الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا: أحمد فارس الشدياق 1805-1887
من أوائل من حملوا لواء النهضة الأدبية والفكرية الحديثة، سبق بفكره وقلمه وعلمه أترابه ولداته؛ لكثرة ما قرأ وعرف، وجرب ورأى وسمع، حتى كان من نوادر عصره. اهتم بالأبحاث اللغوية والأدبية، وترك فيهما آثارا خالدة، منها كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق"، ذكر فيه حياته وأحواله، وما عاناه من دهره، خلط فيه الجد بالهزل، والسجع بالترسل، والعلم بالأدب. وأغرب وأطرب، وذهب في صياغته كل مذهب، تجلت فيه عبقريته في اللغة والأدب والتحليل ووصف الخطرات والنوازع والسيرة الذاتية، وأدب الرحلات، والتهكم برجال الدين. كل ذلك بأسلوب لا عهد للعرب به، وعلى الرغم من قيمته العلمية والأدبية، فقد تضمن مجنونا وفحشا، مما أثار عليه حملة ضارية. وطبع بباريس 1855 ثم توالت طبعاته فيما بعد.
أسلوب الشدياق:
انفرد الشدياق بأسلوب فريد فيما كتب من مقالات، ودبج من خواطر، وسطر من انطباعات، فكان وحيد عصره، وفريد دهره، لذا اعتبر امتدادا لابن خلدون في حسن الترسل، ودقة التحليل، وبراعة التسلسل المنطقي، والبعد عن الحشو والتكلف مع صحة اللغة، وسلامة التركيب، وجمال العبارة. ومن هنا كان من أوائل من حرروا الكتابة من قيود البديع، وبدعة التقليد. وأهم ما يميز أسلوبه في إطاره اللغوي ما يلي:
1-
يضع الألفاظ في مواضعها دون بهرجة ولف ولبس، حتى تؤدي المعاني مدلولاتها في إشراق ووضوح واستقامة ودقة.
2-
تجنب ما شاع في عصره من صناعات لفظية، تفسد المعنى، وتشغل القارئ بظاهر اللفظ، لإيمانه بأن المعاني الجياد تستغني عن الطلاء والزخرف، كما تستغني الحسناء عن الحلي والزينة.
3-
إيثار المعنى الذي يريده في وضوح ودقة وفهم تام لدلالات الألفاظ على المعاني.
4-
لا يكتب إلا ما يمر بباله من أفكار، ويتردد في خاطره من موضوعات، دون أن يستعير عبارة من أديب أو أسلوب من كاتب.
5-
دقة الوصف وعمق التحليل، وبراعة التصوير والتمثيل، خاصة حين يصور المعنويات بالمحسوسات.
6-
تحري أفصح الأساليب، وأصح العبارات وأسلسها لغة وأداء، مع المزاوجة بين السجع والترسل في رسائله الخاصة.
ريادة الشدياق في الكتابة بلبنان:
يعد الشدياق رائد المقال الأدبي والسياسي والاجتماعي في لبنان، وكانت صحيفة "الجوائب" المجال الفسيح لمقالاته التي غمرت العالم العربي والإسلامي. آثر في أول كتابات أن يسمى مقاله:"جملة أدبية"1 ثم بدا له أن هذه التسمية لم تحظَ برضا القراء، ولم تلقَ قبولًا لدى الذوق العام، ومن ثم عدل إلى كلمة "المقال" وبدأ مقالاته بعبارة:"من الناس" للدلالة على اتجاهها الاجتماعي، وميلها إلى نقد المجتمع والناس".
لهذا جعله كاتب2 مؤسس النهضة الحديثة وزعيمها، وعده آخر3 من رواد النهضة الحديثة في الأدب، وجعله ثالث4 "صاحب يد طولى في النهضة العربية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، فمهدت السبيل للتقدم الأدبي العظيم خلال القرن العشرين".
هاجم الشدياق أرباب الاستعارات والمحسنات فقال: "ما أدري ما الذي حسن لأرباب فن الإنشاء أن يضيعوا وقتهم بهذه الاستعارات والتشبيهات المبتذلة، وينظم الفقر المتماثلة في المعنى، مع أن العالم يتأتى
1 كان الشدياق يسمى فصوله أحيانًا "مقالات" كما فعل في مقاله "بديع الإعجاز".
2 راجع: رواد النهضة الحديثة مارون عبود.
3 راجع: في الأدب الحديث ج1 ص77 عمر الدسوقي.
4 راجع: الفنون الأدبية وأعلامها ص148 أنس المقدسي.
له أن يبدي عمله بعبارة واحدة إذا كانت رشيقة اللفظ، بليغة المعنى"1.
ويرى أن كثرة السجع تسد مسالك التعبير فيقول: "السجع للمؤلف كالرجل من خشب للماشي، فينبغي لي ألا أتوكأ عليه في جميع طرق التعبير؛ لئلا تضيق بي مذاهبه، أو يرميني في ورطة لا مناص منها. ولقد رأيت أن كلفة السجع أشق من كلفة النظم، فإنه لا يشترط في أبيات القصيدة من الارتباط والمناسبة ما يشترط في الفقر المسجوعة، وكثيرًا ما نرى الساجع قد دارت به القافية عن طريقه التي سلك فيها حتى تبلغ إلى ما لم يكن ترتضيه لو كان غير متقيد بها". لذا استعمل السجع بمقدار في مقدمات كتبه يقول: "قد مضت علي برهة من غير تكلف السجع والتجنيس، وأحسبني نسيت ذلك! فلا بد أن أختبر قريحتي في هذا الفصل، فإنه أولى به من غيره"2.
وزواج الشدياق بين السجع والترسل في رسائله، فقد كتب إلى أخيه "طنوس" بمالطة 1840 رسالة استرسل في أولها، وسجع في آخرها فقال:"فكيف بالاقتناع، والقلب في التباع، والدمع في تهماع، ومن أين للسلو والبين في علو، والوجه في نمو؟ ".
ويميل إلى الاستطراد، وهذا واضح في كتابيه:"رحلة إلى مالطة وأوربا"، تراه يستطرد من موضع الرحلة إلى نقد القاموس المحيط في عدة مواضع3. وهي استطرادات تدل على تزاحم المعلومات والمعارف لديه.
ويبلغ القمة في دقة التصوير، وعمق التعبير، وبراعة التحليل عند تصوير المعنويات بالمحسوسات، انظر إلى اللوحة التعبيرية التي تصور مشية نساء مالطة يقول: "للنساء زهو وعجب إذا مشين أكثر من زهو الرجال، فترى المرأة كالعروس المزفوفة إلى بعلها، وهي ممسكة بطرف
1 راجع: الساق على الساق ج2 ص46.
2 راجع: الساق على الساق ص62.
3 الواسطة في أحوال مالطة ص12، 25، 30.
الوشاح باليد اليسرى، ويطرف غطاء رأسها باليمنى، فتكون على هذه الحالة أشغل من ذات النحيين"1. وهكذا يجعلك الشدياق تشعر بقيمة الأشياء الصغيرة وخطرها.
اهتم الشدياق منذ طفولته بخدمة القضايا اللغوية، كما كان له ارتياح غريزي من صغره لقراءة الكلام الفصيح، وإمعان النظر فيه، والتقاط الغريبة التي كان يجدها في الكتب.
ويعد كتاب "الساق على الساق" معجما للعديد من الألفاظ الغربية التي استعملها الشدياق في الحكاية والمقامة، ويرد الحياة ووصف رحلاته وأشعاره.
من غرائب الألفاظ لمسميات في أحوال وأوصاف مختلفة كلمة "البيت" البيت في أصله بيت، ولكن البيت الذي يستظل به كالعرش، غير البيت المسنم من قصد، غير المربأ الذي ينظر منه من عل، غير البيت المقدم أمام البيوت، غير السرادق المضروب، غير البيت من الطين، غير البيت الذي لا باب فيه ولا ستر، غير البيت من الحجر، غير البيت من آدم، غير البيت من الشعر، غير البيت الدنيء، غير البيت المدهور بالجص، فلكل نوع من هذه البيوت لفظ خاص به في اللغة العربية.
ودافع الشدياق عن اللغة وأصالتها، فبيت في كتابه اللغوي:"سر الليالي في القلب والإبدال" مشتقات الألفاظ بعضها من بعض، مما أضعف الرأي القائل بأن بعض الألفاظ العربية مأخوذة من لغات الأعاجم، مثل لفظة "كنز" في العربية التي زعم "الخفاجي" أنها معربة لكلمة "كنج" الأعجمية.. وبناء على طريقته في نسق الألفاظ واشتقاقها يتضح أن كلمة "كنز" عربية بأنها من "الكن" وهو الستر، ومنه جن الشيء -بمعنى ستر- وكتبه وكنه النعمة أي كفرها وسترها، وكنس الظبي أي دخل في كناسة، فاستتر فيه. والكنيسة متعبد اليهود. وحقيقة معناها مكان يستتر فيه.
1 راجع: الساق على الساق ص66.
يقول الشدياق: "فأنت ترى أن معنى الستر والجمع دائر في جمع هذه الألفاظ، فإذا ادعى فارسي أن الكنز معرب "كنج" أو سرياني أن الكنيسة معرب "كتشى" بمعنى جماعة، قلنا لهم: بل أنتم قوم لثغ، لم يحسنوا الظن بألفاظنا فبدلتموها وحرفتموها
…
".
ويؤكد لك جهوده في تطوير اللغة والأدب، تناوله مادة بعينها ومناقشة ما ورد بشأنها في المراجع اللغوية، ومدلول مرادفها في اللغات الإفرنجية، ويمضي في تحليلها وشرح ما يتصل بها من تصورات، يقول مثلًا في "التمدن":
"لا يخفي أن لفظ "التمدن" مأخوذ من المدنية، والمدنية مشتقة من مدن بمعنى أقام على القول الأصح، وإن كان صاحب القاموس قد اضطرب فيها فجعلها مرة من دان، ومرة من مدن، وكيف كان فإن مرادف التمدن في اللغات الإفرنجية من معنى "المدينة" وهو عندهم في الأظهر عبارة عن استجماع كل ما يلزم لأهل المدينة من اللوازم البدنية والعقلية، فقولهم مثلًا: هذا رجل متمدن، ينزل منزلة قولنا: متأدب كيس خبير وما أشبه ذلك"1.
وهكذا كان الشدياق يبني حكمه على أصالة الألفاظ العربية على أساس سليم، وملاحظات زكية، ومقارنات واعية من اشتقاق الألفاظ، ونسق الأفعال، وتناسب الحروف بعضها مع بعض، كما كان يعلي من قيمة العقل في الاجتهاد اللغوي، فلا حجر على باحث ما دام العقل رائده، ولا يقف بأمانة اللغة على زمن معين، بل يمضي في تاريخ الفكر العربي ما دام هناك عقل يحسن الاستنتاج، ويجيد الاستدلال.
ومن ثم لا نعجب أن نجد الإمام محمد عبده يثني على أحمد فارس الشدياق في مجلسه لاستقامة لغته، وأصالة أسلوبه، مما جعل السيد رشيد رضا يعترض قائلًا: "أين هو من أسلوب العروة الوثقى الرفيع، ووضعكم لفرائد اللغة الطريفة في موضعها منها؟ فكان جواب الإمام:
تلك الألفاظ نديرها، أما الشيخ أحمد فارس فهو إمام في اللغة، وأسلوبه في الكتابة فغريب، فلما فطن له الأدباء، ويعجب السيد رشيد رضا من تفضيل الإمام محمد عبده لأحمد فارس على نفسه في الإنشاء مع أنه أبلغ منه! "1.
وبهذا وغيره تدرك عبقرية أحمد فارس الشدياق في اللغة والأدب، وريادته في إحياء الألفاظ العربية، واهتمامه بالإطار اللغوي في كتاباته الأدبية والاجتماعية والسياسية، كما كان لصحيفته "الجوائب" دورها البارز في شيوع ألفاظ عربية، بعد أن استخرجها من دفائن المعاجم، وجعلها تدور على الألسنة، وتردد على الأفواه، وتشيع بين العامة والخاصة من الناس.
1 راجع: كنز الرغائب ج1 ص3.