الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: كتاب "الإسلام وأصول الحكم
"
مؤلف هذا الكتاب الشيخ علي عبد الرازق 1888-1966 تلميذ الإمام محمد عبده، والحائز على العالمية من الأزهر الشريف 1911.التحق بجامعة "اكسفورد" للحصول على درجة علمية في الاقتصاد والعلوم السياسية، لكن الحرب العالمية حالت دون تحقيق رغبته فعاد لمصر، وأقام زمنًا بالأسكندرية ألقى خلالها دروسًا في الأدب العربي وتاريخ الإسلام بالمعهد الأسكندري، وعمل بالقضاء الشرعي 1915، وظل به حتى فصل 1925 بعد نشر كتابه هذا، وتولى وزارة الأوقاف مرتين: الأولى في وزارة النقراشي والثانية في وزارة إبراهيم عبد الهادي 1947. كانت تربطه صداقة وطيدة بالدكتور محمد حسين هيكل، دعمها انتماؤهما لمدرسة التجديد التي ضمت أكثر المنادين بالتجديد والتحرر في الفكر الغربي الإسلامي.
أثار الكتاب منذ نشر 1925 معركة دينية وفكرية وسياسية؛ لأنه هاجم الخلافة الإسلامية والنظام الملكي في صراحة وجرأة، ومما جاء فيه:"والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيئوا حولها من رغبة ورهبة وعزة وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرها من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نص عليها، إنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة" واستند في هدم الخلافة على الأدلة التالية:
1 راجع: المنار ص206 الصادر في 21 يوليو 1925.
أولًا: الخلافة هي الرياسة العامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده مع الالتزام بحدود الشرع، مؤكدًا أن الأدلة في تأييد الخلافة لا تكفي لفرض هذا الحكم أو تأييده على الأقل1.
ثانيًا: خلو القرآن والسنة من العبارات التي تؤيد الخلافة تأييدًا صريحًا، بحيث يلتزم المسلمون، ويقرر أن الخلافة لم توجد بالإجماع، ولم تقم بعد أبي بكر وعمر وعثمان على الاختيار الحر، وإنما قامت على السيف "فلذلك الذي يسمى عرشًا لا يرتفع إلا على رءوس البشر، ولا يستقر إلا فوق أعناقهم، وذلك الذي يسمى تاجًا لا حياة له إلا بما يأخذه من حياة البشر، ولا قوة إلا بما يغتال من قوتهم2".
ثالثًا: يرى أن الرأي القائل بتنصيب الإمام أو الخليفة، يتوقف على إظهار الشرائع الدينية وصلاح الرعية فيقول: "معاذ الله
…
لا يريد الله جل شأنه لهذا الدين الذي كفل له البقاء أن يجعل عزه وذله مرتبطين بنوع من الحكومة، ولا يصنف من الأمراء! ولا يريد الله جل شأنه بعباده المسلمين أن يكون صلاحهم وفسادهم رهن لخلافة ولا تحت رحمة الخلفاء3". ويذهب إلى أن القرآن الكريم لم يحدد شكلًا معينًا من أشكال الحكومة.
رابعًا: الأنظمة والقواعد التي شرعها الإسلام ليست من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وإنما هو شرع ديني خاص لمصلحة البشر الدينية، فلا حاجة لنا في الخلافة في أمور الدين أو الدنيا؛ لأن الخلافة كانت وما زالت نكبة على الإسلام والمسلمين.
1 راجع: الإسلام وأصول الحكم ص65-66.
2 راجع: المصدر الساق.
3 راجع: الإسلام وأصول الحكم ص65-66.
خامسًا: لا حاجة لزعيم يخلف محمدًا في زعامة إسلامية؛ لأنه رسول نبي فقط، واستدل من القرآن بخمس وأربعين آية منها:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} 1 وأكد من السنة النبوية أن محمدًا -كالرسل- ليس ملكًا ولا مؤسس دولة، وخلص إلى الأسباب التي أدت إلى تسمية أبي بكر ومن جاء بعده بلقب "الخليفة" ثم استغل من جاء بعدهم كلمة "الخلافة" لما يحيط بها من قداسة، فتمسكوا باللقب ليحموا مقاصدهم من الثائرين.
وختم المؤلف كتابه قائلًا: "وتلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين أضلوهم عن الهدى، وعموا عليهم وجوه الخير، وحجبوا عنهم مسالك النور باسم الدين، وباسم الدين أيضًا استبدوا بهم وأذلوهم، وحرموا عليهم النظر في علوم السياسة، وباسم الدين خدعوهم وضيقوا على عقولهم، فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعًا"2.
أثارت هذه الآراء عاصفة هوجاء، واشتد الجدل حولها، وهاجمت قوى عديدة الكتاب وصاحبه. وكانت بداية لكثير من الدراسات والمؤلفات عن مبادئ السياسة ونظام الحكم في الإسلام، ونشط رجال الدين فألفوا الكتب، ونشروا المقالات من أمثال:
1-
كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم لشيخ محمد الخضر حسين.
2-
كتاب "نقض علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم لمحمد طاهر بن عاشور مفتي المالكية في تونس".
3-
كتاب "حقيقة الإسلام وأصول الحكم" للشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية.
1 راجع: المصدر السابق ص85-103.
2 راجع: المصدر السابق ص85-103.
4-
كتاب "نظام الحكم في الإسلام" لمحمد يوسف موسى.
5-
كتاب "النظريات الإسلامية السياسية" لضياء الدين الريس.
6-
كتاب "الحكومة الإسلامية" لمحمد حسين هيكل.
7-
كتاب "الإسلام والسياسة" لحسين فوزي النجار.
8-
كتاب "الدولة والإسلام" لخالد محمد خالد.
9-
كتاب "ثلاث معارك فكرية" لمختار التهامي. وتدور موضوعات هذا الكتاب حول كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين، وكتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين، وكتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق.
ومما أضعف موقف هؤلاء العلماء حرصهم على إرضاء الملك فؤاد. أهدى الشيخ محمد الخضر حسين كتابه على النحو التالي: "إلى خزانة حاضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم، راجيًا أن يتفضل عليه بالقبول، والله يحرص ملكه المجيد، ويثبت دولته على دعائم العز والتأييد" في الوقت الذي صدر علي عبد الرازق كتابه بقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله، ولا أعبد إلا إياه، ولا أخشى أحدا سواه".
وانتهى الأمر بمحاكمة علي عبد الرازق أمام هيئة من كبار العلماء بالأزهر، وإخراجه من زمرتهم، وإقصائه عن القضاء، وتجريده من العالمية التي تؤهله للوظائف الحكومية، ولعب المقال دوره في هذه المعركة الفكرية التي خاض غمارها نفر من الكتاب بين ميؤدين ومعارضين، كتب طه حسين مقالًا ساخرًا يهنئ الشيخ بخروجه من زمرة الأزهريين ونشرته صحيفة "السياسة" يقول فيه:"إيه أيها الطريد من الأزهر، تعال إلي نتحدث ضاحكين من هذه القضية المضحكة، قصة كتابك والحكم عليه وعليك وطردك من الأزهر. ما بال رجال الأزهر لم يقضوا على كتابك بالتمزيق، فقد كان يلذنا أن نرى نسخه في صحن الأزهر أو أمام "باب المزينين" -اسم حارة في حي الأزهر- أو في ناحية من هذه الأنحاء التي لا يأتيها ولا يصل إليها المنكر ولا يسمى الأخيار والأبرار، ثم تضرم فيها النار
…
ودعنا نتحدث في حرية ولا تكن أزهريا، فقد أخرجت من الأزهر، ثم تعالى نجد،
فقد آن لنا أن نجد، ما هذه الهيئة التي أخرجتك من الأزهر؟ وما سلطتها الدينية على أي آية من كتاب الله، أركن هي من أركان الإسلام كالإمامة، كلا إنما هي بدعة لا يعرفها القرآن الكريم، ولا تعرفها السنة المطهرة ولا النظم الإسلامية، وهي بدعة فليس تحكمها صفة دينية، ومن قال غير ذلك فهو آثم؛ لأن هذا النظام يشبه أن يكون من نظم النصارى لا من نظم المسلمين، للنصارى مجلس للأساقفة، ومجلس للكرادلة ولهم باب، أما نحن فليس لنا من هذا كل شيء، فسلام عليك أيها الطريد، وإلى اللقاء"1.
وكتب الشيخ علي عبد الرازق عقب حكم هيئة كبار العلماء عليه بصحيفة "السياسة" فقال: "لا جرم أننا تقبلنا مسرورين إخراجنا من زمرة العلماء، وقلنا كما يقول القوم الذين إذا خلصوا من الأذى قالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الأذى وعافانا"2.
ودافع محمد حسين هيكل عن الكتاب وصاحبه فقال: "وماذا نقول في عالم من علماء الإسلام يريد ألا يكون للمسلمين خليفة في وقت يطمع فيه كل ملك من ملوك المسلمين، وكل أمير من أمرائهم في أن يكون خليفة؟ ثم ماذا تقول في عالم مسلم مصري يقول بوجوب ارتباط مصر وإنجلترا برباط الصداقة، ويذهب في ذلك مذهب المتطرفين ثم يقف في وجه إقامة خليفة، وأن يكون هذا الخليفة واحدًا من الملوك والأمراء الواقعين تحت نفوذها؟! أو لم يكن الأولى له والأجدر به أن يترك الخلق للخالق حتى ينام الخليفة فيرضى أمير، وأن غضب أمراء! وترضى إنجلترا. وقد يكون في رضاها ما يقرب المسائل المعلقة بيننا وبينها؟! ما أظن واحدًا من أصدقاء الشيخ علي عبد الرازق، بل ما أظن الشيخ نفسه إلا يرى أمام هذه الاعتبارات. أن الشيخ قد أخطأ خطأ بينا يستحق عليه المحاكمة؟! "3.
1 راجع: أخبار اليوم العدد 1825 الصادر في 3 مايو 1980.
2 راجع: المصدر السابق.
3 راجع: السياسة العدد الصادر في 23 يوليو 1925.
وأدرك الناس أن القضية سياسية في المقام الأول، ولكنها ليست ثوبًا دينيا، يقول المرحوم عبد الرحمن الرافعي في كتابه "في أعقاب ثورة 1919""أن كتاب الإسلام وأصول الحكم كان في ظاهره يعارض الخلافة الإسلامية، أما في حقيقته فإنه يعارض النظام الملكي، وقد هاجمه الملك والحكومة بأساليب تستثير العواطف الدينية، ولكن الرأي العام كان أنضج من أن يتأثر بالدعاية الدينية التي كثيرًا ما يستخدمها دعاة الحكم المطلق وسيلة للتضليل بالشعب، فلم يكترث لهذه الدعاية التي ليست من الدين في شيء، وذلك على تقدمه في الوعي السياسي والديني معًا، وظل منكرًا متهاونًا لهذا النظام الذي أهدر حقوقه السياسية".
وبلور الدكتور محمد حسين هيكل -في تلك الفترة- مفهوم "حرية الفكر" من خلال مقالاته التي نشرتها صحيفة "السياسة"، وأروع مقالاته المقال الذي كتبه بعد صدور الحكم على الشيخ علي عبد الرازق بعنوان "بعد قرار العلماء" خاطبه فيه في أسلوب ساخر فقال:"تعال نضحك فقد كان كتابك مصدرًا لتغير الأرثوذكسية في الإسلام1، ولست أنت الذي غيرها أيها الطريد المسكين، وإنما غيرها الذين طردوك وأخرجوك من الأزهر نعم كان أهل السنة، وما زالوا يرون أن الخلافة ليست ركنًا من أركان الدين، وأن الشيعة فسقوا حين عدوها كذلك، فلما قلت للناس في كتابك ما أجمع عليه أهل السنة، غضب عليك أهل الأزهر، ورموك بالابتداع والإلحاد، وأخذوا يقولون: إن الخلافة أصل من أصول الدين، وقد كنا نعلم أن القاهرة مركز أهل السنة وموطن الأشاعرة ومستقر الأرثوذكسية الإسلامية، فسبحان من يغير ولا يتغير: أصبحت "القاهرة" "كطهران" مركز الشيعة، وإنها بناء صلاح الدين؟! ولم لا؟
…
الشيعة هم الذين بنوا القاهرة وهم الذين بنوا الأزهر وشيدوه، أليس الفاطميون هم الذين أنشئوا المدينة ومسجدها الجامع؟ فأي عجب أن تعود مدينة القاهرة شيعية كما كانت يوم أسسها الفاطميون؟! وأي عجب في أن يعود الأزهر شيعيا كما كان يوم بناه الفاطميون؟! "2.
واستمر هيكل يدافع عن حرية الرأي اعتمادًا على ما قرره الدستور، حتى تسود البلاد وتستقيم الأمور.
وعلى أي حال فقد كان كتاب "الإسلام وأصول الحكم" نقطة تحول في البحث عن الإسلام والسياسة بعد أن انقطع الحديث عنهما قرونًا منذ ابن تيمية وابن حزم وابن خلدون وغيرهم، وبدأت المكتبة المصرية تحفل بالكتب القيمة التي بسطت المبادئ والقواعد المتعلقة بشئون الدولة الإسلامية، كما كان الكتاب نقطة انطلاق شارك فيها علماء الدين وكبار الساسة وأصحاب الفكر بمقالاتهم، فاتسعت دائرة الجدل، ولم يعد الموضوع الأساسي هو الخلافة الإسلامية، وإنما أصبح موضوع الدولة في نظر الإسلام دينا وشريعة وتاريخًا.
1 يعني "المذهب السني" المحافظ.
2 راجع، السياسة الصادرة في 14 من أغسطس 1925.