الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: مصطفى صادق الرافعي 1880-1937
كاتب بأدق معاني الكلمة وأوسع مدلولاتها، عاش فترة الجدل الأدبي، وتحويل النقد إلى طعن وتجريح، ولوم وتفريع، وأصبح وسيلة للشهرة، وتحطيم الأصنام، وبلوغ الرفعة، وهدم الكيان، ومن هنا أغمط حقه، وغدا أدبه موضع شك وارتياب، ومع ذلك لا يختلف اثنان أنه من الكتاب السلفيين، نقرأ له فيخيل لك أنك تقرأ لكاتب عباسي. يقول سعيد العريان -تلميذه- عنه: "تقرأ له فتحسبه رجلًا من التاريخ، قد فر من ماضيه البعيد، وطوى الزمان القهقرى، ليعيش في هذا العصر، ويصل حياة جديدة بحياة كان يحياها منذ ألف سنة أو يزيد في عصر بعيد
…
"1.
1 راجع: مصطفى صادق الرافعي ص84 للدكتور كمال نشأت. العدد 81 من سلسلة أعلام العرب.
أسلوب الرافعي:
تحقق في أسلوب الرافعي خصائص الأسلوب الأدبي العالي من حيث جمال الإيقاع، وسلامة الجرس، وعروبة اللفظ. يتحدث سعيد الرافعي عن الإيقاع في أسلوب أستاذه الرافعي فيقول: "كانت له عناية واحتفالها بموسيقية القول، حتى ليقف عند بعض الجمل من إنشائها برهة طويلة، ويحرك بها لسانه حتى يبلغ بها سمعه الباطني، ثم لا يجد لها وقعا من نفسه، فيردها وما بها من عيب، ليبدل بها جملة تكون أكثر رنينًا وموسيقى، وكان له ذوقه الخاص في اختيار كلماته، يحسه القارئ في جملة ما يقرأ من منشأته، وكنت أجد الإحساس به في نفسي عند كل كلمة، وهو يملي على هذا الذوق الفني الذي اختص به، هو الذي هيأه إلى أن يفهم القرآن، ويعرف سر إعجازه في كل آية، وكل كلمة من آية، وكل حرف من كلمة، وحسب القارئ أن يعود إلى تفسير الرافعي لقوله تعالى:{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} ليرى نموذجًا من هذا الذوق الفني العجيب، في فهم اللفظ، ودلالة المعنى، يقابله وجه آخر من هذا الذوق في اختيار ألفاظه عند الإنشاء1.
ومن أروع آثار الرافعي -وهي عديدة- المقالات والقصص والأحاديث الدينية التي نشرها في الصحف والمجلات، وضمها كتابه "وحي القلم" وفيها بدت طريقته في الاهتمام بالناحية البيانية وجمال الصياغة، وروعة الديباجة، وتحس خلالها بجمال وجمال، ومتعة وفن. وأهم سمات أسلوبه ما يلي:
1-
يزدحم أسلوبه بالاستعارات والمجازات والكتابات في جدة وطرافة، وإتقان وإبداع.
2-
استلهام لفظة أو عبارة من القرآن الكريم، أو جملة من الحديث النبوي الشريف، أو مثل مشهور، أو بيت شعر مأثور.
1 راجع: المرجع السابق.
3-
الاقتصاد في استخدام بعض ألوان البديع الذي يخدم الجانب المعنوي في توكيد الأفكار كالمقابلة والتورية، والجانب البياني في روعة الصياغة كالسجع والجناس.
4-
تشيع فيه الخواطر النفسية، والمشاعر الإنسانية، والمواقف الإسلامية، والصور الوصفية، والنظرات الإصلاحية، ممزوجة بالطابع العربي الإسلامي.
وهذا جزء من مقال له بعنوان "حقيقة الإسلام" يظهر من خلاله خصائص أسلوبه، يقول فيه:"لا يعرف التاريخ غير محمد صلى الله عليه وسلم رجلًا أفرغ الله وجوده في الوجود الإنساني كله، كما تصب المادة في المادة، لتمتزج بها فتحولها، فتحدث منها الجديد، فإذا الإنسانية تتحول وتنمو، وإذا هو صلى الله عليه وسلم وجود سار فيها، فما تبرح الإنسانية تنمو به وتتحول، كان المعنى الآدمي في هذه الإنسانية، كأنما وهن من طول الدهر عليه، يتحيفه ويمحوه ويتعاوره بالشر والمنكر، فابتعث الله تاريخ العقل بآدم جديد، بدأت به الدنيا تطورها الأعلى، من حيث يرتفع الإنسان عن ذاته، كما بدأت من حيث يوجد الإنسان في ذاته، فكانت الإنسانية دهرها بين اثنين: أحدهما فتح له طريق المجيء من الجنة والثاني فتح الله لها طريق العودة إليها، كان في آدم سر وجود الإنسانية، وكان محمد سر كمالها".
"ولذا سمي الدين "بالإسلام" لأنه إسلام النفس إلى واجبها، أي: إلى الحقيقة من الحياة الاجتماعية، كأن المسلم ينكر ذاته فيسلمها إلى الإنسانية تصرفها وتعتملها في كمالها ومعاليها، فلاحظ له هو من نفسه يمسكها على شهواته ومنافعه، ولكن للإنسانية به الحظ".
"وما الإسلام في جملته إلا هذا المبدأ، مبدأ إنكار الذات و"إسلامها" طائعة على المنشط والمكره لفروضها وواجباتها، وكلما نكصت إلى منزعها الحيواني، أسلمها صاحبها إلى وازعها الإلهي، وهو أبدًا بروضها على هذه الحركة ما دام حيا، فينزعها كل يوم من أوهام دنياها ليضعها ما بين يدي حقيقتها الإلهية، يروضها على ذلك كل يوم وليلة خمس مرات مسماه.
في اللغة خمس صلوات، لا يكون بالإسلام إسلامًا بغيرها، فلا غر وكانت الصلاة بهذا المعنى كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم: هي عماد الدين بين ساعات وساعات في كل مطلع شمس من حياة المسلم صلاة، أي: إسلام النفس إلى الإرادة الاجتماعية الشاملة القائمة على الطاعة للفرض الإلهي، وإنكار لمعانيها الذاتية التي هي مادة الشر في الأرض، وإقرارها لحظات في حيز من الخير المحض البعيد عن الدنيا وشهواتها وآثامها ومنكراتها، ومعنى ذلك كله تحقيق المسلم لوجود روحه، إذ كانت أعمال الدنيا في جملتها طرفًا تتشتت فيها الأرواح وتتبعثر حتى تضل روح الأخ عن روح أخيه، فتنكرها ولا تعرفها".
"وهذا الوجود الروحي هو مبعث الحالة العقلية التي جاء بها الإسلام، ليهدي الإنسانية إليها، حالة السلام الروحاني الذي يحمل حرب الدنيا المهلكة حربًا خارج النفس لا في داخلها، ويجعل ثروة الإنسان مقدورة بما يعامل الله والإنسانية عليه، فلا يكون ذهبه وفضته مما كتب عليه: "ضرب في مملكة كذا" ولكن ما يراه هو قد كتب عليه "صنع في مملكة نفسي" ومن ثم لا يكون وجوده الاجتماعي للأخذ فحسب، بل للعطاء أيضًا، فإن قانون المال هو الجمع، أما قانون العمل فهو البذل"1.
أسلوب الرافعي -كما ترى- مغرق في المحافظة على القديم، وعلى الرغم من تشبثه به فقد تحرر من الحلى اللفظية أو الزخارف البديعية، وجاءت ألفاظه محكمة، ومعانيه دقيقة، وأفكاره طريفه، مما يدل على قدرته وتمكنه من اللغة ووقوفه على أسرارها، ولا عجب في ذلك فقد تمرس بأساليب أمراء البيان في العصور الأولى للأدب.
1 راجع: مجلة الرسالة عدد 15 إبريل 1935.