الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: محمد إبراهيم المويلحي 1858-1930
كانت من الطراز الأول، وفي طليعة الأدباء الذين عرفهم الأدب العربي، ومن أعلام البيان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. أتيح له من عوامل الوراثة والثقافة، ما جعل الأدب يترقب منه عملًا مجيدًا. فوالده إبراهيم المويلحي المتوفَّى 1906، قال الإمام محمد عبده عنه: إنه حافظ العصر؛ لتمكنه من فنون الأدب، وسعة اطلاعه، وقدرته الإنشائية.
ولد محمد المويلحي بالقاهرة، ونشأ في بيت ثراء وأدب، ولم ينل من التعليم سوى الابتدائية، ثم جلب والداه الأساتذه له -كأبناء العلبة- حتى شغف بالمعرفة، واستظهر عيون الأدب، واستفاد من تلمذته على يد جمال الدين الأفغاني، وصحب كبار أدباء عصره، وكان يجيد اللغة الفرنسية والإيطالية، بجانب إلمامه بالإنجليزية واللاتينية. ومن ثم جمع بين الثقافتين العربية العميقة، والثقافة الغربية الحديثة، فجاء أدبه مزيجًا من الثقافتين، كما هو واضح في كتابه "عيسى بن هشام".
أسلوب المويلحي من خلال كتابه عيسى بن هشام:
ترسم المويلحي فيه خطى المجددين في رسم المواقف، وتصوير الشخصيات، وإجراء الحوار الطويل، فاحتل الصدارة في باب الأدب، أو القصة الاجتماعية أو الرحلات، أو صور الحياة أو وصف المجتمع سميه كما نشاء.
والكتاب لوحات مختلفة من المقالات المسجوعة حينًا، والمرسلة حينًا آخر، تعطي صورة جامعة عن مصر خلال القرن التاسع عشر بأهلها
وعاداتها، وموضوعاتها، ومجتمعها، وكل لون من ألوان الحياة فيها، فلم يترك عظيمًا ولا حقيرًا، ولا تاجرًا ولا عمدة، ولا خليمًا ولا محاميًا ولا شرطيًّا إلا صورة أدق تصوير.
يتسم الكتاب بروح مصرية خالصة، تتميز بصدقها ودعابتها، ويجمع بين الترسل والسعي دون تكلف ألوان البديع، وبهرجة الألفاظ وزخرفة الكلام، ولا يعتبر الكتاب قصة بالمعنى الفني الحديث لخلوه من العقدة وترابط الأحداث، وإنما هو شبه قصة لظهور شخصية "الباشا" و"عيسى بن هشام" في كل فصل من فصوله، وينفرد المويلحي بإنشائه الرفيع، وتعبيره الصادق، وأسلوبه الأدبي الجميل، ودقته وملاحظته، ونظرته الفاحصة في أصول المجتمع، وأهم ما يميز أسلوبه في إطاره اللغوي:
1-
اللجوء إلى الأسلوب القصصي المسجوع في الوصف الخالص، وإلى الأسلوب المرسل في الحوادث والحوار.
2-
تمتاز سجعته بالمتانة، وآراؤه بالبراعة، وتعبيره بالقوة، وتصويره بالجمال، فيأتي أسلوبه محكم الأسر، متين الحبكة.
3-
السهولة والوضوح -أحيانًا- حتى يقترب إلى حد كبير من الحديث الصحفي المباشر.
4-
يتسم بروح نقدية بناءة، دون التعرض لحرمات أي شخص، بجرأة فائقة، وحرية تامة، وبصيرة نافذة.
5-
استخدام بعض الكلمات الدخيلة إذا اقتضتها ضرورة، أو فرضتها ظروف، أو حين التندر.
6-
يتميز بقوة الملاحظة، وشدة التغلغل في صميم الحياة خاصة ما يتعلق بمصالح الجماهير، ويرتبط بها ارتباطًا قويًّا.
7-
كثرة الاستشهاد بشعر أبي العلاء المعري.
برسم المويلحي في كتابه "عيسى بن هشام" صورًا بارعة، ومن بديع رسوم صورة "المحامي الشرعي" الذي قصده "المنيكلي" مع
"عيسى بن هشام" للمطالبة بوقف له، ويدور الحوار بين المحامي وعيسى بن هشام على هذه الصورة الفريدة.
المحامي: قولا لي: ما حقكم في الوقف؟ وما شرط الواقف؟ وكم يقدر ثمن العين؟ لتقدر الأتعاب بحسبه.
عيسى بن هشام: إن لصحابي هذا وقفًا، عاقته عنه العوائق. فوضع سواه عليه يده، ويريد رفع الدعوى لرفع تلك اليد.
المحامي: سألتك: ما قيمة العين؟
عيسى بن هشام: لست أدري على التحقيق، ولكنها تبلغ الألوف.
المحامي: لا يمكن أن يقل مقدم الأتعاب حينئذ عن المئات.
عيسى بن هشام: لا تشطط أيها الشيخ في قيمة الأتعاب، وارفق بنا، فإننا الآن في حالة عسر وضيق.
غلام المحامي: وهل ينفع في رفع دعوى اعتذار بإعسار؟ ألم تعلم أن هذا شغل له اشتراكات، ولكتبته والمحضرين "تطلعات" وأنى لكما بمثل مولانا الشيخ، يضمن ربح الدعوى، وكسب القضية بما يهون معه دفع كل ما يطلبه في قيمة أتعابه، وهل يوجد مثله أبدًا في سعة العلم بالحيل الشرعية، ولطف الحيلة في استمالة محامي الخصم، واسجلاب عناية القضاة.
عيسى بن هشام: دونك هذه الدراهم التي معنا. فخذها الآن وتكتب لفا صكا بما يبقى لحين كسب القضية، وليس يفوتك شيء من ذلك ما دام ربحها مضمون لديك على كل حال.
المحامي: بعد أن استلم الدراهم يعدها، أنا أقبل منك هذا العدد القليل ابتغاء ما ادخره الله لعباده من الأجر والثواب في خدمة المسلمين، وعليك بشاهدين للتوكيل"1.
1 راجع: حديث عيسى بن هشام ص58، 59 طبعة 1969.
ويتوالى الحوار على هذه الصورة، فتقف على طباع المحامين الشرعيين، وطرق احتيالهم، لم يسجع المويلحي في هذه القطعة على طريقة المقامات، ومضى في وصف المحكمة الشرعية حين وصلها "عيسى بن هشام" مع صاحبه على هذا النمط فيقول:
"ولما وصلنا إلى هذه المحكمة وجدنا ساحتها مزدحمة بالمركبات، تجرها الجياد الصاهلات، وبجانبها الراقصات من البغال والحمير، عليها سرج الفضة والحرير، فحسبناها مراكب العلماء والأمراء في بعض مواكب الزينة والبهاء وسألنا: لمن هذه الركاب؟ فقيل لنا: إنها لجماعة الكتاب، فقلنا: سبحان الملك الوهاب، ومن يرزق بغير حساب، ونحونا نحو الباب في تلك الرحاب، فوجدنا شيخًا حنت ظهره السنون، فتخطته رسل المنون، قد اجتمع عليه القمش والصمم، ولحج به الخوف، وعلمنا أنه حارس بيت القضاء، من نوازل القضاء، ثم صعدنا في السلم فوجدناه مزدحمًا بأناس مختلفي الأشكال والأجناس، يتسابون ويتشاتمون ويتلاكمون ويتلاطمون، ويبرقون ويرعدون، ويتهددون ويتوعدون، وأكثرهم أخذ بعضهم بتلابيب بعض، يتصادمون بالحيطان، ويتساقطون على الأرض، وما زلنا نزاحم على الصعود في الدرج والعمائم تتساقط فوقنا وتتدحرج، حتى من الله علينا بالفرج، ويسر لنا المخرج في وسط الجمع المتلاحق، والمأزق المتضايق"1.
وأوضح في الوصف -كما ترى- محاولة الإغراب باللفظ الفصيح، والسجع الرائق، وكأن المويلحي يعرض مهارته البيانية، وله في ذلك طرائف حين يصف روضًا أو هرمًا أو صبحًا، اسمعه يقول:
"جلسنا نتجاذب أطراف الحديث من قديم الزمان وحديث، إلى أن صارت الليلة في أخريات الشباب، واستهانت بالإزار والنقاب، ثم دب المشيب في قودها، وبان أثره الواضح في جلدها، فبعثت بالعقود والقلائد
1 راجع: المصدر السابق ص67 وما بعدها.
من الجواهر والفرائد، ونزعت عن صدرها كل منثور ومنظوم، من أزر الكواكب ولآلئ النجوم، وألقت بالفرقدين من أذنيها، وخلعت خواتيم الثريا من يدها، ثم إنها مزقت جلبابها، وهتكت حجابها، وبرزت للناظرين عجوزًا شمطاء، ترتعد متوكلة على عصا الجوزاء، وتردد آخر أنفاس البقاء، فسترها الفجر بملاءته الزرقاء، ودرجها الصبح في أرديته البيضاء، ثم قبرها في خوف الفضاء، وقامت على بنات هزيل نائحة بالتشنج والترتيل، ثم انقلب المأتم في الحال إلى عرس اجتلاء، وتبدل النحيب بالغناء لأشرق عروس النهار وأسفار مليكة البدور والأقمار".
حاول المويلحي في هذا الوصف أن يضع قطعة أدبية على غرار الطريقة القديمة التي يُعْنَى أصحابها بسرد عبارات مختارة دون تحديد ما يصنعون، وكأنه يصف كل صباح وتأثيره في نفسه تأثيرًا خامسًا، فأفرده بالوصف الدقيق، والتصوير الرائع، والتعبير البليغ.
"ومن الحق أنه وسع جنيات المقامة القديمة التي كانت تعتمد على مثل هذا السرد اللفظي في قطعة الصباح، وخرج بها إلى حوار واسع، فأثر فيه طريقة الغربيين في قصصهم. فالحوادث تتطور، والشخصيات تصور نزعاتها النفسية في المواقف المختلفة، ومن حين لآخر تشاهد ضروبًا من الصراع، كما تشاهد ضروبًا من السخرية المستمدة من طباع الشخصيات، ومن مفارقات الحوادث ومفاجآتها. وهو في حواره وشخصياته وحوادثها، يستمده من الواقع المحلي، ونظم البيئة المصرية إلا أن ذلك كله وضع في إطار المقامة الضيق بسجعه"1.
وهكذا عني نفر من الكتاب في مطلع هذه النهضة بالألفاظ العربية الفصيحة التي لا تدور على الألسنة كثيرًا، ولم تألفها الأسماع إلا قليلًا، واتخذوا إطارًا لغويًّا في كتاباتهم، وما فاضت به خواطرهم، ودبجه
1 راجع: الأدب العربي المعاصر في مصر ص 241 د. شوقي ضيف، الطبعة الثالثة.
أقلامهم، وجادت به قرائحهم، ولا ينكر باحث دورهم في العناية باللغة والمحافظة عليها، وإزالة العقبات في طريق نموها وارتقائها والنهوض بها، حتى تواكب اللغات الحية في جميع العلوم العصرية.
وبهذا تدرك حرص هؤلاء الرواد وغيرهم على إثراء اللغة العربية ببعث دفائنها، ووضع المصطلحات لمستحدثاتها، حتى تنمو عن طريق استعمال الألفاظ والأساليب الفصيحة التي لم يألفها معاصروهم من الكتاب.