الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: عبد الرحمن الكواكبي 1848-1902
مصلح اجتماعي وداعية من دعاة الإسلام، لعب دورًا هامًّا في يقظة الأمة العربية بكتاباته الإصلاحية التي تحمل مبادئه، وتعبر عن عروبته ووعيه، وتعرب عن مشاعره وأحاسيسه. أدرك الناس عبقريته، وعرفوا منزلته في عالم الأدب ودنيا السياسة منذ دبج يراعه مقالات اجتماعية وبحوث تتناول وجوه الإصلاح المختلفة في صحيفة "الشهباء" 1878 و"الاعتدال"1879. ركز فيها على مواطن الداء في الوطن العربي، واستقصى العلاج الحاسم للانحطاط الذي ران على الأمة العربية.
كانت صيحة الكواكبي الإصلاحية بداية صرخة كبرى في وجه الظلم والطغيان والاستقلال والرشوة وواد الحريات، مما أشاع جوًّا قائمًا ومناخًا كافيًا في ربوع الشام وشتى بلاد العروبة والإسلام.
ومنذ استقر بمصر، أخذ ينشر مقالاته عن الاستبداد الذي شهدته البلاد العربية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909، وهاجم العثمانيين وسياستهم في الحكم على صفحات جريدة "المؤيد" يوقعها باسم اتخذه رمزًا لنفسه "الرحالة كاف" وهي التي سميت -فيما بعد- طبائع الاستبداد.
جاءت كتابات الكواكبي نبراسًا يستضاء به في مرحلة حاسمة، نفرض تجمع أسباب القوة والعزة والتخلص من كل دعوة يأس وهمسة شك في مقدراتنا العربية وقدراتنا الإسلامية، مما دفع شباب العرب إلى الإقبال عليها إقبال الصدى على الماء القراح.
أسلوب الكواكبي:
جمعت المقالات والبحوث التي نشرها الكواكبي في الجرائد والمجالات في كتابين: أحدهما يسمى أم القرى -مكة المكرمة- تضمنت مقالاته نقدًا للشعوب الإسلامية، وكتبت قبل مجيئه إلى مصر. والآخر يسمى "طبائع الاستبداد" وتناولت مقالاته نقد الحكومات الإسلامية. وصف كامل الغزي أسلوب الكواكبي في مقالاته هذه فقال: "كان يختار للمعنى لفظًا على قدر
المعنى لا يضيق ولا يتسع لغيره، وهذه هي البراعة في اللغة وما تؤلفه مفرداتها من المركبات الإسنادية، وكان لا يعبأ بزخرفة الألفاظ، ولا يكثر من الاستعارة"1.
وأهم ما يميز أسلوب الكواكبي في كتاباته ما يلي:
1-
قوة التفكير، وسلامة التصوير، وسعة الاطلاع، وابتكار المعاني، وصدق الغيرة على العالم الإسلامي.
2-
القدرة على النقد والتمحيص، وإقامة البراهين والحجج، فيما يريد إثباته أو يحاول نفيه.
3-
السهولة في الألفاظ، والدقة في اختيار الكلمات، والجودة في التعبير مع البعد عن الغريب.
4-
الترسل في عباراته دون الالتزام بالمحسنات التي ميزت كتاب عصره.
5-
استعمال الأسلوب العلمي المتأدب، حين يوضح ظواهر اجتماعية أو مشاكل عصرية.
تحدث الكواكبي عن "الاستبداد" وأثره في ضعف الأمة الإسلامية فقال:
"من أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب إرادة، وهو كالحيوان المملوك العنان، يقاد حيث يراد به، ويعيش كالريش يهب حيث تهب الريح بلا نظام ولا إرادة، وما هي الإرادة؟ هي ناموس الأخلاق. هي ما قيل فيها تعظيمًا لشأنها، لو جازت عبادة غير الله لاختيار العقلاء عبادة الإرادة هي تلك الصفة التي تفضل الحيوان عن النبات في تعريفه بأنه متحرك الإرادة، وأسير الاستبداد النافذ الإرادة، مسلوب حق الحيوانية فضلًا عن الإنسانية.
الاستبداد مفسد للدين وذلك في أهم قسيمه -أي الأخلاق- وأما العبادات فإنه لا يمسها؛ لأنها تلائمه في الأكثر. ولهذا تبقى الأديان في الأمم
1 راجع: مجلة الحديث ص404 وما بعدها، العدد السادس 1929.
المأسورة عبادة من عبادات مجردة صارت عادات، فلا تفيد تطهير النفوس شيئًا، ولا تنهى عن فحشاء ولا عن منكر، وذلك لفقد الإخلاص فيها تبعًا لفقدها في النفوس.
والاستبداد مفسد للتربية والأخلاق؛ لأنه يضطر الناس إلى استباحة الكذب والتخيل والخداع والنفاق والتذلل ومراغمة الحس وأمانة التنفس
…
إلخ. وفي الحقيقة أن الأولاد في عهد الاستبداد سلاسل من حديد يرتبط بها الأدباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق، فالتوالد زمن الاستبداد حمق، والاعتناء بالتربية حمق مضاعف.. وغالب الإسراء لا يدفعهم للتوالد قصد الإخصاب، إنما يدفعهم إليه الجهل المظلم، وأنهم محرمون من كل الملذات الحقيقية كلذة العلم، ولذة المجد، ولذة الإثراء، ولذة البذل.
والاستبداد يفسد الميول الطبيعية والأخلاق الحسنة، ويقلب الحقائق في الأذهان، وينزل بالإنسان إلى مستوى البهائم".
ثم قال: "والاستبداد مفسد لدولاب العمل نفسه في الحكومات، فالحكومة المستبدة تكون مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقًا؛ لأن الأسافل لا يهمهم جلب محبة الناس، إنما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد فيهم بأنهم على شاكلته وأنصار دولته.
إن العقل والتاريخ والعيان: كل يشهد بأن الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه من الوزراء يكون دونه لؤمًا، وهكذا تكون مراتب لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات.. والنتيجة أن وزير المستبد هو وزير المستبد لا وزير الدولة، كما هو الحال في الحكومات الدستورية".
ثم يقول الكواكبي بعد هذا كله:
"ومن طبائع الاستبداد أن الأغنياء أعداؤه فكرًا، وأوزتاده عملًا، فهم رباط المستبد، يذلهم فيثنون، ويستدرهم فيحنون، ولهذا يكثر الذل بين الأمم التي يكثر أغنياؤها. أما الفقراء فيخافهم المستبد خوف النعجة من الذئاب، ويتجنب إليهم بعض الأعمال التي ظاهرها الرأفة، يقصد بذلك أن يغتصب قلوبهم التي يملكون غيرها. والفقراء كذلك يخافون خوف دناءة ونذالة، فهم لا يخسرون على الافتكار فضلًا عن الأفكار، وكأنهم يتوهمون أن في داخل رءوسهم جواسيس عليهم"1.
وهكذا وضع الكواكبي أن الاستبداد قتل مواهب الأمة الإسلامية، وأفسد كل شيء فيها، وفي مقدمتها الحرية، حتى ضعفت وهان شأنها، وهبطت مرتبتها إلى الحد الذي أزرى بها بين الأمم، وأشار إلى طريق الخلاص من الاستبداد في الأمة فقال:"إن الوسيلة الوحيدة لقطع داء الاستبداد هي ترقية الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم".
وبذا كان الكواكبي زعيمًا من زعماء الإصلاح الاجتماعي والدين، حرص في كل كتاباته أن يركز على وصف العلة، ويدور حديثها حولها حتى يوضح آثارها السيئة على الفرد والجماعة والمجتمع، فينتبه المواطن لخطرها، فيبتعد عنها ويتخلص منها، وحينئذ يصبح المجتمع نقيًّا نظيفًا.
1 راجع: طبائع الاستبداد ص93 وما بعدها.