الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: المقال والاسلوب العلمي
مدخل
…
الفصل الرابع: المقال والأسلوب العلمي
الأسلوب العلمي في التراث العربي:
يخضع أسلوب الكتابة العلمية لمنطق فكري قويم، ومنهج علمي منظم، حتى تجيء الأفكار مرتبة ترتيبًا دقيقًا، توصل المقدمات فيها إلى النتائج، سواء أكانت علمية بحتة، أو علمية تساق في صورة أدبية، وليس بشرط أن تصاغ في صورة علمية جافة، خلية من التصوير الفني، بل قد تساق في صورة أدبية، وهذا ما يعنيه الدارسون بالأسلوب العلمي المتأدب، الذي يحاول الكاتب فيه تطويع المواد العلمية في صورة أدبية مستساغة.
وحين نستعرض النثر العلمي في تراثنا العربي، نلتقي بكتابات علمية في شتى فنون المعرفة، دبجها نفر من علماء العرب في العصر الإسلامي على أحسن نهج، وأفضل طريقة، وتميزت أساليبهم بالدقة في التفكير، والوضوح في العرض، والسلامة في الاستقراء، والصحة في الاستنتاج من أمثال: ابن الهيثم والجاحظ وابن مسكويه وابن الصوري والخوارزمي وابن النفيس والزهراوي والرازي وابن سينا، وغيرهم ممن كتبوا في الرياضيات والفلك والطب والنبات والحيوان والتشريح والبصريات، وترجمت مؤلفاتهم -بعد- إلى اللاتينية واللغات الأوروبية، وظلت مراجع معتمدة، ومصادر موثقة لدى أهل الصناعات في جامعات أوروبا قرونًا عديدة، وكانت الأساس الذي قامت النهضة العلمية الأوروبية عليه.
ويعتبر الجاحظ من العلماء المعدودين في تاريخ العلم البشري، يقول
المستشرق "هارتمان" عن كتاب الجاحظ في هذا المضمار: "أنه حفل بنظريات علمية مبتكرة في دور التكوين مثل: التطور والتأقلم وعلم النفس الحيواني التي اكتملت بعد عصر الجاحظ بأحد عشر قرنًا. أوجز الجاحظ أسس أسلوبه العلمي في كتاب "الحيوان" فقال: "جمع معرفة السماع وعلم التجربة، وإشراك بين علم الكتاب والسنة، وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة" ويعبر عن استعانته بالعقل والحواس والتجربة فيقول:"ليس يشفيني إلا المعاينة وكل قول يكذبه العيان هو أفحش خطأ، وأسخف مذهبًا، وأدل على معاندة شديدة أو غفلة مفرطة، وأن الخير لا يصدق إلا إذا أثبته العيان، وحققته التجربة".
ونية الجاحظ إلى اتخاذ الشك وسيلة إلى اليقين فقال: "أعرف مواضع الشك والحالات الموحية له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموحية له" وبذلك سبق "يبكون" و"ديكارت" الذين ظهرا في القرن السابع عشر الميلادي، وتفوق عليهما، وأدرك -بفطرته- ما غاب عنهما من عناصر.
وفي العصر الحديث برز النثر العلمي على يد رجال الفكر عبد إنشاء الجامعة المصرية 1908 ونشاط الصحافة، واهتمام الباحثين بتطبيق منطق أرسطو، ومنهج بيكون، وفلسفة ديكارت في أبحاثهم، مما بعث نشاط الكتابة العلمية في مجالات: العلوم الطبيعية والفلسفية والاجتماعية والإنسانية، وعلوم الدين واللغة والأدب.
بدأ علماؤنا المحدثون يحذون حذو أسلافهم في نشر الثقافة العلمية الرفيعة في ربوع الوطن العربي بلغة عربية فصيحة، وأسلوب سهل خال من العجمة، برئ من الرطانة من أمثال: يعقوب صروف وفؤاد صروف وأحمد زكي وسلامة موسى ومصطفى نظيف، وعلي شرفة وغيرهم ممن أضاءوا الطريق أمام أجيال الكتاب والباحثين، ونجحوا في نقل المسائل العلمية المستعصية -لجمهور القراء- بلغة سهلة، وعبارات شيقة، وأسلوب خال من التعقيد والالتواء.
ساير هؤلاء روح العصر، وتمشوا مع أحدث النظريات والآراء العلمية، وتابعوا التطورات العلمية التي تطالعنا يومًا بعد يوم. وسنحاول أن نقف على جهود بعضهم في مجال المقال العلمي، وبسط الحقائق، في أسلوب رصين، يمكن تناوله في سهولة ويسر.
بلغ إنتاج هؤلاء الأعلام في مجال الصحف والمجلات العلمية قدرًا يحتاج لدراسة متأنية واعية، تقوم أعمالهم تقويمًا دقيقًا حتى نضعهم في مكانهم الصحيح، وتنزلهم منازلهم التي تليق بهم.
ولا غرابة في ذلك فهم أحفاد أعلام العصر العربي الإسلامي، الذين حددوا مفهوم الأسلوب العلمي بدقة ووضوح، وسلامة في العرض والاستقراء والاستنتاج قبل أن يعرف العالم الأوروبي المؤرخ والعالم "فرانسيس بيكون".
ويمتاز الأسلوب العلمي عند علمائنا المحدثين بما يلي:
1-
الدقة والوضوح، والتحديد والاستقصاء.
2-
الدخول في الموضوع مباشرة دون مداراة أو مقدمات.
3-
وضع المصطلح العلمي في المكان اللائق به، حتى لا يحدث في الأسلوب قلق أو اضطراب.
4-
سهولة اللفظ، وبساطة العبارة، مع متانة التركيب.
وسنخص في الصفحات التالية ثلاثة من العلماء الأدباء أو الآباء العلماء -بالحديث- ممن نشروا الثقافة العلمية في ربوع وطننا العربي بأسلوب ساير روح العصر، واستجاب لمتطلبات المجتمع، وحاجات جيلهم.