الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثامنا: ابن خلدون 732-808ه
ـ
هو ولي الدين بن عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن خلدون، صاحب العقلية المتأملة المتفهمة للحياة، الدارسة للتاريخ الإسلامي وفلسفته دراسة عميقة جديرة، تتناول المجتمعات وخصائصها، والطبائع ووقائعها، والتاريخ وأهدافه وعلله.
ترك ابن خلدون آثار عديدة -تدل على عبقريته ومظاهر عظمته- في علم الاجتماع والتاريخ والترجمة الشخصية والكتابة العربية، وعلم النفس التربوي والتعليمي وعلوم الحديث. وأشهر مؤلفاته "المقدمة" التي تضمنت موضوعات اجتماعية لا تزال حتى اليوم نماذج حية، وصورا صادقة تنير الطريق أمام الدارسين، وكأنه كان يكتب بلغة عصرنا، وأسلوب مفكريه.
اجتماعياته:
تطلق "المقدمة" لابن خلدون على المجلد الأول من المجلدات السبعة التي
تؤلف كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، أنشأ فيها ما نسميه اليوم "علم الاجتماع"، وضمنها ما لم يستطيعه أحد قبله أن يأتي بمثله، بل عجز العديد من بعده أن يصلوا إلى شأوه. وتدل بحوثها على رسوخ قدمه في طائفة كبيرة من العلوم، فلم يترك أي فرع من ضروب المعرفة إلا ألم به حتى في فنون السحر، وأسرار الحروف والزيرجة والطلسمات.
ويعتبر موضوع ابن خلدون الذي حلل فيه أسباب شجاعة البدو، وخواص القبيلة والعصبية فيهم، وجبن أهل الحضر، ومظاهر حياتهم من أمثل النماذج على المقال الحديث يقول:
"والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألفوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم، والحاملة التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم، والحرز الذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيقة، ولا ينفر لهم صيد، فهم غارون آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم حتى صار ذلك خلقا يتنزل منزلة الطبيعة.
وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب، قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونهم إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم، فهم دائما يحملون السلاح، ويتلفتون عن كل جانب في الطرق، ويتجافون عن الهجوع إلا غرارا في المجالس وعلى الرمال فوق الأقعاب، ويتوجسون للنبات والهيقات، وينفرون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البائس خلقا، والشجاعة سجية، يرجعون إليها متى دعاهم داعٍ، أو استنفرهم صارخ.
وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم، لا يملكون معهم شيئا من أمر أنفسهم، وذلك مشاهد بالعِيَان حتى
في معرفة النواحي والجهات وموارد الحياة ومشارع السبل، وسبب ذلك ما شرحناه، وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه، فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خلقا وملكة وعادة تنزل منزلة الطبيعة والجبلة، واعتبر ذلك في الآدميين نجده كثيرا صحيحا، والله يخلق ما يشاء"1.
النص -كما هو واضح- يدل على عمق ابن خلدون في بحث أحوال المجتمع، ومعرفة البيئة وأثرها على الناس، ويهدف في المقام الأول إلى كشف النقاب عن حقائق تتعلق بحياة البدو والحضر بأسلوب رائق، وعبارات واضحة، وأفكار مترابطة، وصور متآخية، وهذا ما يجب أن يتحقق في المقال الحديث.
وبعد فتلك صور أدبية أخاذة رائعة، زخر النثر الفني بها على امتداد عصوره، تناولت أشياء مختلفة من الفكر والاجتماع والسياسة والأدب والنقد، وجاءت تعبيرا عن أفكار الأدباء الشخصية والموضوعية في موضوعات محددة، وصور مركزة، وأفكار واضحة، تشبه المقال في مفهومه الحديث، وتقترب منه إلى حد كبير.
وليس باللازم أن يسير الأدب العربي في فنونه وألوانه على نسق الآداب الغربية؛ لأن لكل أدب مميزاته وخصائصه التي تختلف عن غيرها زمانا ومكانا وطبيعة. وفيما قدمنا من نماذج لما يؤكد أن العرب منذ مطلع القرن الثاني الهجري قد قدموا في نطاق تعبيرهم الأدبي رسائل وفصول وكتابات وأوصاف أدت ما أداه المقال في الآداب الأوربية.
ولو ابتعد أدباء القرن السادس الهجري عن تكلف البديع، وتركوا العناية بالزينة، وابتعدوا عن البهرجة اللفظية، وانطلقوا في كتاباتهم دون قيد، لكانت الرسالة الأدبية المثل المبكر الحي للمقال الأدبي، وأمدتنا بثروة من الأبحاث الخلقية والاجتماعية؛ لأنها وغيرها تداولها الناس مكتوبة في كراسات، كما نطالع اليوم المقالات في الصحف والمجلات.
1 راجع: المقدمة ص125 طبعة المكتبة التجارية.
ومن الإنصاف لأسلافنا وتراثنا الأدبي، أن ندرج كل ما يدور حول موضوع معروف، ويرمي لغاية تحت الأدب المقالي الهادف الذي يبغي غاية خلقية أو اجتماعية وغيرها حتى ننصف الأدباء السابقين؛ لأنهم دبجوا في شئون الفرد وأحوال المجتمع؛ ولذا قال الدكتور محمد عوض محمد:"المقال قد تطورت أركانه في ذلك العهد، وسما بنيانه، وليس ظهوره إلا عودة الأصول العربية التليدة"1.
1 راجع: محاضرات في المقال الأدبي.