمية للعلم وعاش في باريس، وقد أخذ على نفسه أن ينقل إلى اللغة العربية تجربة الحياة الفرنسية وفيما يتعلق بالسياسة وأصولها، فإن رفاعة قرأ كتبا للمفكرين السياسيين الذين مهدوا للثورة الفرنسية كمونتسكيو وجان جاك روسو، وانعكس جهد رفاعة في هذا الخصوص على تأليف كتابي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" و"مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية" وقد نشر رفاعة فيها آراءه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهناك أيضًا كتابا "المرشد الأمين للبنات والبنين" و"أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل" الذي يبين فيهما موقفه من الحكم على ضوء التجربة الفرنسية، ويمكن أن نتبين آراءه السياسية فيما يلي: كان رفاعة ذا ميل فطري إلى النظم الحرة، والحياة السياسية المقيدة بالقوانين، ويدلنا على ذلك أنه ترجم دستور فرنسا الذي كان معمولًا به عندما كان في باريس وما أدخل عليه من تعديلات، وكان بترجمته لهذا الدستور يرفع أمام بني وطنه مثلًا يقتدى به في الحياه السياسية المثالية، ولا سيما أنه ترجم هذا الدستور مبديًا رأيه فيه إذ قال:"ومن ذلك يتضح لك أن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف، وأن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضى بها أهل الدواوين".
"ويبدو هذا الإعجاب من تعليقه على مواد هذا الدستور، فعلق على المادة الأولى منه وهي التي تنص على أن سائر الفرنسيين يتساوون أمام
الشريعة بقول معناه أن سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع أو وضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون، حتى إن الدعوى الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره" وعلق على المادة الثانية الخاصة بالمساواة في الضرائب بقوله:"وأما المادة الثانية فإنها محض سياسة ويمكن أن يقول إن المساواة في الضرائب ونحوها لو كانت مرتبة في بلاد الإسلام كما هي في تلك البلاد لطابت النفس ومن الحكم المقررة عند قدماء الحكماء الخراج عمود الملك".
"وعلق على المادة الثالثة من الدستور الفرنسي التي تنص على أن كل واحد من الفرنسيين متأهل لأخذ أي منصب كان وأي رتبة كانت فقال: "وأما المادة الثالثة فلا ضرر فيها أبدًا بل من مزاياها أنها تحمل كل إنسان على تعهد تعلمه حتى يقرب من منصب أعلى من منصبه، وبهذا كثرت معارفهم ولم يقف تمدنهم على حالة واحدة". وعلق على المادة الثامنة الخاصة بحرية الرأي والنشر فقال:"وأما المادة الثامنة فإنها تقوي كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله مما لا يضر غيره فيعلم الإنسان أن سائر ما في نفس صاحبه".
"وهكذا يمكن فهم فكر رفاعة السياسي من ثنايا وصفه السابق وتعليقاته على الدستور الفرنسي وعناصره الملكية والأورستقراطية وإثاره الثورة الفرنسية، وهو في وصفه للنظام القائم في فرنسا في ظل ميثاق لويس الثامن عشر وفي وصفه للثورة الفرنسية عندما نقض شارل العاشر ذاك الميثاق. إنما يصدر دائمًا عن منهج مقارن بين الحكم في فرنسا والحكم في مصر، وعن استهداف أن يكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن اعتبر في بلاده فهو تسجيله للقيود على الحكم المطلق وللضمانات والحقوق التي كفلها الدستور الفرنسي للفرد، إنما ينقل إلى بلاده الطابع التحرري الذي تشرب به بين الفرنسيين والمثال الواقعي الذي اتخذته التحررية في السياسة الفرنسية".
"وقد يبدو أن ما يثير العجب أن يلتفت رفاعة إلى الجانب السياسي التحرري من السياسة الفرنسية وأن يأخذ به ويتأثر به، ولكن طبيعته
وثقافته الإسلامية جعلته يدرك بعمق تفوق الفرنسيين في نظم الحكم. فالإسلام قد درج منذ البدء على أن يكون الحكم جانبًا هاما من جوانب الدين، ولقن هذا الدرس في مراكز الثقافة الإسلامية علماء المسلمين على مر العصور، ولقنوه لأجيالهم المعاصرة والمتعاقبة جيلًا بعد جيل، ويعد رفاعة الطهطاوي من هذه الناحية وارثًا للتراث الإسلامي وداعيًا لدروسه ومجتهدًا في المزاوجة بينه وبين التجربة العقلية على أسس من المنهج العلمي التاريخي المقارن، وهو في هذا إنما يسير على المنهج الذي سار عليه مفكرو العرب منذ البدء حين عملوا على بناء الحضارة العربية الجديدة من مزج بين تراث العرب وبين ما نقلوه من عناصر الحضارة المتعددة الجوانب والأصول1".
ثانيًا: كتب الباحث يوسف ميخائيل أسعد مقالًا عنوانه: "لماذا تراجع الفن والأدب" وضح خلاله أسباب هذا التراجع فقال: "وقع هذا التراجع بالفعل من جانب الفن والأدب أمام تطورات العلم وتطبيقاته التكنولوجية، ولنضرب خمسة أمثلة فقط لتراجع الأدب أمام التيار العلمي التكنولوجي، والأمثلة التي نسوقها لنؤكد بها تراجع الفن أمام العلم والتكنولوجيا هي:
أولًا: اختراع التصوير الفوتوغرافي، وكيف أنه ضرب التصوير الفني في الصميم لدرجة أن الفنانين من أصحاب الفرش والألوان قد هربوا من أمام هذا الطغيان الفوتوغرافي إلى معقل جديد هو التصوير الإبداعي التشكيلي.
ثانيًا: اختراع الآلات الموسيقية ذاتية التشغيل بدءًا بالفونوغراف وانتهاء إلى الراديو وأجهزة التسجيل والكاست، لقد عملت هذه المخترعات على إحجام معظم الناس العاديين عن محاولة تعلم العزف الموسيقي، بل أنها ضربت معظم الناس بالسلبية. فصاروا يتلقون دون أن يقدموا. فكبار الموسيقيين احتلوا مكان الصدارة وصاروا هم الذين يعزفون فحسب، والجموع الغفيرة تستمع إلى ما يقومون بعزفه.
1 راجع: الأهرام في يوم الجمعة 26/ 6/ 1981.
ثالثًا: لقد دخل الكومبيوتر حديثًا في مجال التأليف الموسيقي فصرنا نستمع إلى موسيقى لم يقم أحد الموسيقيين بوضع ألحانها، بل إن الكمبيوتر هو الذي دبج أنغامها. ولسوف تشيع بعد وقت قريب أو بعيد آلات موسيقية إلكترونية تضغط أنت على أزرارها لكي تقوم هي بتقديم الأنغام الجديدة المبتكرة إليك، فأنت سوف تصنع الألحان بنفسك، ولكن ليس بفنك في التلحين وليس اعتمادًا على موهبتك الموسيقية، بل بمجرد معرفتك طريقة تشغيل ذلك الجهاز الإلكتروني وبمجرد الضغط على أزراره البسيطة غير المعقدة التي تسمح بتشغيله فيقوم هو بالمهمة، وذلك بالتوفيق والتبادل بين أنغامه التي سبق له استيعابها.
رابعًا: لقد قضت الآلة الكاتبة والمطبعة بكافة أنواعها على فنون الخط العربي، لقد كان الخط من الفنون التي لا تقل إبداعًا وعمقًا عن فنون التصوير المتباينة، ولكنك الآن تستطيع أن تدق على حروف الآلة الكاتبة بغير أن تتعلم فنون الخط فتخرج كتابتك مقننة على المستوى العالمي، أو قل إن خطك يكون نموذجيا بحيث لا تكون بحاجة إلى مزيد من تعلم فنون الخط، لقد صار الخط الكوفي والخط النسخ وخط الرقعة وغيرها في خبر كان، وسارت القاعدة هي أن تكتب بأي خط يتسنى لسكرتيرك أن تقرأه لتحيله إلى خط جميل مقنن على الآلة الكاتبة.
خامسًا: لقد صارت الآلات المستخدمة في صناعات البلاستيك كفيلة بأن تقدم إليك التماثيل الجميلة التي تريدها لتزيين بيتك أو مكتبك بغير ما حاجة إلى التماس التماثيل الرائعة التي كان يقوم أحد مشاهير فناني النحت بصنعتها.
أما الأمثلة التي نسوقها للبرهنة على تراجع الأدب أمام التدفقات العلمية والتكنولوجية فإنها تتلخص فيما يلي:
أولًا: الترجمة وهذا الفن قد بدأ ينسلخ وينسحب ويهرب من أيدي الأدباء والمترجمين بعد أن بدأت أجهزة الكومبيوتر في تولي زمامه والسيطرة على مقاليده، صحيح أن هناك بعض التعديلات يجب أن تدخل
على الأجهزة الإلكترونية التي تعمل الآن بالفعل في هذا المضمار، ولكنها تعديلات بسيطة على كل حال.
ثانيًا: هناك نوع من الطغيان العلمي على أقلام الأدباء من شعراء وناثرين، فلقد انتحى كثير من الأدباء إلى العلوم المتباينة يكتبون فيها، وبخاصة علم النفس، وبتعبير آخر صار العلم المتأدب يحتل مكانة رئيسية في المجالات الأدبية، وهذا معناه أن الرومانسية والتعبير عن الذات قد اأنزويا أو كاد أمام تيارات العلم المتأدب.
ثالثًا: لا شك أيضًا أن التذرع بالعلم والتكنولوجيا أكسب ماديا ويبشر بالمستقبل الباسم لمن يقضي وقته فيهما، ومن ثم فإن الكثير من الشباب من ذوي الاستعدادات الأدبية النادرة، قد اختاروا طريق العلم والتكنولوجيا، وقد أشاحوا تمامًا عن طريق الأدب الذي لا يبشر بكسب أو بمستقبل، وهكذا نجد أن قياس النجاح في هذا العصر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاشتغال بالعلم والتكنولوجيا. وها أنت ترى أن الكليات العلمية والتطبيقية وقد غصت بالطلاب والدارسين، بينما خف الضغط نسبيا عن كليات الآداب.
رابعًا: يظن البعض أن التليفزيون والسينما يشجعان الأعمال الأدبية القصصية التي يعرضانها، والواقع في رأينا أنهما يقومان بقتل تلك الأعمال واغتيالها وإفراغها من مضمونها الأدبي، فإذا أنت قارنت بين العمل الأدبي كما ألفه صاحبه، وبين نفس ذلك العمل الأدبي بعد إخضاعه للسيناريو ثم للإخراج والتمثيل، فإنك ستجد أن الأصل كان عملًا أدبيا رائعًا، أما العمل المعروض على الشاشة فإنه عمل تجاري أو جماهيري. ذلك أن القائمين على الأعمال السينمائية والتليفزيونية لهم قواعدهم التي يخضعون لها عندما يقومون بإعادة صياغته لعرضه على الشاشة، فما يصلح للإبقاء عليه للسينما والتليفزيون هي القشور لا الجوهر، أو قل هي الفكرة العامة وليس الدقائق التي تعطي العمل الأدبي أو القصة الروعة والحلاوة الأدبية. وهذه شهادة الكثيرين من أصحاب الأعمال القصصية أنفسهم التي عرضت على الشاشتين الكبيرة والصغيرة.
خامسًا: لا شك أن وسائل الأعلام المسموعة والمرئية -وهي نتاجات علمية وتكنولوجية بالدرجة الأولى- قد استولت على أسماع وأنظار الغالبية العظمى من المواطنين، فهي بذلك تكون قد نبهت غالبية وقت فراغ الناس، وهو الوقت الذي كانوا يقضون جله في القراءة الأدبية وفي الإبداع الأدبي، ناهيك عن أن مجالات النشر قد سدت أمام شباب الأدباء الذين يرغبون في نشر ما يبدعون، وذلك لأن الإقبال على شراء المواد المطبوعة -وبخاصة المواد الجادة منها- قد قل بدرجة خطيرة مما يهدد الأدب والإنتاج الأدبي بالاضمحلال.
وهكذا نجد أن الفن والأدب قد تراجعا ويتراجعان أمام تيار العلم والتكنولوجيا، والله وحده يعلم ما سيكون مصيرهما بعد أن تستولي الأجهزة الإلكترونية على مقاليد الإنتاج الفني والأدبي استيلاء تاما1.
1 راجع: الأهرام الصادر في 8/ 7/ 1981.