الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: الفكرة
هي نبت التأمل، وحصيلة التجربة، وثمرة المعرفة، وحصاد الأيام من الحكمة والخبرة يرسلها كاتب، وينطق بها ناصح، وتجري على لسان مصلح، ويرددها حكيم، وتعد من دعائم الحياة وبناء الإنسانية، ونبراس الحياة الذي يهدي إلى الحق والخير والجمال، ودليل يرشد إلى الحب والصفاء.
نأتي الفكرة تعبيرًا عن رؤيا تاريخية، أو تسجيلًا لعاطفة وطنية، أو تصويرًا لوجدان ديني، أو عرضًا لمثل إنساني، أو نقد لعادات المجتمع أو توجيها لأعمال الناس، أو نصحًا في رأي جرى وحدث وقع.
وتعد الفكرة النواة التي يقيم الكاتب موضوعه عليها، بعد أن يتصيدها من البيئة التي تحيط به، ويستمدها من واقع الحياة وتمرسه بها، ثم تنمو من ملاحظاته الدقيقة، وقراءاته المتعددة، وخبراته الشخصية، ثم ينفعل بها ويعبر عنها مجلوة بأمثلة من واقعه المحسوس.
ولقد كان المرحوم أحمد أمين كثيرًا ما تخطر له فكرة خاطفة -حين حديثه- فيعلن عنها قائلًا: "هذه فكرة تصلح مقالًا في مجلة الثقافة". ويعد زكي نجيب محمود من كتاب الفكرة لطول معالجته للفلسفة، وعكوفه على دراستها، وتفهم قضاياها.
والفكرة أشهر عمود ظهر في الصحف المصرية 1956 بصحيفتي الأخبار وأخبار اليوم على يد الأخوين: علي أمين ومصطفى أمين، واستمرت في الظهور منذ ذلك التاريخ على الرغم من المحن والأحداث التي زجت بمصطفى
أمين في غياهب السجن، وفرضت على أخيه على أن يرحل إلى لندن. والمعروف أن علي ومصطفى أمين كانا يتبادلان كتابة "فكرة" وظل علي يوقعها حتى لقي ربه، ثم انفرد مصطفى أمين بها. وتلتقي أفكار الرجلين في دلالتها على المعنى الإنساني الذي يعتمد عليه بناء الفرد والمجتمع، ويحقق سيرة الشعب على طريق الحياة.
ويعد هذا اللون من الكتابة الصحفية جولة فكرية وثقافية وتاريخية وروحية ممتعة، مما جعل القراء يقبلون عليها، ويتطلعون إليها غداة كل يوم، ولعل السر في ذلك أن أفكار علي ومصطفى أمين كانت تدعو إلى الحب والأمل والعرق والكفاح، وتحمل النفوس على الصفاء والمودة. وكانت حصيلة هذا اللون الممتع كتابين: الأول أفكار للبيع للمرحوم علي أمين، والثاني: الـ 200 فكرة للأستاذ مصطفى أمين. مما نشرته الصحف المصرية والعربية لهما.
ويلاحظ على الكتابين أن الأفكار والموضوعات فيهما متشابهة في الاتجاه والمشاعر والعواطف، يعلل الأستاذ مصطفى أمين هذا التشابهة فيقول: كان علي إذا بدأ يكتب مقالًا أستطيع أن أتمه، دون أن أسأله ماذا كان يريد أن يقول، وكان هو يفعل نفسي الشيء!! 1. وسنضع أمامك نموذجين للأخوين علي ومصطفى أمين في هذا الجال الكتابي الرائع.
علي أمين 1914-1977 وريادته في كتابة الفكرة:
مهندس الصحافة المصرية بإجماع الجميع، عمل خلال دراسته بإنجلترا مراسلًا لمجلة "روز اليوسف" وبعد عودته لمصر عمل في مجلة آخر ساعة 1936، ثم انتقل إلى مجلة "الاثنين" أسس وشقيقه مصطفى أمين أخبار اليوم 1944، وتولى إصدار عدد من الصحف والمجلات مثل: آخر لحظة والجيل الجديد وهي وكتاب اليوم، ثم أصدر بعد ذلك "الأخبار"1952. وفي 1965 فرضت مراكز القوى عليه أن يغادر مصر
1 راجع: الـ 200 فكرة ص157 مصطفى أمين الطبعة الأولى 1979.
إلى لندن، وظل بها تسع سنوات لم ينصرف خلالها عن الكتابة، ثم عاد لمصر بعد نصر أكتوبر العظيم، وتولى مجلس إدارة الأهرام ومجلس إدارة أخبار اليوم 1974.
وهذه أول فكرة كتبها المرحوم علي أمين بصحيفة الأخبار تناول فيها أهم مائة في العالم فقال:
"أصدر المؤرخ الأمريكي "دونالدرونسون" كتابًا بعنوان "أهم مائة في العالم" وسجل فيه أسماء المائة الذين يعتقد أنهم بقوتهم أو بأعمالهم أو بشخصياتهم أثروا في العالم في الخمس عشرة سنة الأخيرة. وأول رجل في كتاب المؤرخ الأمريكي هو "ستالين" وآخر رجل هو "شارلي شابلن" الممثل الهزلي".
وقال "روبنسون" في كتابه إن مثل "ستالين" هو أقسى عقل في العالم ووضع معه في القائمة الرفيق "مولوتوف" ثم الرفيق "بيريا" رئيس الجواسيس في روسيا، أما جروميكو وفيشتكي فقد وضعهما المؤلف في مرتبة السعاة والخدم، وسجل بين المائة أرملة الرئيس "روزفلت" و"إيفا" زوجة "بيرون" دكتاتور الأرجنتين".
"ولقد خطر لي وأنا أقرأ هذا الكتاب أن أتساءل
…
من هم أهم مائة في مصر؟ فوجدت أكثر من ألف رجل مهم في مصر، ولكني لم أجد عشرة أثروا على مصر بقوتهم أو بأعمالهم أو بشخصياتهم في الخمس عشرة سنة الأخيرة. لقد وجدت بعض النساء ولكن لم أجد هذا العدد الضخم من الرجال..! فما رأيك أنت؟ 1".
وكتب الأستاذ مصطفى أمين في "فكرة" عن الشاعر كامل الشناوي فقال:
"لو عاش الشاعر كامل الشناوي في عهد آلة التسجيل لكان من أصحاب الملايين! وكنت أقول له لو أنه سجل كل كلمة يقولها خلال الأربع
1 راجع: أخبار اليوم في 23/ 2/ 1980 فقد تضمنت صفحة "أخبار الكتب وحكايات الأدب" التي يقدمها نبيل أباظة أول فكرة سجلها المرحوم علي أمين في الأخبار.
والعشرين ساعة لاستطاع أن يؤلف كتابًا ممتعًا مرة كل أسبوع، كان كامل يحب أن يتكلم ويكره أن يكتب، إذا حضر مجلسًا ملأه مرحًا وضحكًا، وإذا انفرد بنفسه بكى! فقد كان يحب الناس ولا يحب نفسه، يعشق أن يتطلع في وجوه الناس ويمقت أن ينظر إلى وجهه في المرآة، كان بدينًا جدا، ولم يكن جميلًا، ولكنك تنسى بدانته لخفة ظله، ويخفي روحه الجميل عن الناس عدم جمال وجهه! ".
"كان خطيبًا ممتازًا ولكنه يخشى مواجهة الجماهير، وكان شاعرًا رائعًا ولكنه لم يتم سوى ديوان واحد! وكان عضوًا في مجلس النواب لمدة خمس سنوات ولم يسمعه النواب يتكلم سوى مرة واحدة فقد كان خجولًا، وكان لا يثق في قدرته على إقناع الجماهير، مع أنه كان من أقوى الرجال الذين عرفتهم فصاحة وبلاغة وفخامة أسلوب! وكان بطيئًا في الكتابة، كنت أقفل عليه باب مكتبه عدة ساعات ثم أفتح الباب فأجده كتب ثلاثة أو أربعة أسطر! فهو ينحت الكلمات لا يكتب حتى يشطب ما كتب، ويمزق الورقة ويبدأ الكتابة من جديد، يتردد في كل كلمة، ويتوقف أمام كل معنى، ويختار الجملة كأنه تاجر مجوهرات يختار فصوص الماس، والياقوت! وكان ينام النهار ويسهر الليل، يمقت أن ينام في فراشه كسائر الناس، هوايته أن ينام في سيارة تطوف به أنحاء المدينة عدة ساعات، وعندئذ فقط ينام نومًا عميقًا، لا يستيقظ إلا عندما تقف السيارة".
"ولم يتزوج أبدًا، ولا فكر في الزواج، ولكن ما من ملكة جمال إلا وأحبها، وما من نجمة سينمائية إلا وعشقها، وما من فاتنة إلا ونظم فيها قصيدة غزل! ولكنه لا يستطيع أن يحب امرأة واحدة أكثر من شهر، فهو يغير ويبدل وكأنه يختار الكلمات والمعاني في مقال يكتبه أو قصيدة ينظمها! عندما كان شابا صغيرًا أحب مجالس الرجال الكبار، وعندما أصبح رجلًا كبيرًا عشق مجالس الشباب الصغار! عندما كان فقيرًا معدمًا كانت هوايته معرفة أصحاب الملايين، وعندما أصبح يتقاضى مرتبا ضخمًا من الصحافة أصبحت هوايته مصاحبة الفقراء والبؤساء والمعدومين! وكان قبل كل هذا إنسانًا1".
1 راجع: الـ 200 فكرة ص47 مصطفى أمين الطبعة الأولى.
وعلى الجملة تتميز الأفكار التي كتبها الأخوان علي ومصطفى أمين بحيوية دافئة، وقوة واضحة في التعبير والتصوير، وأسلوب رائع جذاب، وجمل موسيقية مركزة، وعبارات رشيقة ممتعة، وهي أولًا وأخيرًا ثروة ثرثرة، وذخيرة حية، تزود القارئ بحصيلة من المعرفة، وتجربة الحياة، وحكمة اليوم بجانب الوقوف على طبائع الناس، وأسرار الإنسان في معترك الحياة.
خصائص العمود الصحفي:
يتميز العمود الصحفي -سواء تضمن خاطرة أو فكرة أو رأيًا- بسمات معينة وخصائص بارزة أهمها:
1-
جمال الأسلوب:
يشبه العمود الصحفي المقال الأدبي في العناية باختيار الألفاظ، وجودة التعبير، وقوة التصوير وحلاوة الأساليب. وهو مجال النبوغ والإبداع الأدبي وغيرها من الأشياء التي يمتاز المقال الأدبي به.
2-
وضوح السخرية:
يسود عنصر السخرية المقال والعمود الصحفي معًا، إلا أن السخرية في المقال أوسع منها في العمود. ومن الطبيعي ضياع السخرية في طيات التوسع والنبوغ، لذا نجد تأثر القراء بسخرية العمود أكثر من المقال؛ لأنهم يدركونها في العمود من أقصر طريق، بينما يضلون الوصول إليها في المقال لكثرة المسالك التي تؤدى بها.
3-
عنصر الذات:
العمود الصحفي أقرب إلى الأدب الخالص، والفرق بين الأدب والصحافة، أن الأول ذاتي، والثاني موضوعي، ومن ثم تقوى الرابطة بين محرر العمود وقرائه، لذا لزم اهتمامه بمشكلات الأفراد ومعالجتها، وعلى هذا يتوفر لكتاب الأعمدة جذب القراء إليهم، والتأثير في نفوسهم، بواسطة السطور القليلة التي يدبجونها.
4-
التشابه في الصياغة:
يشبه العمود الصحفي المقال في صياغته؛ لأن كلا منهما يبدأ بفكرة يدور الكاتب حولها، ويدلل عليها بالأمثلة والشواهد والبراهين، حتى ينتهي إلى النتيجة التي يريد الوصول إليها، وقد يأتي العمود على هيئة رسالة تحمل شكوى من أمر، أو تناول وضعًا معينًا، ومن ثم لزم أن يرد كاتب العمود على صاحب الشكوى، ثم يوجه خطابه إلى ولاة الأمر، ليزيلوا أسباب الشكوى، أو يزيد من ثقة الفائدة ومضمونها.
5-
الإيجاز في العبارة:
تفرض المساحة المحددة للعموم على الكاتب أن يوجز في عبارته، ولا يلجأ إلى الإسهاب؛ لأن العمود الصحفي لا يتسع لأكثر من فكرة أو خاطرة أو رأي، وإلا خرج عن حجمة إذا تجاوز الكاتب ذلك. هذا ويلاحظ أنه إذا طلب من كاتب العمود الصحفي أن يكتب مادة أخرى كالقصة أو المقال أو التحقيق أو الحديث، فعليه أن يصطنع أسلوبًا آخر يخالف أسلوبه في كتابة العمود. ويبدو هذا واضحًا لدى الكتاب الذين يتناولون أكثر من مادة من مواد الصحيفة.