الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: أحمد أمين 1886-1954
قمة من قمم الفكر المصري المعاصر في مجالات الثقافة الإسلامية، تراه أدبيًّا ولغويًّا وفقيهًا ومحدثًا ومؤرخًا ومحققًا وفيلسوفًا ومتصوفًا. خلف آثارًا قيمة، وتراثًا ضخمًا من الفكر بلغت تسعة وعشرين بين مؤلفة ومترجمة، أو اشترك في تأليفها أو أسهم في تحقيقها، فأعاد للتراث الإسلامي رونقه البديع، وبهاءه النضير، لا سيما بعد ظهور كتبه الشهيرة: فجر الإسلام وضحاه وظهره.. حتى آخر كتاب له في هذا العقد الذهبي وهو يوم الإسلام.
عرض في هذه الكتب تطور الحياة العقلية للإسلام خلال القرون الثلاثة الأولى عرضًا يلائم العقل الحديث، وحلل عناصرها تحليلًا دقيقًا، ردها إلى أصولها العربية والأجنبية من فارسية ويونانية وهندية، وظل يناقشها حتى استخرج لنفسه رأيًا جديدًا، استمده من نظرة عادلة وفهم صحيح. بهذه الدراسة الواعية وضع أسس مدرسة الفكر الإسلامي، وظفر بإعجاب المواطنين والأجانب من العلماء، ونال ثقة العالم العربي والإسلامي، ومحيي الدراسات الإسلامية في كل أقطار الأرض كلها.
1 راجع: محاضرة عن "شكيب والقومية" تتضمن أيادي الأمير على المغرب.
أسلوب أحمد أمين:
اتخذ أحمد أمين شعارًا له: "أكتب وفكر بلغة العصر وروحه" لذا جاء أسلوبه رائقًا، ومعانيه أخاذة، وعبارته واضحة، وشخصيته فيه قوية، ومع ذلك فإنه يعرف بالسمات التالية:
1-
التفكير المنطقي الهادئ الدقيق، والقدرة على النفاذ إلى لباب الفكرة، في كل ما يطرقه من موضوعات، أو يتناوله من أحاديث.
2-
الاهتمام بتقرير الفكرة والإقناع بها أكثر من اهتمامه بالتأثير والاتباع.
3-
معانيه مبتكرة طريفة، وآراؤه صريحة وجريئة، وشخصيته قوية واضحة تفرض نفسها فرضًا.
4-
يخضع اللغة للفكر، ويؤثر الوضوح على تنميق العبارة، مع السهولة واليسر والبساطة الخالية من زخرف القول.
5-
تؤدي عباراته ما يريده في جلاء، ودون تصنع أو تكلف، وتشيع فيه الروح الهادئة الوادعة المتواضعة.
وهذا جزء من مقاله "أسس الأخلاق في الإسلام" جاء فيه: "في القرآن الكريم آية تعد من أهم الآيات التي تبين أسس الأخلاق الإسلامية.. وكان عبد الله بن مسعود يقول فيها: "إنها أجمع آية في القرآن للخير والشر" تلك هي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لقد أمرنا الله فيها بخصال ثلاث من أهم خصال الخير؛ فأولها العدل، وهو أن يعطي الإنسان كل ذي حق حقه، فالمدين يجب أن يؤدى دينه، وهذا هو العدل.. وهناك نوع آخر من العدل، وهو عدل الحكومة مع شعبها، فعليها أن تؤدي للشعب حقه عليها، فتجلب له السعادة، وتبعد عنه أسباب الشقاء، وتوفر لكل طائفة من الشعب رقيها.
أما الخصلة الثانية بعد العدل فهي الإحسان، فإن كان العدل إعطاء كل ذي حق حقه، فالإحسان إعطاؤه ما فوق حقه، فمن الحق أن تأخذ
دينك من المدين، فإذا رأيته معسرًا فعفوت له دينك، فهذا إحسان.. وخص الله في الخصلة الثالثة الأقرباء بالإحسان، فالإحسان للناس عامة واجب، وهو لذوي القربى أوجب، فواجب أن يترابط أفراد الأسرة، ومن ارتباط الأسر ترتبط الأمة.
هذه هي الخصال الثلاث التي شددت الآية في التزامها والعمل بها، أما المنهيات الثلاثة التي وردت في الآية، فبالتأمل فيها نراها شاملة أيضًا شمولًا عجيبًا، وذلك أن علماء الاجتماع والقانون يقسمون الرذائل أو الجرائم إلى أنواع ثلاثة: جرائم يأتيها الأفراد نحو أنفسهم، وهي الجرائم الخلقية التي لا تدخل في نطاق القانون، كالكذب والحسد والنفاق والرياء ونحو ذلك. وجرائم تقع على أفراد الأمة ويعاقب عليها القانون كالسرقة والقتل، وكل ما فيه تعد على أنفس الناس وأموالهم. وجرائم تقع على السلطات الحاكمة كالسعي في هدم الحكومات.
وهذه الأنواع الثلاثة تقابل الرذائل الثلاث في الآية، فالفحشاء الأعمال القبيحة تصدر من الشخص وتؤذيه؛ ولذلك سمي البخيل فاحشًا. والمنكر ما يصدر عن الناس من جرائم تضر بهم ويستنكرونها إذا حدثت. وقد اعتاد القرآن أن يسمي الفضائل الاجتماعية معروفًا، والرذائل الاجتماعية منكرًا، وجعل من أصول الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .. أما البغي فمعناه الخروج على السلطة الحاكمة بوسائل العنف، ومن ذلك قولهم:"الفئة الباغية" أي: التي تخرج على الإمام العادل؛ ذلك لأن الإسلام يريد استقرار الأموار واستقرار السلطة الحاكمة مع صلاحيتها؛ لأنها المشرفة على النظام العام، فإن حادت عن العدل أو الحق وجههًا أولو الأمر إلى الجهة الصالحة، فالوسيلة للإصلاح هي النقد الصريح الجريء، وهذا يدخل -أيضًا- ضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبعد، فإن الأمة التي تتبع هذه الأصول الثلاثة، وتتجنب هذه الأشياء الثلاثة أمة مثالية، فلنتصور جماعة من الناس، أو أمة من الأمم، عدل
أفرادها فأدوا لكل ذي حق حقه، وعدلت حكومتها فأدت واجبها، ثم تعاطفوا فيما بينهم، فساد بينهم الإحسان وخاصة على ذوي قرباهم، ثم تجنبت هذه الجماعة الجرائم الفردية الشخصية، والجرائم الاجتماعية، والثورات الانقلابية، فأي جماعة أسعد من هذه الجماعة؟! وأي أمة أرقى من هذه الأمة؟! "1.
المقال -كما ترى- سيكشف عن الثقافة الإسلامية لدى المرحوم أحمد أمين، ويوضح غيرته الدينية، وحرصه على بث عوامل الخير، ونبذ عوامل الشر، حتى يتحقق العدل في ربوع الأمة وبين أفرادها، في أسلوب ديني يقنعك بما تضمنه من طرق الإقناع، دون تزمت أو تهور، ويحمل روح العصر ولغته في وضوح وسهولة، ويسر وجلاء.
1 راجع: فيض الخاطر ج9 ص310-313، طبعة 1955.