الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثامنًا: مي زيادة 1897-1941
كاتبة تتمتع بعقلية نادرة، وقدرة فائقة، وطريقة فاذة في الكتابة والخطابة، لقبها أدباء عصرها بالنابغة، أحدثت في الصحافة نشاطًا لم تسبق فيه، فقد ابتكرت في السياسة الأسبوعية -عند إنشائها- 1926بابًا أطلقت عليه "خلية النحل" يتضمن أسئلة القارئات والقارئين، ويتولى غيرهم الرد عليها، واهتمت باختيار الأسئلة والأجوبة، وصاغتها صياغة لائقة، جذبت القراء في الإقبال على هذا الباب، مما روج الصحيفة.
جذب صالونها الأدبي منذ العشرينات حتى الأربعينات الأدباء والمفكرين من مصر وبلاد العروبة، وكانت "مي" فيه البلبل المغرد، وكعية الخيال لكل رواده الذين أحبوها جميعًا. صنفت حب الرجال لها بأنه حب تختلط فيه مشاعر الأبوة بالأخوة، والصداقة العقلية بالصداقة النفسية، وكانت تكسب عواطفهم دون أن يكسبوا شيئًا منها، فهام الجميع يتغزلون فيها دون أن يجعل أحدهم غزله فيها عاريًا أو جارحًا. ومن هنا لم يتمكن محلل لحياة "مي" أن يحدد أفضل الرجال عندها، وتلك إحدى عبقرياتها التي جعلتها وضوحًا في صداقتها، وأكثر ما تكون عوضًا في أحاسيس الصداقة من جانبها.
أرخ الرجال الكتاب عنها من أمثال: عباس محمود العقاد، ومصطفى صادق الرافعي، وجبران خليل جبران، ومنصور فهمي، وكامل الشناوي، وطاهر الطناحي وغيرهم ممن اهتموا بحياتها بعد وفاتها.
أسلوب مي زيادة:
مي زيادة أديبة مقال تكتبه من وحي إحساسها الفني وبصيرتها الناقدة، وتأملاتها الذاتية والجباتية، ولذا يشف أسلوبها عن ثقافتها الفكرية والروحية، ويدل عليها، ويحتفل بتنسيق الأداء والإتقان والجودة وينساب حسب أفكارها، وينم عن الرصانة وسعة الثقافة، وصفت "مي"
زيادة" الكاتب الحق في حديثها عن صاحبتها "باحثة البادية" فقالت: "ليس بكاتب من كان ينقصه ما يسميه الإفرنج "قماش الكاتب" أي: السر الذي يقود الفكر إلى اختيار الألفاظ الصائبة، ويعرف صياغة الجملة الملائمة1". وعلى أي حال فأسلوب مي زيادة يتميز عن غيره بما يلي:
1-
اختيار الألفاظ ذات الجرس المؤثر الملائمة، والعبارات الأنيقة الرشيقة الموائمة، والجمل الواضحة -التي لا لبس فيها- المناسبة.
2-
يحفل بتوازن العبارات في موسيقى عذبة هادئة، وتنسيق الجمل في وحدات مترادفة متساوية دون ملل أو رتابة.
3-
تتراوح نغماته بين الشدة واللين، والقوة والضعف، تبعًا لتغير الموضوعات واختلافها، ومع ذلك تجده مشرق أخاذ لتعبيراته رنين عذب وجرس خلاب.
4-
يتسم بالوضوح والسلاسة، وينم عن عناية فائقة بالصقل والتهذيب، وحرص على الجودة والإتقان.
5-
أقرب إلى المحسوس الداني منه إلى الخيال البعيد في لوحة مصورة وملحنة ومقسمة الكلام على تقاسيم شعر خفي تتحرك به النفس.
وهذا جزء من مقال لها عنوانه "كلمات في الصداقة" جاء فيه: "قد تبدو هذه الكلمات غريرة للذين لا يرون في الصداقة إلا وسيلة نفعية تعود على كل المرتبطين بها بفائدة محسوسة كالظهور بمظهر العظمة، أو التمكن من دحر منافس أو التعاون على الإساءة إلى شخص أو أشخاص، أو جني ثمرة ملموسة، وتحقق غرض مالي أو اجتماعي".
"ونخطئ إذا نسبنا إلى أهل هذا العصر وحدهم الصداقة المغرضة؛ لأن تلك كانت شيمة الكثيرين في جميع العصور، وعند جميع الأقوام،
1 راجع: باحثة البادية لمي زيادة.
قد تكون في هذا العصر أكثر شيوعًا، وإنما نحن أشد شعورا بها؛ لأننا نعيش في وسطها، ويجبهنا وجهها المخادع أنى توجهنا، فإذا أنت طلبت من الصداقة شيئًا غير تلك الفوائد المتداولة، إذا طلبت العاطفة الخالصة، والفائدة الأدبية المجردة، وتلك اللذة البريئة التي تجدها في محادثة الصديق بالكلام أو بالسكوت، وشعرت باحتياج ملح إلى ذلك، كاحتياج الدم إلى النور وإلى الهواء، إذا أنت طلبت هذا من الصداقة وعند الصديق فما أنت في نظر تلك الفصيلة من الناس إلا من أهل الشذوذ والغباوة
…
على الأقل".
"وعلى رغم كل ذلك فموضوع الصداقة من الموضوعات التي نقبل عليها في اهتمام ولهفة، ولو جاز لي أن أشير إلى خلو خالص في قلت: إني أشعر بشيء غير قليل من الأسف كلما انتهى إلي أن صديقين كريمين تجافيا بعد التصافي، وقد يكون أسفي ناجمًا عن نوع خاص من الأثرة لا أدركه تمام الإدراك، قد يكون ذلك، إن انفصام عرى الصداقة بين الآخرين، كأنما ينال من إيماني بالصداقة ويزعزع من رجائي فيها، لسنا في حاجة إلى دهور نعيشها لتدرك كم في هذه الحياة البشرية من خبث ومراوغة ونفاق، اختيارات قليلة تكفي لتدلنا على أن بعض المثل العليا تخذلنا وتصرعنا بلا رحمة ثم تنقلب مسوخًا ساخرة مزرية، لا تلبث أن تكثر عن أنيابها -مهددة متوعدة- وهي التي تجلب في نفوسنا من قبل جلباب القدسية والعبادة".
"اختيارات قليلة في أحوال معينة وأحوال مفاجئة، تكفي لتظهر لنا أن من الناس من يتاجر بكل عاطفة صالحة لتنفيذ أغراض غير صالحة، ومن يستغل كل استعداد كريم لنتيجة غير كريمة، ومن لا يكتفي بالظلم والإجحاف، بل لا يتورع عن إيذاء الذين أخلصوا النية في معاملته، ولم ينله منهم إلا الخير، وكم من مذيع أنباء الصداقة لا لسبب آخر سوى التوغل في الإيذاء باسم الصداقة في أساليب سلبية أو إيجابية لا يعلم إلا هو كم هي خبيثة وكم هي مغالة"1.
1 راجع: الرسالة في 22 فبراير 1935 السنة الثالثة، نتعرف 84.
من هذا يتبين لك أن مي زيادة كانت تجمع في كتاباتها بين الموضوعية والذاتية، فتستهوي القارئ بأسلوبها المطبوع بذوقها وأصالتها، وفي الوقت نفسه يكشف عن ثقافتها العريضة، ومحصولها الوفير، وقدرتها على التعبير والتصوير في رقة ودقة وفخامة وضخامة عرفت بها في كتاباتها وشتى أحاديثها.