الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سابعًا: عمر فاخوري 1895-1946
كاتب مبدع، فيه روح شاعر ملهم، وأديب لبناني موسوعي الثقافة والفكر، ألم بفنون العربية، وتجاوزها إلى الأدب الغربي وبخاصة فرنسا، فألف بين تراث الشرق والغرب تأليفًا، تلمح فيه دقة الملاحظة، وتدرك منه مواضع الربط بين لغات الفكر، واهتمامه بآثار الفكر واللغة والتحقيق.
ترك آثارًا مطبوعة في كتب خفيفة، ضمت مقالاته وخطبه وأحاديثه التي نشرتها الصحف والمجلات، وضم كل طائفة ذات موضوع واحد في كتاب، وحملت كتبه عناوين طريفة تدل على محتوياتها، وتمثل مرحلة من مراحل التطور والتحول في حياة عمر فاخوري هي: كيف ينهض العرب؟ 1913، وأراء غربية في مسائل شرقية 1925، والباب الموصود 1938، والفصول الأربعة 1941، ولا هوادة 1942، وأديب في السوق 1944، والحقيقة اللبنانية 1944 وحجر الزاوية 1946. وترجع أهمية هذه الآثار لما تضمنته من أراء تحررية وسطور تشع بالفكر المتجدد، وتعبر عن الشخصية العربية الحرة، وتسخر ممن تكلفوا الأدب، فجاء أجوف الفكرة، لا تنبض فيه الحياة.
أسلوب عمر فاخوري:
سطر عمر فاخوري مقالات نقدية وفكرية بأسلوب ساخر حينًا، ولاذع حينًا آخر، فنبه الأذهان على أدب حديث تناول قضايا الحياة والإبداع، وأدرك المثقفون من خلاله أنهم أمام مثقف كبير، ارتوى من ينابيع شتى، وسكبها في أفكاره التحررية، وأهم ما يميز أسلوبه ما يلي:
1-
الجمع بين الإيجاز والدساسة.
2-
التعبير عن صميم الموضوع، بحيث يحس القارئ بمتعة، وينتهي منه إلى مكتسب فكري وذوقي، فتدخل في محتواه النفس والشعور.
3-
موضوعاته طريفة، وتعبيره بليغ، بعد عن الركاكة، وسلم من العجمة ويتسم بالجدة والابتكار، على الرغم من ترادف الموضوعات وتعددها.
4-
يمثل النموذج الفني والفكري، المتأثر بأدب المغرب وثقافته، مع المقارنة والموازنة والاقتباس.
5-
يحتوي على صور العصر، ويمثل أدب صاحبه ومجتمعه الذي عاش فيه خير تمثيل، أو قل يستمد المعاني والصور من ينابيع الحياة.
6-
يتسم بالإبداع الفني، ويتم عن شخصية صاحبه بكل مقوماتها وخصائصها، ويعبر عن أهدافه ومراميه، ومطبوعًا بطابع السخرية والتوثب.
7-
يجد القارئ في عبارته جلجلة غير مؤذية، وروعة لا يشاركه فيها أديب.
8-
يتميز برهافة الإحساس، وسحر التأثير، والانفراد بطريقة لاذعة في النقد.
9-
يعتمد على تحليل الشعور والأفكار تحليلا يوصله إلى الحقيقة.
وهذا جزء من مقال له بعنوان "ربيعي الأول" جاء فيه: "منذ أغريت نفسي بأن تتحدث عن الربيع فأجابت بعد لأي، وأنا اكتشف أشياء وأشياء، وكأني لا عهد لي بها من قبل، ففي جنة البيت أبصرت فجأة شجيرة مشمش "يزعمون أنها حضرت مولدي" أعجبني منها أول وهلة، هذا الزهر الأحمر الضارب إلى صفرة، عالقًا بأغصانها قناديل صغيرة مضاءة في رائعة النهار، لأطفال في عيد، لكن ما لبث أن عرفت سر القناديل، فإذا كل واحد منهما لحظة عتب ساخر، ترمقني به الزهراء شذرًا، وهي تقول: "الآن رأيتني؟ " "الآن رأيتني؟ " تقولها وهي تتعمد شدى، كأنما يسوؤها أن أتقدم، فأشارك الأطفال أفراح عيدهم".
وخطر ببالي أن أذكر الشجرة أمسها القريب حين لم تكن سوى عيدان جرداء ممتدة في الأفق القاسي، أبدى تبسطها الفاقة في السؤال، لا لحم عليها ولا دم فغاظني أنها صدفت عني غير مبالية، وطفقت ترفل في خيلائها، كالصبية الحسناء ليلة عرسها، ترسل أخطر نظرة صادقة على حلتها متهادية ذات اليمين وذات الشمال، وودعتني بنفخة من أرج ساطع خيل إلي أنها تقهقه به ضاحكة".
"وسولت لي نفسي أن أثأر لها، فخرجت إلى الجنينة وأخذت بجصر الشجرة السعيدة فهصرته وهزهزته، فتساقطت المسكينة على رأسي وفوق كتفي وبين أقدامي، زهرات يتامى، وفيما أنا واقف أرجو أن أراها مجهشة
بالبكاء، إذا بها تتلملم بأسرع من لمح البصر، كأن لم يك شيء فتصلح زيها الذي تشعث قليلًا، ثم تعود في خيلائها، مضاءة بأنوار الربيع".
"قلت لنفسي وأنا أتكلف سرورًا ظاهرًا: "هلمي بنا في هذا اليوم المشرق من أيام البعث.. لنطرح الكتاب جانبًا، ولنمضي إلى الضاحية فنستقبل بشائر الربيع" فتبعتني نفسي كالمرغمة، وكنت أتلفت ورائي، حينًا بعد حين، لا أنظر إلي أين هي، ومشيت على مهل، وأنا أسرح الطرف معجبًا، كأني أفتح على الكون عينين جديدتين، لم يسبق أن استعملهما أحد كمثل نافذتين في دار مهجورة أقفلتا زمنًا طويلًا، فلما آت إلى الدار أهلها؛ وفتحت النافذتان أخذتا تنظران، وكأن الأرض بدلت والسماء غير السماء".
"وفيما نحن في الضاحية نبحث عن موكب الربيع تدق فيه البشائر، إذ تجهم وجه الدنيا وتريد بالسحاب، ثم أنزل المطر علينا مدرارًا، وهكذا عدنا من حيث أتينا، ونحن نقص على الناس أننا رأينا الربيع يدخل البلد متنكرًا في ثوب الشتاء، مشمرًا أذياله بين الوحل والماء".
- ذهب ربيع وجاء ربيع.
قالت ماري: ماري قرطيا التي لا تعرف شيئًا عن البروج لأختها.
- تعالى
…
انظري إلى هذه الشجرة الزاهرة في جنينة الجيران
…
سألني: "ما هذه الشجرة يا ماري؟ " أجبت شجرة مشمش. يا معلمي، قال: أواثقة أنت؟ نعم. وأعاد على السؤال ثم أخذ في الكتابة ليلة بطولها
…
فمزق كثيرًا من الورق، قبل أن يملأ صفحة واحدة1".
وهكذا كان عمر فاخوري كاتبًا مبدعًا في روح شاعر ملهم، عبر في مقالاته عن الأدب والحياة في ذاتية عميقة، وموهبة فنية طاوعته في معاناة الفكر والبيان، تجلى فيها إخلاصه للأدب، وتجافيه عن التكلف والتقليد.
1 راجع: عمر فاخوري ص115-116 العدد 89 من سلسلة أعلام العرب فبراير 1970.