الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924
رائد من رواد النهضة الحديثة، وصاحب رسالة وفكر، يحمل أدبه سمات المجتمع، وتتوفر فيه خلال البيئة وصفات صاحبه، وهذا لا يتوفر لدى الكثير من أترابه ولداته، علت منزلته، وارتقت مكانته بين أدباء عصره لكثرة ما كتب قلمه، ودبج براعه، وفاض به خاطره، فترسم الناشئة خطاه، وساروا على هداه، ونسجوا على منواله.
كان المنفلوطي كلفًا بالقراءة، يجد سلوة في الكتاب مما وثق المحبة بينه وبين الثقافة، لذا فقد ترك أعمالًا أدبية كبيرة، تعرب عن موهبة أصيلة، وتشهد له بالفطنة والخلود، أشهرها "النظرات" التي جاءت حصيلة كتاباته في صحيفة "المؤيد" وكان لها من الأثر ما كان، بفضل حسن العرض، وسلامة التراكيب، وإيحاء الجمل، وجمال التعبير، وجلال التصوير.
أسلوب المنفلوطي:
المنفلوطي من أشهر كتاب المقال منذ راد الكتابة الشيخ محمد عبده، نالت مقالاته رضا القراء، وتقدير الجمهور لتصويرها ما يلائم العصر، مع إشراق الديباجة، وسلامة الأسلوب، وصف أحمد حسن الزيات أسلوب المنفلوطي وديباجته فقال:"أشرق أسلوب المنفلوطي على وجه "المؤيد" إشراق البشاشة، وسطع في أندية الأدب سطوع العبير، ورن في أسماع الأدباء رنين القلم، ورأى القراء الأدباء في هذا الفن الجديد ما لم يروا في فقرات الجاحظ، وسبحات البديع، وما لا يرون في غثاثة الصحافة، وركاكة الترجمة"1.
1 راجع: وحي الرسالة جـ1 ص386.
وعرف المنفلوطي بميله إلى المبالغة في إيراد الصفات المؤكدة التي تكسب الكلام قوة وتأثيرًا، والاهتمام بجمال العبارة، والعناية بالصياغة، وأهم ما يميز أسلوبه ما يلي:
1-
إيثار الجمل القصيرة الموجبة التي تمتاز بالسلامة، وتخلو من كل ما يشين التعبير، ويصم الأسلوب.
2-
الاهتمام بحسن الصياغة، وجمال الإيقاع، والاعتماد على الألفاظ العربية، والعبارات الفصيحة، والأساليب الصحيحة.
3-
البعد عن التكلف والتقليد والقصد إلى الصدق والأصالة، والجمع بين الجدة والطرافة، والتفوق على الأساليب التي عاصرها.
4-
يتسم بالرقة والدقة، والروعة والقوة، ويميل إلى السهولة والترسل، مع الخلو مما يعيب التراكيب والصياغة، بطريقة بيانية أخاذة.
5-
رعاية جمال الأسلوب دون الاعتماد على المحسنات، باستثناء السجع المطبوع للإسهام في موسيقى الصياغة، والعناية بتحرك العاطفة وهزها بمختلف الأساليب.
وهذا نموذج من مقالاته عنوانه "أيها المحزون" يقول المنفلوطي فيه: "إن كنت تعلم أنك قد أخذت على الدهر عهدًا أن يكون لك كما تريد في جميع شئونك وأطوارك، وألا يعطيك ولا يمنعك إلا كما تحب وتشتهي، لجدير بك أن تطلق لنفسك في سبيل الحزن عنانها كلما فاتك مأرب، أو استعصى عليك مطلب، وإن كنت تعلم أخلاق الأيام في أخذها وردها وعطائها ومنحها، وأنها لا تنام من منحة تمنحها، حتى تكر عليها راجعة فتستردها، وأن هذه سنتها، وتلك خلتها في جميع أبناء آدم، سواء في ذلك ساكن القصر، وساكن الكوخ، ومن يطأ بنعله هام الجوزراء، ومن ينام على بساط الغبراء، فخفض من حزنك، وكفف من دمعك، فما أنا أول عرض أصابه سهم الزمان، وما مصابك بأول بدعة طريفة في جريدة المصائب والأحزان".
"أنت حزين؛ لأن نجمًا زاهرًا من الأمل كان يتراءى لك في سماء حياتك فيملأ عينيك نورًا، وقلبك سرورًا، وما هي إلا كره الطرف أن افتقدته فما وجدته، ولو أنك أجملت في أملك، لما غلوت في حزنك، ولو أنك أنعمت نظرك فيما تراءى لك، لرأيت برقًا خاطفًا، ما نظنه نجمًا زاهرًا، وهناك لا يبهرك طلوعه، فلا يفجعك أفوله. أسعد الناس في هذه الحياة من إذا وافته النعمة تنكر لها، ونظر إليها نظر المستريب بها، وترقب في كل ساعة زوالها وفناءها، فإن بقيت في بدء فذاك، وإلا فقد أعد لفراقها عدته من قبل لولا السرور في ساعة الميلاد ما كان البكاء في ساعة الموت، ولولا الوثوق بدوام الغنى، ما كان الجزع من الفقر، ولولا فرحة التلاقي، ما كانت ترحة الفراق".
من ثم يتبين لك أن الأسلوب المنفلوطي يتميز بأنه ذاتي مستقل، أنشأه بقوة طبعه، وسلامة فطرته، وحسن ذوقه على أحسن مثال. وإذا كان الأدب الفرنسي يعتبر "ميشيل دي مونتين" رائد المقال الأدبي الحديث، والأدب الإنجليزي يفخر بفرانسيس يبكون في هذا المجال، فإن المنفلوطي رائد المقال الأدبي في العصر الحديث.