الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطور الثالث:
نعني به الفترة التي واكبت النضج السياسي، والوعي الاجتماعي، خلال الربع الأول من هذا القرن، نتيجة لتأجج الدوافع الوطنية، وغضب الأمة للاحتلال الإنجليزي، وسيطرة الأتراك، ورغبة الجميع في تحرير الوطن من الأجانب، أضف إلى هذا ما وقع من أحداث، وشب من صراعات، وظهر من اتجاهات، واحتدم من معارك بين الكتاب حول الثقافة الأوربية التي سادت البلاد، وحرية المرأة وتثقيفها، وغير ذلك من الموضوعات التي أدت مناقشتها إلى التماس حل لها. وبجانب هذا كله ظهرت أحزاب ثلاثة -مما كان له أثره البالغ في نمو المقال وتطوره- هي:
1-
الحزب الوطني 1906 بريادة مصطفى كامل، وصحيفته "اللواء".
2-
حزب الأمة 1907 بزعامة أحمد لطفي السيد، وصحيفته "الجريدة".
3-
حزب الإصلاح 1907 بإشراف علي يوسف، وصحيفته "المؤيد".
وأبرز كتاب هذا الطور: مصطفى كامل 1908، وأحمد مفتاح 1911، وعلي يوسف 1913، وجورجي زيدان 1914، وفتحي زعلوك 1914، وحمزة فتح الله 1918، وملك حفني ناصف 1918، وحفني ناصف 1919، وعدلي يكن 1921، ومصطفى لطفي المنفلوطي 1924، وأحمد لطفي السيد 1963.
كان مصطفى كامل يمثل قلب الأمة الخافق. ألهيت مقالاته السياسية النفوس، وأججت المشاعر. جاء في مقال له:"ليقل المصريون للأمة الإنجليزية: إنه إذا كان ساستها قد نسوا أو تناسوا عهودهم ووعودهم، فإننا معاشر المصريين لم ننسها، ليقولوا بحرية وصراحة واستقلال كل ما يعتقدون، وما به يشعرون حتى تعلم الأمة كلها أنها أحياء يناضلون عن حقوقهم، ولا يقبلون الذلة والعار. إن ضياع الاستقلال مصيبة على المصريين، ولكن هناك مصيبة أخرى، وهي وجود أفراد أدنياء، اتجروا بالوطنية حينا، ثم لما يئسوا من نيل الاستقلال العاجل والربح القريب، انقلبوا إلى الاحتلال يعبدونه يتملقونه. هؤلاء هم "المصيبة الكبرى" في مصر، وبهم يستدل أعداؤنا، والمبغضون لأمتنا على موت العواطف فينا
…
".
أما أحمد لطفي السيد، فكان يمثل الجانب العملي، فنراه يعمد إلى توضيح الطريق أمام من يريد أن يتخلص من مشكلة الاستعمار فيقول: "يجب علينا أن نثبت -لا لغيرنا فقط بل لأنفسنا- أننا أحرار متحللون من كل عقال يربطنا عن نيل الحرية، بل أسرى السلطة السياسية، أسرى السلطة المالية، فإذا أعوزنا ان نسترد حريتنا السياسية، فما الذي يمنعنا من العمل لاسترداد حريتنا المالية، وهي لا يستهان بها. إن تحريرنا المالي مسألة سهلة التقرير، ولكنها صعبة التحقيق جدا، معقدة الطرائق إلا إذا شفيت نفوسنا من أوهام الأحلام، وصحت عزائمنا في حلها. كل عمل لحلها ينفع، ولكن أين الذين يريدون الكسب الشخصي وكسب الحرية في آن
واحد؟! يعملون أفرادا إذا لم يتفقوا على العمل جماعات للتسلح، للمزاحمة المالية والمعارك التجارية، كل عمل في هذا السبيل نافع، قليله وكثيره. ينفع ذلك تأليف النقابات الزراعية، ينفع لذلك إنشاء بنك زراعي أهلي "بمعنى الكلمة" ينفع في ذلك أن كل امرئ منا ساعدته الظروف، فصار عنده مال احتياطي "وهذا الصنف عند غير قليل" أن يشتري بماله الاحتياطي سهما من أسهم الدين المصري
…
ينفع في هذا السبيل أن تعضد المحاصيل المصرية بأن نشتريها تفضيلا لها على سواها".
أما الشيخ علي يوسف، فقد كان يمثل عقل الأمة، يحلل في مقالاته كل فكرة، ويقرع الحجة بالأخرى، ويردد على المستر "روزفلت" حين قدم مصر وأيد الاستعمار فيقول:"قد كلف المستر روزفلت نفسه أن يحفظ مثلا عربيا وهو "إن الله مع الصابرين إذا صبروا"1 لينطق بها عربية، ظانا أنه بعد ذلك ينسى له أن يصب الرصاص ذائبا في أدمغة المصريين فيجمد، ولكنه لم يكد ينطق بها حتى ضحك السامعون، وأنا في جملتهم، مصر محتلة بدولة أجنبية يعرف الكولونيل روزفلت أنها قائمة على شئونها قيام الوصي على قاصر غني، فلا الوصي يريد أن يرفع يده عن ذلك القاصر وكل ما يملك، ولا القاصر يستطيع أن يدرك منزلة الرشيد، ما دام الوصي يمنعه من الوصول إليها بمقتضى مصلحته الخصوصية، ألم يكن الأجدر بالكولونيل روزفلت وهو ينصح المصريين أن يصبروا إلى عدة أجيال ليكون الله معهم، أن يوجه لأبناء عمومته المحتلين نصيحة توجه إلى الوصي القوي الطماع، فإذا قيل: إن الخطيب تحاشى ذلك حتى لا يجعل مركز المحتلين حرجا أمام الوطنيين، فكيف سوغ لنفسه وهو يمثل أعظم أمة حرة، أن يجعل مركز الوطنيين حرجا أمام المحتلين".
وبجانب هذه المقالات وغيرها كانت المقالات الاجتماعية لمصطفى لطفي المنفلوطي، مما أدى إلى تطور موضوع المقال، وانطلاق أسلوبه حرا، يعبر عن حاجات المجتمع في سهولة ويسر، ودنا الكتاب من أذواق الناس وعقول المواطنين، وبعد المقال عن الألفاظ الغربية، وحمل من المعنى والبساطة قدر ما كان يحمل من زينة وزخرفة في الماضي.
ومن ثم بلغ المقال قمته في هذا الطور، وأصبح فنا مستقلا يغزو الحياة والمجتمع، وتحرر من وشي الكلفة، وبها رج الصنعة، وخاض معترك الحياة من جميع وجوهها الاجتماعية والسياسية والقومية والفكرية، وبدا هذا واضحا وجليا في نظرات وعبرات المنفلوطي، مع قدرة في التصوير، وبراعة في التحليل، وصحة في العبارة، وسلامة في الأداء.
1 الصواب أن يقال: "آية قرآنية" هي: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} بدون قوله: "إذا صبروا" فليست من الآية.