الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: علي آدهم 1897-1981
من أعلام الأدب والثقافة العربية، أثرى الكتابة العربية بالعديد من الكتب والمقالات في الأدب والنقد والتاريخ والفلسفة والاجتماع والتراجم. ألف حوالي اثنين وعشرين كتابًا، وترجم تسعة كتب عالمية، وراجع ستين كتابًا، ومن هنا كان علي أدهم موسوعي الثقافة، تقرأ له في التارخي وفلسفته، وفي المؤرخين العرب ومذاهبهم ومناهجهم، وفي الأدب الروسي بوجه عام وله دراسات وترجمات للأدب الغربي ذات ذوق واختيار بديع.
عرف القراء علي أدهم من خلال كتبه التي ألفها، ومقالاته وخاصة على صفحات مجلة "الكتاب العربي" التي رأس تحريرها في الستينات، ترجم للأعلام الأماثل في الشرق والغرب من أمثال عبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، وأبي جعفر المنصور، والمعتمد بن عباد، كشف حديثه عنهم مدى التطور الداخلي لشخصياتهم وعلاقاتهم بتطور أحداث عصورهم.
ويعتبر كتاب "صقر قريش" الذي نشر بجريدة "السياسة" 1923، وجمع في كتاب 1938 من أهم التراجم التي نبهت العديد من الأدباء إلى ترجمة عظماء الإسلام، كما يعد كتابه "محاورات رينان" الذي ترجمه في الثلاثينات من أسبق الكتب الفلسفية المترجمة التي لفت الأنظار فيما بعد إلى ترجمة الكتب الفلسفية1.
يكشف هذا كله عن علم غزير، ومحصول وفير، وذوق رفيع، واختيار بديع، وهذا جوهر ما دار حوله النشاط الفكري والأدبي في الجيل الماضي.
أسلوب علي أدهم:
أثرى علي أدهم وجدان القارئ العربي بكتاباته العميقة، ومقالاته المثمرة التي تعد نموذجًا رفيعًا للأديب العالم في عالم عزت فيه النماذج المثلى في الأدب والفكر والحياة، وصف العقاد وضوح أسلوب علي أدهم في ترجمته لكتاب "مستقبل روسيا" فقال:"إنه استطاع أن يجعل هذا البحث السياسي قطعة أدبية ترضي ذوق الأديب، كما ترضي فكر الباحث المنقب عن تاريخ العالم في عصره الحديث2" وأهم ما يميز أسلوبه ما يلي:
1 من المجموعة القصيصة التي اختارها من عيون الأدب العالمي: فيرانا، والخطايا السبع، وصديق الشدة.
2 راجع: الأهرام، العدد 34371،الصادر في 19/ 1/ 1981.
1-
السلاسة والسهولة والصفاء دون صخب أو ضجيج.
2-
البعد عن التكلف أو الاصطناع أو التعصب أو التحزب.
3-
شمولية النظرة، وإنسانية المذهب، وحرية الفكرة.
4-
علو الذوق، وحسن الاختيار، والتمكن من اللغة التي يترجم عنها أو إليها. مما وفر له إبراز مواطن القوة والمجد فيما تحدث عنهم من شخصيات أجنبية.
5-
الاهتمام الملحوظ بأحداث التاريخ، مع النضوج في تقدير النتائج الأدبية والفنية والغوص في أعماق الشخصيات، والوقوف على نزعاتها، وتقليل ذلك وتفسيره.
1-
الجدة والطرافة على الرغم من كثرة ما كتب، وتنوع ما سطر، وتعدد ما دبج بحيث يقدم مادة أدبية خصبة ملهمة ومثيرة.
وهذا جزء من مقاله "بين الفن والفلسفة" جاء فيه: "بحث العلاقة بين الفن والفلسفة يعني الفيلسوف أكثر مما يعني الفنان؛ لأنه داخل في دائرة اختصاصه، فإن كل نظام فلسفي مطالب بتفسير كل حقيقة وأن يتسع لكل مظهر من مظاهر النشاط العقلي، ولعل هذا هو السبب في أن كثيرًا من الفلاسفة قد أفسحوا للفن مكانًا في فلسفتهم، وخصوه بعناية ملحوظة في بحوثهم، وقد جعل ممثلو نهضة الفكر الألماني في أوائل القرن التاسع عشر كل من يطرق هذه البحوث مدينًا لهم وضيفًا على موائدهم الحافلة، ولا سيما كانت وهجل وشوبنهاور، واشتهر في العصر الحديث مذهب كروتشه أبعد فلاسفة إيطاليا المعاصرين شهرة، وقد أثر مذهبه في الحياة الفكرية برغم ما وجه إليه من نقد".
"الفيلسوف يثير السؤال ويصف المشكل، ويروقه أن يتعاون مع الفنان في استجلاء غوامض الفن، والاهتداء إلى أسراره، ومن الاعتبارات التي تجنح بالفيلسوف إلى الوقوف على تاريخ الفن أنه في كل عصر من العصور ينعكس التصور السائد للحياة الدنيا في الإنتاجات الفنية، فالفن إذن من بعض الوجوه تعبير جميل عن فلسفة العصر".
"ولقد كان بعض الفلاسفة الألمان يرى أن الاستمتاع بالفن رياضة نفسية هامة، وأنه من أقوى وسائل التهذيب ومن أحسن الذرائع إلى التوجيه العلمي والسمو الأخلاقي، وذلك لأن تأمل الجمال يطأ من غلواء الحس، ويجرده من الخشونة والجفوة، ويعلمنا كيف نرقب الأشياء رقابة تأملية هادئة دون أن تغلي نفوسنا حرارة الرغبات، وهذا مما يطلق النفس من أسر المطالب واللبانات ويجعلها قابلة لإدراك القيم السامية: قيم الحق والخير والجمال".
"والمتحضر المثقف لا يكتفي بمشاهدة الحقائق سواء في العالم المادي المتطور أو في عالم الوعي المحجب، ووفقًا لذلك نشأت من ناحية العلوم الطبيعية ومن ناحية أخرى نشأت مذاهب الأخلاق والسلوك والآراء الدينية ونظريات الفن والجمال، والباعث إليها جميعها تلك الضرورة الملحة التي ترغمنا على تفهم الحوادث ودراسة حركات الوعي، وقد روع الباحث كثرة مذاهب الفلاسفة في الفن والجمال، ويرى في عدم انتهائها إلى نتيجة حاسمة دليلًا على قلة جدواها، ولكن يندر أن يستعرض مفكر تلك الفلسفات ولا يقدر ما بها من خواطر مضيئة وأفكار لامعة، وقد لا يخلو من صواب قول ولتر باتر "قيمة فلسفة الفنون كانت في الغالب في الأفكار الموحية النافذة التي وردت خلالها عرضًا" وليست فلسفة الفن ساحة جميلة في أقطار مطروقة وبلاد مأهولة، وإنما هي أشبه برحلة استكشاف يرود فيها الباحثون مجاهل خفية وأقاليم غير معروفة، والتفكير الفلسفي لا يرمي من وراء ذلك إلى تحسين الفن وخلق مقاييس له وإقامة حواجز تحد من حريته، وإنما غرضه إجادة التفكير في الإنتاجات الفنية والوقوف على سر الإعجاب بها والإحساس بجمالها، وربما كانت هذه المحاولة النزيهة أنفس نتائجه وأشهى ثمراته، والذي يقبل على الفلسفة وفي حسبانه أنها ستقدم له المفتاح لكل مستغلق من الأمور وتلقنه كلمة السر التي يعلم بها جيئية مجهول، لا شك واقع تحت تأثير وهم باذخ سرعان ما تتجلى عنه غشاوته ويستفيق من تأثره عند مواجهتها ومعالجة مشكلاتها".
"وقد أصبحت مناطق العلوم بارزة المعالم، والفلسفة تتناول المسائل
للشيء يتركها كل علم وهذا يضفي على الفلسفة أهمية خاصة وينزلها منزلة سامية ويفرض عليها واجبًا خطيرًا، وهي تستمد أهميتها من مختلف العلوم، وتستورد منها الحقائق المقررة والمعلومات الممحصة لتستعين بها في أبنيتها الفكرية وتكوين نظرياتها، فهي إلى حد ما تعيش عالة على العلوم وإن كانت لها وظيفتها الشاقة المستقلة، وتاريخها أبعد أعراقًا في التقدم من تاريخ العلوم وإن لم يكن أقدم من تاريخ الفنون".
"واتجاه الفلسفة إلى معالجة المسائل الخاصة بطبيعة الجمال والفن كان باعثه في بعض الأوقات ارتباطها بمسائل ما وراء الطبيعة، وفي أوقات أخرى ما كان يلاحظ من تأثير الذوق الفني في حياة الفرد وتقدم الحضارة، وقد كثر الالتفات إليها منذ منتصف القرن الثامن عشر، وذلك أن بومجارتن أحد تلامذة الفيلسوف كريستان ولف لاحظ وجود ثغرة في نظام العلوم السائدة، فقد كانت جميع العلوم النظرية يتقدمها بحث ضاف عن استعمال العقل في ضروب المعرفة العلمية، وكان يطلق على هذا البحث اسم المنطق، ولكن إلى جانب هذه المعرفة السامية القائمة على الفهم والنظر فإن للإنسان ملكة أقل شأنًا وأنزل منزلة وهي الإدراك الحسي، وهذه الملكة هي التي تجتلب الحقائق اللازمة لفرع آخر من فروع العلوم وهي العلوم التي قوامها التجربة، فمن الواجب إذن محافظة على الإنسان الفلسفي أن تسبق البحث في هذه العلوم التجريبية فحص محكم دقيق لهذه الملكة، وحاول بومجارتن أن يتعهد هذا العلم ويكفله وينشئه أخًا صغيرًا للمنطق، وقد استرشد في ذلك بأراء الفيلسوف لينبتز؛ لأنه كان يرى أن الجمال هو كمال التصوير الحسي، كما أن الحق هو كمال التفكير النظري، على أن هذا العلم الذي أحاطه بومجارتن لم يقتصر على مسألة الإدراك الحسي بل أصبح شاملًا لنظرية الجمال والاستمتاع به".
وأهم ما يشغل الفلاسفة ويستغرق أكثر جهدهم في المسائل المتعلقة بالفنون هو البحث عن حقيقة الجمال سواء في الفن أو الطبيعة والاهتداء إلى تعريف له، والبحث عن الصلة بين الجمال الذي يطالعنا عند مشاهدة صور جميلة أو رؤية بناء أنيق البنيان أو منظر طبيعي فاتن والجمال الذي ندركه عنه سماعنا منظومة من الشعر الجيد أو قطعة من الموسيقى الشجية، وهل
هناك شيء واحد يبدو من وراء الألوان والخطوط والألفاظ والأصوات؟ وهل الجمال كامن في الأشياء أو أنه متوقف على شعورنا إزاءها؟ وليس غرض الفلسفة تمييز معالم الجمال وتعيين مواقعه وإنما غرضها أشمل من ذلك وهو تحليل صفة الجمال ذاته ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، ويرى البعض أن الجمال غير قابل للتحليل وأنه صفة ملازمة للأشياء الجميلة لا يسبر عمقها ولا يدرك مداها، والذي يجعل قيمة لمثل هذا الرأي هو أن بعض الحقائق العلمية أو التاريخية قد تكون من التعقيد والغموض بحيث تتشعب فيها الآراء ويطول حولها الجدل، وعندما تتوافر المعلومات تتقارب وجهات النظر ويبطل الخلاف، ولكننا نحارب كيف نثبت لإنسان جمال الزهرة أو نقنعه بروعة النجوم ورغم ذلك فإننا نعتقد أنه لا بد أن يكون هناك فيصل بين الحق والباطل في هذه المسائل، والفلسفة لا تكتفي بإرجاع الأمر إلى الذوق وإنما تحاول أن تعلل وتفسر"1.
وبهذا وغيره كان المرحوم علي أدهم رائدًا من رواد الفكر المتنوع والثقافة الموسوعية الشاملة، قرب منابع الثقافة الأوروبية لأبناء العربية. ومن ثم قال العقاد عنه في المقدمة التي كتبها لكتابه "صقر قريش" إنه "رجل يدرس التاريخ ينظر الفيلسوف، ورؤية العالم، وحماسة الأديب، ويعرف مذاهب الفلاسفة العظام في أسرار التاريخ ما ليس يعرفه عندنا غير أفراد معدودين".
1 راجع: بين الفلسفة والأدب ص97-102 طبعة دار المعارف.