الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: المقال المعاصر
مدخل
…
الفصل الثاني: المقال المعاصر
عرفنا من قبل أن الذين يخلدون إلى أنفسهم ويتأملون فيما يحيط بهم يحسون بمتعة فائقة، فغذا اجتازوا مرحلة التأمل والاستيعاب، انتقلوا إلى مرحلة التعبير والتصوير، وسبيلهم في ذلك المقال الذي لا يعدو أن يكون فكرة تصيدها من البيئة التي تحيط به، ثم انفعل بها وعبر عنها.
وإذا تأملنا الكتابات في بداية نهضتنا الصحفية الأولى نجد أن قالب المقال طغى على معظم المواد التي تؤلف الجريدة، فجاءت كل من المادة العلمية والأدبية على أنها مقال، ونشر الخبر الداخلي والخارجي على شكل مقال، كما برز الإعلان عن كتاب أو استقبال صحيفة جيدة على أنه مقال. وبذا اختلطت المواد التي تؤلف الصحيفة خلطًا لم يعرف التنظيم والتنسيق، ومرجع ذلك إلى أن رجال الصحافة الأول لم يدركوا المراد بالمقال الصحفي، ولم يفرقوا بين مادة المقال الصحفي ومادة الأخبار والإعلانات وغير ذلك من المواد التي تتألف الصحيفة منها.
ولما كان المقال تعبيرا عن وجدانيات غيرية أكثر منه تعبيرًا عن وجدانيات ذاتية، صعب على الباحث أن يخضعه لنظم معينة أو أسس ثابتة، يلتزم الكاتب بها، وليس بشرط أن يتضمن مقدمة وعرضًا وخاتمة، ولا يعني هذا أن المقال موضوعي إنشائي أو فصل من كتاب أو غير ذلك من الكتابات التي لا تخضع لضوابط تعين عليه وتحقق الغاية منه، وسيظل المقال "لمحة عقلية" كما قال جونسون الإنجليزي: "لا ينبغي أن يكون لها ضابط من
نظام، أو قطعة لا تجري على نسق معين، ولم يتم هضمها في نفس كاتبها، وليس الإنشاء المنظم من المقالة الأدبية في شيء1".
ومع ذلك فيمكن مراعاة أمور عند كتابة المقال من مثل: القدرة على مشاركة من يتحدث عنهم، والعناية بأمورهم الصغيرة والكبيرة، والانفعال والتأثر بما يشعرون به من أمل وألم ورضا وغضب، والتعبير عنه بحيث يساق المقال كالحديث العادي في سهولة لفظه، وقرب معناه، وحسن عرضه، مع ضرورة إقناع القارئ بوجهة نظره، حتى يتخيل أنها وجهة نظر الرأي العام كله في الموضوع الذي يعرض، وعلى الرغم من أن الصحيفة لا تدع للكتاب مجالًا يلاحظ وينفعل ثم يكتب، لكن طول الممارسة يجعل الكتابة الصحفية حرفة لديه، وفنا يملك عليه نفسه، ويستأثر بمحبته.
وعلى الرغم من أن كاتب المقال يشارك الأديب في التأمل والاستيعاب، والانفعال والتأثير، إلا أن بينهما فرقًا كبيرًا، فإذا تأثر الأول بفكرة سجلها مقالًا صحفيا، يخاطب الجماهير به من خلال صحيفة لا تهمله لوحي يأتيه، وبجانب ذلك إلحاح مطبعة الصحيفة عليه ليقدم ما فاض به طبعه، وجاءت به قريحته، ولذا فهو مضطر -دائمًا- أن يظل قرطاسه بين يديه حتى يمد المطبعة والصحيفة بما لا غنى عنه من المادة الصحفية اللازمة. أما الأديب فيطلق العنان لخياله وشعوره وقلمه فيما يكتب لعنايته بنفسه أكثر من غيره، ويمكنه -دون غيره- أن يكتب متى شاء، ويستوحي عاطفته أو عقله متى أراد، ويعاود ما كتبه إذا شاء.
لذا يطلب من الصحفي غير ما يطلب من الشاعر؛ لأنه يخاطب الوجدان ويؤجج المشاعر، والخطيب الذي يلهب الحماس أو يعين برأي في قضايا المجتمع أو مشاكل السياسة، وكذلك الأديب الذي لا يحترف الصحافة؛ لأنه أقرب إلى الشاعر، وإنما يطلب منه أن يتحدث في هدوء ورزانة حديثًا يشعر
1 راجع: جنة العبيط ص6 زكي نجيب محمود.
القارئ بلذة، ويشركه معه في المسائل التي ترتبط بالحياة العامة، وبعرضها عرضًا يحس القارئ خلاله برضاه أو سخطه، ومن هنا اعتبر مؤرخو الأدب أن الصحافة وسط بين الأدب الخالص والحديث العادي، أو هي "أدب غير خالد" لأن قارئ الصحيفة اليومية يتركها دون رجعة، بينما قارئ الفصل الأدبي أو العلمي يعاوده مرة بعد أخرى، من وقت لآخر.
ويعنى المقال المعاصر بالألفاظ والأسلوب، وعلى كاتبه أن يكون سلس العبارة، عذب الحديث، واضح الفكرة، وأن يبتعد عما يجهد ذهن القارئ، أو يلوي عنان فكره. ويلاحظ على كتاب المقال في الصحف التي برزت بعد ثورة الشعب 1919 أنهم أدركوا واقع الحياة الزاخرة بالحركة الذاتية، والسرعة الفائقة، وتنوع الأعمال فيها، فلم يفرطوا في طول ما يكتبون، إذ لم يعد وقت لدى المحامي والطبيب والمدرس والمهندس والعامل والتاجر حتى يتصفحوا المقالات المسهبة في الطول. ومن ثم بدأ الكتاب يسايرون أحداث العصر وتطوره، فمالوا إلى المقالات المركزة التي تناسب فئات الشعب ومعظم طبقاته؛ لأن الصحافة "تحدثنا عن أمور تتصل بحياتنا العامة، وتصف لنا وقائعها، وتنقل إلينا صدى ذلك كله في الناس على اختلاف طبقاتهم، وهي بهذا كله لسان "الرأي العام" وترجمان "الوعي القومي" فإذا أقبلنا على قراءة عدد من أعداد صحيفة من الصحف لم تلبث أن تترك هذا العدد إلى غير رجعة1".
ولقد حفلت فترة ما بين الحربين العالميتين بنفر من الكتاب اهتموا بمجالات الفكر والأدب، عني بعضهم بالمضمون والصورة مثل مصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات وغيرهما، واهتم آخرون بالتحليل في كتاباتهم أكثر من الصورة واللفظ من مثل: عباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني وغيرهما، وأثرت مجموعة ثالثة الصورة الفنية على المضمون من مثل: محمد حسين هيكل، وطه حسين وغيرهما. كما برزت جماعة تعتبر أساتذة الجيل الصحفي المعاصر من أمثال: محمود أبو الفتح 1885-1958، ومحمود عزمي 1889-1954 الذي أسس معهد الصحافة بكلية الأداب، ومحمد التابعي 1895-1976، وفكري أباظة 1897-1979 شيخ الصحفيين المصريين، وعلي أمين 1914- 1977 صاحب "فكرة" في الأخبار وأخبار اليوم، وحافظ محمود المولود في 1917ولا زال يواصل عطاءه الصحفي حتى اليوم، وقد أمد تاريخ الصحافة والإعلام بمؤلفات عدة أهمها: أسرار الصحافة المصرية، وذكريات صحفية، وأسرار الماضي في السياسة والصحافة، ومعارك صحفية.
ويغلب على المقال منذ مطلع هذا القرن أن يكون عرضيا أو نقديا أو نزاليا، وسنضع أمام ناظريك تعريفا ومثالًا لكل لون من هذه الألوان.
1 راجع: أدب المقالة الصحفية جـ1 ص215 عبد اللطيف حمزة طبعة 1964.