الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: أحمد لطفي السيد 1872-1962
أستاذ جيل وصاحب فكر، ورائد أسهم في هضة مصر الفكرية والسياسية والاجتماعية، اتخذ من "الجريدة" منبرًا لأفكاره وتقاليده واتجاهاته وفلسفته في النظر إلى الأشياء، تبوأ على صفحاتها مقعد المعلم والأستاذ الذي جلت مكانته بين تلاميذه، فكان أستاذ جيل، وأصل ما انقطع من رسالة الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ورفاعة الطهطاوي.
كتب آلاف المقالات في صحيفة "الجريدة" منذ صدورها 1907 حتى قبيل احتجابها 1915، نشر المرحوم إسماعيل مظهر مختارات منها في جزأين بعنوان "المنتخبات" وثالث بعنوان "تأملات في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع" ومجموعة أخرى بعنوان "صفحات مطوية".
استمد أحمد لطفي السيد كتاباته من منابع ثلاثة -تميل إلى العلوم المنطقية والفلسفية- من الفلسفة العربية، تأثر بفلسفة ابن رشد وابن سينا وابن حزم، ومن الفلسفة اليونانية تأثر بفلسفة أرسطو. ومن الفلسفة الأوروبية تأثر بالفلاسفة المحدثين مثل "كانت" الألماني، ثم فولتير وروسو من المفكرين الفرنسيين، وجون ستيوارت الفيلسوف الإنجليزي، فانطبع تفكيره بآثار هؤلاء المفكرين حتى لم يحل مقال كتبه من تأثيرهم.
توفر على ترجمة آثار "أرسطو" بعد أن هجر الصحافة إلى دار الكتب لإيمانه أن حركة الترجمة تسبق حركة التأليف وتمهد لها، كما حدث في عصر النهضة الأوروبية، وإدراكه أن "أرسطو" أول من ابتدع علم المنطق، وأكبر مؤلف له أثر خالد في العلوم والآداب، وقصد بذلك أن يعرف الناس مبادئ المعلم الأول في السياسة؛ لأنها -عند أرسطو- أشرف العلوم، وبها يتم تدبير المدينة ليكون سكانها فضلاء، واستهدف من وراء ذلك نشر
مبادئ الحرية بين أفراد الأمة حتى يتخذها الجميع المثل الأعلى في أمالهم الوطنية.
أسلوب أحمد لطفي:
لم يختلف اثنان على أستاذيته لجيله، وامتدت أستاذيته عبر الأجيال بعده حتى لحق بربه. وصفه صديق عمره المرحوم عبد العزيز فهمي فقال:"ديمقراطي الرأي والعقيدة، لكنه طول حياته ارستقراطي مع الأرستقراطيين1" وأهم ما يميز أسلوبه السمات التالية:
1-
الجمع بين مأثورات بيئته وأفكار عصره.
2-
مزج الفكرة الفلسفية والاتجاه الفلسفي في نظرة موضوعية مجردة.
3-
وضوح التأثير العربي واليوناني والغربي في تفكيره وكتاباته.
4-
يتسم بالإيمان العميق بقداسة الحرية الفردية، ويشيع فيه احترامها.
5-
يصدر عن فلسفة سياسية واجتماعية متكاملة، تقوم من الناحية السياسية على الدولة والحكم ومن الناحية الاجتماعية على مضمون واحد هو الارتقاء الذي تحققه الأمة وتعمل الدولة له.
تحدث عن عيوب المجمع المصري "الرياء" فقال:
"أرأيت الذي يقول رأيه في مسألة بعينها، ولا يلبث أن يغيره من غيره سبب إلا شغفه بإرضاء عظيم ينتظر نفعه ويخشى غضبه، أو اتقاء لأن يعلن عنه أنه غير محب لوطنه، وبالجملة نعني ذلك الذي يتخذ رأيه قميصًا وقتيًا يلبسه كلما كان متفقًا مع "المودة" ويخلفه متى جاءت "مودة جديدة" يكره معًا لبس ذلك القميص القديم
…
ثم قال:
"لست أنتزع من الخيال صورة هذا الذي أصفه كما يصنع الشعراء، ولكني ناقل من الطبيعة صورة قد شاعت في الناس شيوعًا، لا أظن
1 راجع: أحمد لطفي السيد، العدد 39 من سلسلة أعلام العرب.
السكوت على محاربتها إلا ضربًا من السكوت عن الحق، والساكت عن الحق شيطان أخرس، هذه الرذيلة -رذيلة الرياء- يستخدمها بعض الناس وسيلة للنجاح في الحياة".
"وهي وسيلة نافعة في البلاد الاستبدادية التي يتوقف نجاح الفرد فيها -مهما كان كفوءًا- على رضا السلطان وأعوانه، ولا شيء يرضي السلطان غير العبادة. والذي يرضى بأنه يبيع نفسه عبدًا ليشتري بثمنها قوتًا يعيش به أستبعد كثيرًا أن يكون حافظًا للصورة التي خلقها الله عليها، صورة الإنسان ذي الشخصية صورة الحرية. وما مثل هذا الناجح بريائة إلا كمثل الذي ينجح في الحصول على الثروة عن طريق السرقة، فيئست الوسيلة ويئست الغاية".
"قال أرسطو: خلق بعض الناس ليكون حاكمًا، وخلق بعض الناس ليكون محكومًا، ولكنا نظنه قد أخذ هذه القاعدة من ملاحظته الشخصية لبعض قومه، ولأخلاق جيرانهم من الأسيويين. وهذه الملاحظة لا تكفي وحدها لتقرير قاعدة عامة مثل هذه القاعدة، لذلك نقول: إن الله فطر الناس على فطرة واحدة أو متقاربة الفروق جدا، إنهم جميعًا نظروا على الحرية الشخصية"1.
وفي مقال آخر تحدث عن "انتشار البغي" بين طبقات المجتمع المصري فقال:
"أساس البغي في نفس الباغي قوة تخدعه، غير أن الأمثلة في هذا العالم قد يدل ظاهرها على خلاف هذه القاعدة، وأن النظر السطحي في هذه الأمثلة الكثيرة الوقوع بين ظهرانينا هو على ما أظن الهادم الأعظم لسياج الأخلاق الفاضلة، والقوض لدعائم الثقة في مبادئ الخير، بل المزعزع في بعض القلوب لقواعد الإيمان بالله الواحد القهار".
1 راجع: الجريدة أول فبراير 1908.
"ومتى اعتقد القاضي ذلك رأى استقلاله الذاتي خطرًا عليه، فيضحي به على مذبح القوة القاهرة، ويصبح لا يفكر إلا كما يفكر الحاكم، ولا يرى إلا بعين الحاكم، ولا يسمع إلا بإذن الحاكم، يطيعه الطاعة العمياء -لا في حدود القانون المكتوب- بل فيما يخرج به عن حدود القانون والمصلحة أيضًا. ولا شك أن هذا النظر هو الذي جعل الحكومات الاستبدادية خطرًا على أخلاق المحكومين؛ لأنها تورثهم دائمًا طبائع الاستبداد".
"ولو أمعنا النظر لوجدنا أن جزاء البغي يقع على الباغي أولًا؛ لأن أول عمل من أعمال البغي هو بعينه أول سبب من أسباب سقوط الباغي وتحلل قوته. فإذا رأيت امرأ بغى على آخر، فاحكم بأن قوته بدأت تتحلل وسلطانه أخذ يتقلص، فإن أسباب قوة القوي رضى النفوس به، واجتماع القلوب إلى نصرته، فما يقيه إلا هدم لقوته، لذلك قالوا: "على الباغي تدور الدوائر"1.
ومن خلال كتابات أحمد لطفي السيد تدرك أنه اتخذ من الصحافة والسياسة، وسيلة للخدمة العامة، التي يفرضها واجب الوطن على المواطن، وحقق بهما دعوته، وعلى الرغم من أن الفكرة الفلسفية كانت تحكمه، إلا أنه لم يقف عند حدود النظرية، بل كانت تنزع به إلى العمل والتنفيذ، فإذا كانت الصحافة وسيلة لنشر الفكرة، فإن السياسة وسيلة لتنفيذها.
1 راجع: الجريدة في 30/ 12/ 1911.