الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: إبراهيم عبد القادر المازني 1890- 1949
من أعلام الشعر والفكر والأدب المعاصر، نظم وألف وترجم وكتب في الوطنيات والسياسة والقصة، ومشكلات المجتمع والمرأة والحب والزواج أو العاطفة على مدى ثلاثين عامًا كاملة.
بدأت كتاباته منذ اشتعال الثورة المصرية 1919. وشارك الثائرين في كتابة المنشورات التي تؤجج أوارها حتى هددته السلطات بالنفي والتشريد، ومع ذلك ظل مشتغلًا بالسياسة والصحافة حتى آخر لحظات حياته.
في حياة المازني أحداث ثلاثة، لها أثرها في شخصيته وأعمال فكره وأدبه هي: موت أمه، وإصابه ساقه، وموت زوجته. فعن موت أمه يقول:"إن موتها هدني، فقد كانت أما وأبا وأخا وصديقًا" وعن ساقه يقول: "كان هذا في 1914 فتغيرت الدنيا في عيني، وزاد عمري عشر سنوات في لحظة، وأدركتني الشيخوخة في عنفوان شبابي، فاحتشمت وصدفت مضطرًا عن مناعم الحياة، وملاهي العيش، وغمرت نفسي مرارة كان يخيل إلي أني أحسها على لساني. وعن زوجته يقول: "وها أنا
الآن بين الأحياء لا يدري الناس أني مت منذ سنين، وأني غير متحرك كشمشون ملتون، أو جثة لم تجد من يدفنها، أو صورة باهتة لما كنته في حياتي".
وتحدثنا الدكتورة نعمات أحمد فؤاد عن شخصية المازني رغم هذه الأحداث التي نزلت به فتقول: "إنما تستمد قوتها وأسرها من روحه الأدبية وثقافته الممتازة، لا من مظهره الجسماني أو هيئته، لهذا كله لم تخلف العلة في نفسه المرارة التي خلفتها في نفس "بيرون" وأثارت نقمته على الحياة والناس، بل لعل ساقه التي هيضت في شبابه، كان من أسباب انزوائه واعتزاله وتفرغه للقراءة، مما أتاح له أن يظفر بقدر ضخم من الثقافة وإعمال الفكر والتأمل، وأن يكون واحدًا من الرواد الذين مهدوا لنهضة أدبنا المعاصر، يتميز إنتاجه الضخم بالأصالة والدقة والعمق"1.
أسلوب المازني:
تكشف آثار المازني عن أسلوب مشرق فكه ساحر وساخر، محبب إلى النفس، نابع من ثقافة عريضة، وموهبة قادرة على إذابة العامية في الفصحى، وينفرد بسخرية ناعمة، تجلوها روح الفكاهة المصرية العذبة الخالصة، وأهم ما يميز أسلوبه ما يلي:
1-
البساطة في التعبير، واستخدام المألوف من الألفاظ، والمشهور من العبارات، وإظهار الألفاظ الدارجة في ثوب فصيح.
2-
العناية بالأمثال الشعبية، ورسم صورة للبيئة المصرية عامة، والقاهرية بصورة خاصة، وإيثار الدعابة المساخرة التي تمثل روحه.
3-
جمله قصيرة متلاحقة، وعباراته سلسلة شائقة.
4-
إيثار الألفاظ الغربية في معارض السخرية، أو إظهار المفارقة، أو الإضحاك، فنراه يخاطب المتعالي قائلًا:"أيها الفطحل" ويتحدث عن المتحذلق فيقول إنه من "الجهابزة" وعند امتلاء البطن يقول: "إنه شعر الكظة".
1 راجع: أدب المازني.
5-
تشبيهاته جديدة دقيقة وطريفة فتراه يقول: "أقدم من هرم خوفو" و"معدتي طاعنة في السن كمخلاة قديمة" و"الزواج يشبه لبس الحذاء" و"الأعزب كالذي اعتاد الحفا" و"كانت لا تريد أن تتزوج، وصدقت فما تزوجت لأنها ماتت" و"كان شديد السكر حتى إنه كان يمشي متزنًا" وغيرها كثيرة وعديدة.
6-
المحافظة على الإطار اللغوي في قواعده وتراكيبه ومفرداته.
وهذا جزء من مقاله "بين القراءة والكتابة" جاء فيه: "مضت شهور لم أكتب فيها كلمة في الأدب؛ لأني كنت أقرأ والقراءة والكتابة عندي نقيضان، وقد كنت -وما زلت- امرءًا يتعذر عليه ولا يتأتى له، أن يجمع بينهما في فترة واحدة، ولكم أطلت الفكر في ذلك فلا يفتح الله علي بتعليل يستريح إليه العقل، ويأنس له القلب. وما أظن بي إلا أن الله جلت قدرته قد خلقني على طراز "عربات الرش" التي تتخذها مصلحة التنظيم، وخزان ضخم يمتلئ ليفرغ، ويفرغ ليمتلئ، وكذلك أنا فيما أرى أحس الفراغ في رأس، وما أكثر ما أحس ذلك فأسرع إلى الكتب ألتهم ما فيها وأحشو بها دماغي هذا الذي خلقه الله خلقة عربات الرش كما قلت، حتى إذا شعرت بالكظة وضايقني الامتلاء، رفعت يدي عن ألوان هذا الغذاء، وقمت عنه متثاقلًا متثائبًا من التخمة، فلا يعجبني إلا أن أفتح الثقوب وأسح وهكذا دواليك، وأمري مع الكتب أغرب، كنت في أول عهدي بها أي منذ عشرين سنة، أو نحو ذلك أذهب في أول كل شهر إلى أحد باعتها، فيتقدم إلى العامل سائلا عن حاجتي فأبينها له وعلى شفته -دون عينيه- ابتسامة جهل وغباء ويهز لي رأسه أسفًا، فأنحيه عن الطريق، وأمضي إلى الوقوف، وأجيل عيني فيها، وآخذ منها ما يروقني، وأنصرف عن الحانوت بأثقل من حمل حمار، وأغرق فيها بقية الشهر إلى ما فوق الأذنين، أن كان فوقها شيء يستحق الذكر.
ولكن الزامر يموت وأصابعه تلعب "كما يقول المثل العامي" وللعادة حكم لا يقوى المرء كل حين على مغالبته، والنفس لا تطاوع المرء دائمًا ما يريدها عليه الجمود والتبلد، وقد يزعج نفسه يقضي أيامه بطين الجسد وحده، أو بموتها على الأصح، فإن من الموت أن يستحيل الإنسان جثة خامدة المتقد، لا ينقصها إلا الرمى، وما لا يصلح سلوى ومتعة قد يصلح دواء، ويسير على
من تعود أنه يحس الحياة بأعصابه العارية أن يروض نفسه على التبلد، ويخلد إلى الركود، فلا عجب إذا كنت أقبل على المطالعة حينًا بعد حين1".
وبذا وغيره كان المازني في فكاهاته وسخرياته فنانا رائدًا خلاقًا، عميق الغور، واسع الأفق، انطبعت مختلف مظاهر الحياة المصرية في نفسه، فعبر عن صورها في قوة ووضوح.
وبعد فلعلك أدركت من خلال فصول هذا الباب أن بلاد العروبة حفلت منذ الثلث الأخير من القرن الماضي ينفر من الرواد والمصلحين والأدباء، أثروا الفكر العربي بما بذلوا من جهود، وقدموا من أراء في إصلاح اللغة والدين والسياسة والمجتمع، وترخوا البساطة في التعبير عنها حتى تؤدي الغرض المنشود منها.
ومن الطبيعي أن تتنوع الأساليب وتختلف طرائق التعبير والتصوير، نظرًا لتنوع العلوم التي نهلوا منها، وتعدد الثقافات التي تأثروا بها، وتختلف في نفوس الأدباء، وتطورت تبعًا لها عقولهم، فكان فيهم العالم والأديب والناقد والقاص والمؤرخ والسياسي والمبدع.
ومن هنا برز في المجتمع الثقافي في شتى بلاد العروبة طوائف عديدة في التصوير والتعبير، وكان للغوي أسلوبه، وللمصلح اتجاهاته، ولرجل الدين منحاه، وللعلمي منهجه، وللفني طريقته، وللفلسفي نظرياته، وللساخر تعبيره؛ لأن كل واحد منهم له خطه من الثقافة، وله أسلوبه الذي يميزه عن غيره، وتتضح فيه سماته وقسماته الفارقة، ومميزاته الواضحة.
1 راجع: قبض الريح ص5 وما بعدها.