المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: الشيخ إبراهيم اليازجي 1847- 1906 - المقال وتطوره في الأدب المعاصر

[السيد مرسي أبو ذكري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة

- ‌مفهوم المقال:

- ‌الباب الأول: المقال وتطوره

- ‌الفصل الأول: ملامح المقال في الأدب العربي القديم

- ‌مدخل

- ‌أولا: الحسن البصري 21-110ه

- ‌ثانيا: عبد الحميد بن يحيى الكاتب 132هـ-750م

- ‌ثالثا: عبد الله بن المقفع

- ‌رابعًا: الجاحظ: 150-255ه

- ‌خامسا: ابن قتيبة 213-276ه

- ‌سادسا: أبو حيان التوحيدي 310-400ه

- ‌سابعا: إخوان الصفا

- ‌ثامنا: ابن خلدون 732-808ه

- ‌الفصل الثاني: المقال في طوره الحديث

- ‌مدخل

- ‌أولًا: محاولات الاوربيين

- ‌ميشيل دي مونتين 1532-1592

- ‌ فرانسيس بيكون 1561-1626:

- ‌ المقال في القرن الثامن عشر:

- ‌ المقال في القرن التاسع عشر:

- ‌ثانيًا: المقال في الأدب العربي الحديث

- ‌مدخل

- ‌الطور الأول:

- ‌الطور الثاني:

- ‌الطور الثالث:

- ‌الطور الرابع:

- ‌الطور الخامس:

- ‌ثالثا: أثر الصحف في تطور المقال

- ‌الفصل الثالث: تنوع المقال

- ‌مدخل

- ‌أولًا: المقال بالنسبة لموقف الكاتب

- ‌المقال الذاتي

- ‌ المقال الموضوعي:

- ‌ المقال الموضوعي الذاتي:

- ‌ثانيًا: المقال بالنسبة لاسلوب الكاتب

- ‌المقال الأدبي

- ‌ المقال العلمي:

- ‌الفصل الرابع: المقال والكتب

- ‌الباب الثاني: المقال وتنوع الأساليب

- ‌الفصل الأول: المقال والأسلوب اللغوي

- ‌مدخل

- ‌أولا: أحمد فارس الشدياق 1805-1887

- ‌ثانيا: الشيخ إبراهيم اليازجي 1847- 1906

- ‌ثالثًا: محمد إبراهيم المويلحي 1858-1930

- ‌الفصل الثاني: المقال وأسلوب الاصلاح الاجتماعي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: عبد الرحمن الكواكبي 1848-1902

- ‌ثانيًا: قاسم أمين 1863-1908

- ‌ثالثًا: ولي الدين عدلي يكن 873-1921 3

- ‌رابعًا: عبد العزيز جاويش 1876- 1929

- ‌الفصل الثالث: المقال والأسلوب الديني

- ‌مدخل

- ‌أولًا: الشيخ محمد عبده 1848-1905

- ‌ثانيًا: الشيخ علي يوسف 1863-1913

- ‌ثالثًا: شكيب أرسلان 1869-1946

- ‌رابعًا: أحمد أمين 1886-1954

- ‌الفصل الرابع: المقال والاسلوب العلمي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: يعقوب صروف 1852-1927

- ‌ثالثًا: سلامة موسى 1888-1958

- ‌الفصل الخامس: المقال والأسلوب الفني

- ‌مدخل

- ‌أولًا: مصطفى لطفي المنفلوطي 1876-1924

- ‌ثانيًا: مصطفى صادق الرافعي 1880-1937

- ‌ثالثًا: جبران خليل جبران 1883-1931

- ‌رابعًا: أحمد حسن الزيات 1885-1968

- ‌خامسًا: عباس محمود العقاد 1889-1964

- ‌سادسًا: طه حسين 1889-1973

- ‌سابعًا: عمر فاخوري 1895-1946

- ‌ثامنًا: مي زيادة 1897-1941

- ‌الفصل السادس: المقال والأسلوب الفلسفي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أحمد لطفي السيد 1872-1962

- ‌ثانيًا: علي آدهم 1897-1981

- ‌ثالثًا: زكي نجيب محمود 1905

- ‌الفصل السابع: المقال والأسلوب السياسي

- ‌مدخل

- ‌أولًا: عبد القادر حمزة 1880-1941

- ‌ثانيًا: أمين الرافعي 1886- 1927

- ‌ثالثًا: محمد حسين هيكل 1888-1956

- ‌رابعًا: محمد التابعي 1895-1976

- ‌خامسًا: فكري أباظة 1897-1979

- ‌الفصل الثامن: المقال والأسلوب الساخر

- ‌مدخل

- ‌أولًا: محمد السباعي 1881-1931

- ‌ثانيًا: عبد العزيز البشري: 1886-1943

- ‌ثالثًا: حسين شفيق المصري المتوفى 1948

- ‌رابعًا: إبراهيم عبد القادر المازني 1890- 1949

- ‌الباب الثالث: المقال في الصحف المعاصرة

- ‌الفصل الأول: المقال وقضايا الفكر

- ‌مدخل

- ‌أولًا: قضية المرأة

- ‌ثانيًا: كتاب "الإسلام وأصول الحكم

- ‌ثالثًا: كتاب "في الشعر الجاهلي

- ‌رابعًا: قضية التبشير

- ‌الفصل الثاني: المقال المعاصر

- ‌مدخل

- ‌أولًا: المقال العرضي

- ‌ثانيًا: المقال النقدي

- ‌ثالثًا: المقال النزالي

- ‌المقال في صحف اليوم

- ‌مدخل

- ‌ الأهرام:

- ‌ الأخبار:

- ‌ الجمهورية:

- ‌الفصل الثالث: الوان من المقال في صحف اليوم

- ‌مدخل

- ‌أولًا: الخاطرة

- ‌مدخل

- ‌في الأهرام:

- ‌في الأخبار وأخبار اليوم

- ‌في الجمهورية:

- ‌ثانيًا: الفكرة

- ‌ثالثًا: في الكاريكاتير

- ‌خاتمة:

- ‌أهم المصادر:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ثانيا: الشيخ إبراهيم اليازجي 1847- 1906

‌ثانيا: الشيخ إبراهيم اليازجي 1847- 1906

نشأ محبا للعلم، ميالًا للبحث، شغوفًا بالدرس، حتى أصبح دائرة معارف لغوية وأدبية وعلمية، كلف باللغة العربية، وانكب على تفهمها بفكر نير، ورأي صائب حتى استوعب ما تضمنته المعاجم والآثار الأدبية، وخلفه فحول اللغة والأدب الأقدمين، ووقف على دفائن اللغة، وتغلغل في مطاوي عبقريتها، يستجلي أسرارها، ويبحث عن كنوزها حتى أعطانا من تراث الماضي ما كان مدفونًا في الخزائن، ومستورًا في مظان المصادر.

خلف الشيخ إبراهيم اليازجي آثارًا عديدة في مجالات مختلفة، أبرزها تصحيح الأخطاء التي جاءت في معجم "لسان العرب" لابن منظور المتوفَّى حوالي 1311هـ ومعجم "تاج العروس" لمحب الدين أبي الفيض السيد محمد مرتضى الحسني الواسطي المتوفَّى 1791م، ومعظمها لا يزوال مخطوطًا، لا سيما معجمه اللغوي الذي سماه "الفرائد الحسان في قلائد اللسان".

حرر العديد من الأبحاث المفيدة، والمقالات المترسلة بجريدة النجاح

1 راجع: تاريخ الأستاذ الإمام ص997 لمحمد رشيد رضا.

ص: 125

1872 جمع فيها بين المتانة والبلاغة وحتى دعاه معاصروه إمام الإنشاء وحجة اللغة، ومقالاته في مجلة "الطبيب" 1884 تثبت علو كعبه في عالم التحرير والتعبير، واستقل بمجلة "الضياء" 1898 واهتم فيها بخدمة اللغة في عصره، ودبج فيها موضوعات حول أخطاء الصحف اللغوية والتعريب، وأغلاط العرب القدماء والمولدين، كما أشار إلى الأخطاء التي وقع فيها، والتي وقع أبوه فيها من قبل. ونبه الكتاب في مقالاته إلى ضرورة انتقاء الكلمات العربية والألفاظ الاصطلاحية للمخترعات الحديثة مثل: الساري لقضيب الصاعقة، والمنطاد للبالون، والبرق للتغراف، والبريد للبوسطة، والبطاقة للكارت، والجريدة للجرنال، وغير ذلك من الألفاظ التي تدور على ألسنة كثير من الأدباء اليوم.

أسلوب اليازجي:

كان إبراهيم اليازجي صاحب علم واسع، ونظر دقيق، ورسالة آمن بها، يسهر ليله وراء شاردة عنت له، ويقضي نهاره ناشرًا وكاتبًا ومعلمًا، فرفع اللغة بإنشاء لا يعتوره ركاكة، ولا يتخلله تعقيد، فكان في طليعة الذين أسسوا النهضة، ومشوا بها إلى الأمام، وقد ترسم خطاه نفر من الكتاب لتفرده في عالم الكتابة، ودنيا البحث، ومجتمع الثقافة، وحملوا الراية من بعده، وأهم ما يميز أسلوبه ما يلي:

1-

صحة التركيب، وسلامة التعبير، وفصاحة العبارة، ومتانة الأسلوب.

2-

السجع الخالي من التعقيد والمعاظلة في رسائله ومقاماته وكتبه ومقالاته.

3-

تضمنه استعارات غربية إلا أنها جديدة، أفادت اللغة، وخدمت الأدب.

4-

تبحر في اللغة، وتعمق في أصول اشتقاقها، مما سهل عليه بعث اللغة كي تجاري العصر.

ص: 126

5-

عليه من التقليد روعة القديم، ومن الابتكار قشاية الحدوث.

6-

الجمع بين المتانة والسهولة، والأخذ بكل جديد عن عقل وفهم وإدراك.

7-

يعبر عن المقصود بأوضح الصور، فتراه يستعمل لكل معنى اللفظ الموضوع له، بحيث ينتقل القارئ من اللفظ إلى المعنى بدون واسطة.

للشيخ إبراهيم اليازجي مقال بعنوان: "اللغة والعصر"، كتبه يوم انصرف الأدباء إلى تحصيل ملكة الكتابة العربية الصافية، والتضلع من اللغة بحقيقتها ومجازها فقال:

"لم يبقَ في أرباب الأقلام ومنتحلي صناعة الإنشاء من هذه الأمة من لم يشعر بما صارت إليه اللغة لعهدنا الحاضر، من التقصير بخدمة أهلها والعقم بحاجات ذويها، حتى لقد ضاقت معجماتها بمطالب الكتاب والمعربين، وأصبحت الكتابة في كثير من الأغراض ضربًا من شاق1 التكليف، وبابًا من أبواب العنت. واللغة لا تزداد إلا ضيقًا باتساع مذاهب الحضارة، وتشعب طريق التفنن في المخترعات والمستحدثات إلى أن كادت تنبذ2 في زوايا الإهمال، وتلحق بما سبقها من لغات القرون الخوالي، ومست الضرورة إلى تدارك ما طرأ عليها من التلم قبل تمام العفاء، وقبل أن ينادي عليها مؤذن العصر: سبحان من تفرد بالبقاء، ويختم على معجماتها بقصائد التأبين والرثاء.

تلك هي اللغة التي طالما وصفها الواصفون بأنها أغزر3 الألسنة مادة وأوسعها تعبيرًا، وأبعدها للأغراض متناولًا، وأطوعها للمعاني تصويرًا، قد أفضت اليوم إلى حال لو رام الكاتب فيها أن يصف حجرة

1 الشاق: المتعب.

2 تنبذ: تلفظ وتترك جانبًا.

3 أغزر: أوفر.

ص: 127

منامه، لم يكد يجد فيها ما يكفيه هذه المئونة اليسيرة، فضلًا عما وراء ذلك من وصف قصور الملوك والكبراء، ومنازل المترفين والأغنياء، وشوارع المدن الغناء، وما ثم من آنية وأثاث، وملبوس ومفروش، وغير ذلك من أصناف الماعون وأدوات الزينة، مما لا نجد لشيء منه اسمًا في هذه اللغة، ولا يكون حظ العربي من وصفه إلا العي والحصر1، وطي لسانه على معانٍ في قلبه لا ينسى له إبرازها بالنطق، ولا يجد سبيلًا إلى تمثيلها باللفظ، كأن المقاطع التي يعبر بها عن هذه المتخصصات لم يخلق لها موضع بين فكيه، وليست ما يجري بين لهاته2 وشفتيه، فعاد كالأبكم يرى الأشياء ويميزها، ولا يستطيع أن يعبر عنها إلا بالإشارة، ولا يصفها لا بالإيماء، يا ليت شعري، ما يصنع أجدادنا، لو دخل أحد المعارض الطبيعية أو الصناعية، ورأى ما ثمة من المسميات العضوية وغير العضوية، من أنواع الحيوان وضروب البيان وصفوف المعادن، وعاين3 ما هناك من الآلات والأدوات، وسائر أجناس المصنوعات، وما تتألف منه القطع وأجزاء، بما لها من الهيئات المختلفة، والمنافع المتباينة، وأراد العبارة عن شيء من هذه المذكورات؟

ثم ما هو فاعل لو أراد الكلام فيما يحدث كل يوم من المخترعات العلمية والصناعية والمكتشفات الطبيعية والكيماوية، والفنون العقلية واليدوية، وما لكل ذلك من الأوضاع والحدود والمصطلحات التي لا تغادر جليلًا4 ولا دقيقًا؟ ألا تدل عليه بلفظة المخصوص. لا ريب أن الكثير من ذلك لا يتحرك له به لسان ولا يعهد به بين ألواح معجمات اللغة، ألفاظًا يعبر بها عنه، ولا يغنيه في هذا الموقف ما عنده من ثمانين اسمًا للعسل، ومائتي اسم للخمر، وخمسمائة للأسد، وألف لفظة للسيف، ومثلها للبعير، وأربعة آلاف للداهية، وما يفوت الحصر لشيء آخر، حرص

1 الحصر: العي في النطق وعدم الإفصاح في المعنى.

2 اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق من أعلى الغم.

3 عاين: شاهد.

4 جليلًا: عظيمًا.

ص: 128

مؤلف القاموس على استقصاء ألفاظه، حتى لم يكد يذكر مادة إلا وفيها شيء يشير إليه، ويدل عليه.

على أن اللغة مرآة أحوال الأمة وصورة تمدنها ورسم مجتمعها، وتمثال أخلاقها وملكاتها، وسجل مالها من علوم وصنائع وآداب، وإنما نضع منها على قدر ما تقتضيه حاجاتها في الخطاب، وما يتمثل في خواطرها، أو يقع تحت حسها من المعاني، ومعلوم أن العرب واضعي هذه اللغة كانوا قومًا أهل بادية، وبيوتهم الشعر والأديم1، ومفرشهم الباري2 والبلاس3 ولباسهم الكساء والرداء، أثاثهم الرحى والقدر، وآنيتهم القعب والجفنة4، إلى ما شاكل ذلك مما لا يكادون يعدونه في حل ولا ترحال. فأين هم؟ وما نحن فيه لهذا العهد من اتساع مذاهب الحضارة، والاستبحار في الترف واليسار، وكثرة ما بين أيدينا من صنوف المرافق5، وأنواع الأثاث والزخارف، وما نحن فيه من التفنن في أحوال المجتمع والمعاش، فضلًا عما بلغ إليه أهل هذا العصر من التبسط في مناص العلم والصناعة، مما كان أولئك بمعزل عن جميعه، إلا ما حدث بعد ذلك في عهد استفحال الإسلام، مما ذهب عنا أكثره، وما كان فيه لو بلغ إلينا إلا غناء قليل.

ومهما يكن من حال أولئك القوم، وضيق مضطرب الحضارة عندهم، وما يجد في ألفاظهم من ألفاظه والتقصير عن حاجات هذا الزمن، فلا يتوهمن متوهم أن ذلك وارد على اللغة من هرم أدركها، فقعد بها عن مجاراة الأحوال المصرية، وأناخ بها في ساقة الألسنة الحالية6، فإن معنى الهرم7 في اللغة أن يحدث عند المتكلمين بها معانٍ قد خلت ألفاظها

1 الأديم: الجلد.

2 الباري: الحصير المنسوج من القصب.

3 البلاس: بساط نسج من شعر الماعز.

4 القصب: القدح الضخم يصنع من الخشب. الجفنة: القصعة الكبيرة.

5 المرافق: الأشياء التي ينتفع بها.

6 ساقة الألسنة: أي مؤخرة اللغات.

7 الهرم: الشيخوخة.

ص: 129

عنها، ثم تضيق أوضاعها من إحداث1 ألفاظ تؤدي بها تلك المعاني، فيطرأ على اللغة النقض حينا بعد حين، إلى أن تعجز عن أداء أغراض أهلها، ولا تبقى صالحة للاستعمال، وحينئذ فلا ينبغي ألا إن يلقى حبلها على غازبها2، أو يستعان بغيرها على سد ما عرض فيها من الخلل، بما يغير من ديباجتها، وينكر أسلوب وضعها حتى تتبدل هيئاتها على الزمن، وتصير على الجملة لغة أخرى.

وليس بمنكر أن ما وصفناه من هذه الحال يشبه في بادئ الرأي ما تشاهده من حال لغتنا اليوم، وما لم نزل ننعاه عليها منذ حين من تقصيرها عن الوفاء بمطالبنا العصرية، إلا أن ذلك إذا استغربت أوجهه وأسبابه، وسبرت غور اللغة في نفسها، وقست مبلغ استعدادها، علمت أنه ليس منها في شيء، وأيقنت أنها لا تزال في ريعان شبابها وطور ترعرها، وأن فيها بقية صالحة لأن تجاري أوسع اللغات وأكثرها مادة، ولكن ما أدركها من ذلك وارد من قبل الأمة، وتخلفها في حلبة الحضارة والمدنية؛ إذ اللغة بأهلها تشب بشبابهم، وتهرم بهرمهم، وإنما هي عبارة عما يتداولونه بينهم، لا تعدو ألسنتهم ما في خواطرهم، ولا تمثل ألفاظهم إلا صور ما في أذهانهم.

وبدهي أن اللغة توضع دفعة واحدة، وإنما كان يوضع منها الشيء بعد الشيء على قدر ما تدعو إليه حاجة المتكلمين بها، وقد اختصت هذه اللغة بمزية عز أن توجد في غيرها، وهي أن أكثر ألفاظها مأخوذ بالاشتقاق اللفظي أو المعنوي، بحيث صارت إلى ما صارت إليه من الاتساع الذي لا تكاد تضاهيها فيه لغة على كونها من أقل اللغات أوضاعًا، إلا أنها من أكثرهن صيغًا وأبنية، وهو السر في قبولها هذا الاتساع العجيب، فضلًا عما فيه من تشعب طرق المجاز.

واعتبر ما ذكرناه من ذلك بالرجوع إلى ما كان عليه من اللغة زمن

1 إحداث: وضع.

2 يلقى حبلها على غارمها: أي تترك وشأنها، تذهب حيث شاءت، والغارب: رقبة الجمل، وهو تعبير صحراوي.

ص: 130

الجاهلية وفي صدر الإسلام، ومقابلتها بما بلغت إليه على عهد الخلفاء من بني العباس، بعد سكوت الغارات واستتباب الفتوح، وتنبه الأمة لطلب العلوم، وتبسطها في فنون الحضارة، بحيث خرجوا بها من حال الخشونة اليدوية إلى أبعد مذاهب المدنية الشائقة لعهدها إذ ذاك، ولم يكادون يدخلون فيها لفظًا أعجميًّا1، وإلا اضطروا فيها إلى وضع جديد، ولكنها خدمتهم بنفس أوضاعها التي وضعها العرب، فاشتقوا منها ما لا عهد به للعرب على وجهه الذي نقلوه إليه، ولا نتكلم به أصلًا، حتى أحاطوا بصناعة الفرس وعلوم اليونان، وأدخلوا كثيرًا من مصطلحات الأمم التي اجتاحوها2 شرقًا وغربًا، وزادوا على ذلك كله ما استنبطوه3 بأنفسهم.

واللغة شايعة لهم في كل ما أخذوا فيه، لم تنضب مواردها دونهم، ولا رأينا من شكا منهم عجزًا ولا تقصيرًا، إلى أن أدركهم من تبدل الأطوار، وغارات الأقدار، ما وقف بهم عند ذلك الحد، فوقفت اللغة عندما نراه فيما وصل إلينا من كتبهم. وتوالى الاجتياح بعد ذلك على الأمة، وتتابعت دواعي الدمار، حتى اندرست أعلام حضارتها، وذهبت علومها أدراج الرياح، فزال أكثر اللغة من ألسنتها بزوال معانيها، حتى صار الموجود منها اليوم لا يقوم بخدمة أمة متمدنة، ولا هو أهل لأن يبلغ به ما منزلته تلك، ولذلك فإن كان ثمة هرم فإنما هو في اللغة لا في اللغة؛ لأن ما عرض لها من الهجر والإهمال غير لاحق بها، ولا ملحق بها وهنًا ولا عجزًا4، وإنما هو عجز في ألسنة الأمة ومداركها، وتأخر في أحوالها واستعدادها. ولو صادفت من أهلها البقاء على عهد أسلافهم من السعي في سبل الحضارة وتوسيع نطاق العلم، لم تقصر عن مشايعتهم في كل ما فاتهم من الأطوار، حتى تبلغ بهم إلى مجاراة العصر الحاضر.

1 يستثنى من ذلك كتب الطب.

2 اجتاحوها: دخلوها بعامل الفتح.

3 استنبطوه: اخترعوه بأنفسهم.

4 الوهن: الضعف والتعب.

ص: 131

ولقد أتى على اللغة مئات من السنين بعد ذلك لم يزد فيها حرف بل لم يكد يحفظ منها ما يزيد على الحوائج البيئية والسوقية، وعلى تناقض وتراجع عددها يومًا بعد يوم، بما طرأ1 على أهلها من الضغط والفاقة2، وما اتصل بذلك من استيلاء الجهل، وتقلص العمران، وذهاب الحضارة من بينهم، حتى عادت حوائج كثير من أهل المدن الحافلة لا تكاد تتعدى حوائج البدوي والأَكَّار3.

وما دامت المعاني التي يعبر عنها باللغة معدومة، فلا سبيل إلى الألفاظ الدالة عليها؛ إذ اللفظ إنما يتخذ للعبارة عن الخواطر التي في التنفس، فلا يكون إلا على قدرها بالضرورة، وزاد على ذلك كله ذهاب ما كتب المتقدمون، بعضه بالإحراق كما تم في مكتبة قرطبة، وكان هذا في مقابلة ما وقع من مثله بالإسكندرية وفارس4، وبعضه بالاجتياح5 والنهب، فلا بقي في مكانه ينتفع به المتأخر، ولا احتفظ به الذي نهبه لجهله قيمته.

وبقي الشيء اليسير نجده اليوم في مكاتب الأعاجم، وأكثره مما اشترى من أيدينا بالذهب. فلا غرو أن نشأ عن تلك أحوال كلها ذهاب هذه الأمة من ألسنة الأعقاب حتى لو رام أحدنا إثارة دفائنها وتعهدها بالتجديد والإحياء، لما وجد منها في البلاد إلا الشيء النزر6 لا يعدو في الغالب علوم الدين، وما يتصل بها مما لم يكد أهل بلادنا، يحافظون على سواه"7.

يؤكد اليازجي في مقاله أن اللغة لم توضع دفعة واحدة، وإنما توالدت ألفاظها حسب الحاجة؛ كي تؤدي ما يحتاجه الناس عملًا بسنة الاشتقاق والوضع والارتجال، فكشف النقاب عن إمكانيات اللغة العربية على استيعاب جميع المدنيات. والمقال يبرز قدرة اليازجي على توضيح ما يدور بخلده دون اللجوء إلى المترادفات في إبراز فكرته، وتصوير خواطره.

1 طرأ على أهلها: أصاب أهلها.

2 الفاقة: الحاجة والفقر.

3 الأَكَّار: الْحَرَّاث.

4 فارس: بلاد إيران "العجم".

5 الاجتياح: فتح الجيوش للبلاد، والدخول إليها عَنْوَةً.

6 النزر: القليل اليسير.

7 راجع إبراهيم اليازجي ص81- 87 العدد 14 من سلسلة نوابغ الفكر.

ص: 132