الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخبر عن بني إسرائيل وما كان لهم من النبوة والملك وتغلبهم على الأرض المقدّسة بالشام وكيف تجدّدت دولتهم بعد الانقراض وما اكتنف ذلك من الأحوال
قد ذكرنا عند ذكر إبراهيم وبنيه صلوات الله وسلامه عليهم ما كان من شأن يعقوب بن إسحاق واستقراره بمصر مع بنيه الأسباط، وفي التوراة أنّ الله سماه إسرائيل. وإيل عندهم كلمة مرادفة لعبد وما قبلها من أسماء الله عز وجل وصفاته والمضاف أبدا متأخر في لسان المعجم، فلذلك كان إيل هو آخر الكلمة وهو المضاف. ثم قبض الله نبيّه يعقوب بمصر لمائة وسبع وثمانين سنة من عمره، وأوصى أن يدفن عند أبيه، فطلب يوسف من فرعون أن يطلقه لذلك، فأذن له. وأمر أهل دولته بالانطلاق معه، فانطلقوا وحملوه إلى فلسطين فدفنوه بمقبرة آبائه، وهي التي اشتراها إبراهيم من الكنعانيين. ورجع يوسف إلى مصر وأقام بها إلى أن توفي لمائة وعشرين سنة من عمره، ودفن بمصر وأوصى أن يحملوا شلوه معهم إذا خرجوا إلى أرض الميعاد، وهي الأرض المقدّسة.
وأقام الأسباط بمصر وتناسلوا وكثروا حتى ارتاب القبط بكثرتهم واستعبدوهم، وفي التوراة أنّ ملكا من الفراعنة جاء بعد يوسف لم يعرف شأنه ولا مقامه في دولة آبائه، فاسترقّ بني إسرائيل واستعبدهم. ثم تحدّث الكهّان من أهل دولتهم بأنّ نبوة تظهر في بني إسرائيل، وأنّ ملكك كائن لهم مع ما كان معلوما من بشارة آبائهم لهم بالملك، فعمد الفراعنة إلى قطع نسلهم بذبح الذكور من ذريتهم. فلم يزالوا على ذلك مدّة من الزمان حتى ولد موسى. وهو موسى بن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب.
وأمّه يوحانذ بنت لاوى عمة عمران وكان قاهث بن لاوى من القادمين إلى مصر مع يعقوب عليه السلام وولد عمران بمصر وولد هارون لثلاث وسبعين من عمره، وموسى لثمانين، فجعلته أمّه في تابوت وألقته في ضحضاح [1] اليمّ، وأرصدت أخته على بعد لتنظر من يلتقطه فتعرفه. فجاءت ابنة فرعون الى البحر مع جواريها فرأته
[1] في التوراة: أخذت له سفطا من البردي، وطلته بالحمر والزفت، ووضعت الولد فيه ووضعته بين الحلفاء، ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يفعل به.
واستخرجته من التابوت فرحمته. وقالت: هذا من العبرانيين فمن لنا بظئر [1] ترضعه.
فقالت لها أخته أنا آتيكم بها. وجاءت بأمّه فاسترضعتها له ابنة فرعون، إلى أن فصل.
فأتت به إلى ابنة فرعون وسمّته موسى وأسلمته لها. ونشأ عندها ثم شب، وخرج يوما يمشي في الناس وله صولة بما كان له في بيت فرعون من المربى والرضاع فهم لذلك أخواله، فرأى عبرانيا يضربه مصريّ فقتل المصري الّذي ضربه ودفنه، وخرج يوما آخر فإذا هو برجلين من بني إسرائيل وقد سطا أحدهما على الآخر فزجره، فقال له ومن جعل لك هذا؟ أتريد أن تقتلني كما قتلت الآخر بالأمس. ونمي الخبر إلى فرعون فطلبه، وهرب موسى إلى أرض مدين [2] عند عقبة أيلة.
وبنو مدين أمّة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام، كانوا ساكنين هناك وكان ذلك لأربعين سنة من عمره، فلقى عند مائهم بنتين لعظيم من عظمائهم فسقى لهما، وجاءتا به الى أبيهما فزوّجه بإحداهما، كما وقع في القرآن الكريم، وأكثر المفسّرين على أنه شعيب بن نوفل بن عيقا بن مدين وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال الطبريّ:
الّذي استأجر موسى وزوّجه بنته رعويل [3] وهو بيتر حبر مدين، أي عالمهم، وأن رعويل هو الّذي زوّجه البنت وأنّ اسمه يبتر. وعن الحسن البصريّ انه شعيب رئيس بني مدين. وقيل انه ابن أخي شعيب. وقيل ابن عمه. فأقام عند شعيب صهره مقبلا على عبادة ربّه، إلى أن جاءه الوحي وهو ابن ثمانين سنة، وأوحى إلى أخيه هارون وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، فأوحى الله إليهما بأن يأتيا فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذانهم من مملكة القبط، وجور الفراعنة، ويخرجون إلى الأرض المقدّسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فخرجا إليه وبلّغا بني إسرائيل الرسالة فآمنوا به واتبعوه، ثم حضرا إلى فرعون وبلّغاه أمر الله له بأن يبعث معهما بني إسرائيل وأراه موسى عليه السلام معجزة العصا، فكان من تكذيبه وامتناعه واحضار السحرة لما رأى موسى في معجزته ثم إسلامهم ما نصّه القرآن العظيم.
ثم تمادى فرعون في تكذيبه ومناصبته، واشتدّ جوره على بني إسرائيل واستعبادهم
[1] الظئر: ج أظؤر وأظآر: المرضعة لولد غيرها (قاموس)
[2]
وفي التوراة: مديان.
[3]
وفي التوراة: رعوئيل
واتخاذهم سخريا في مهنة الأعمال، فأصابت فرعون وقومه الجوائح العشرة واحدة بعد أخرى يسالمهم عند وقوعها، ويتضرع الى موسى في الدعاء بانجلائها، إلى أن أوحى الله الى موسى بخروج بني إسرائيل من مصر. ففي التوراة انهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم ان كان كفايتهم، أو يشتركون مع جيرانهم ان كان أكثر، وان ينضحوا دمه على أبوابهم لتكون علامة، وأن يأكلوه سواء برأسه وأطرافه، ومعناه لا يكسرون منه عظما ولا يدعون شيئا خارج البيوت، وليكن خبزهم فطيرا ذلك اليوم وسبعة أيام بعده، وذلك في اليوم الرابع عشر من فصل الربيع، وليأكلوا بسرعة وأوساطهم مشدودة، وخفافهم في أرجلهم، وعصيهم في أيديهم، ويخرجوا ليلا وما فضل من عشائهم ذلك يحرقوه [1] بالنار، وشرع هذا عيدا لهم ولا عقابهم ويسمّى عيد الفصح.
وفي التوراة أيضا انه قتل في تلك الليلة أبكار النساء من القبط ودوابهم ومواشيهم ليكون لهم بذلك ثقل عن بني إسرائيل. وأنّهم أمروا أن يستعيروا منهم حليا كثيرا يخرجون به، فاستعاروه وخرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب والأنعام، وكانوا ستمائة ألف أو يزيدون. وشغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم، وأخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام، استخرجه موسى صلوات الله عليه من المدفن الّذي كان به بإلهام من الله تعالى، وساروا لوجههم حتى انتهوا الى ساحل البحر بجانب الطور. وأدركهم فرعون وجنوده، وأمر موسى بأن يضرب البحر بعصاه ويقتحمه، فضربه فانفلق طرقا. وسار فيها بنو إسرائيل وفرعون وجنوده في اتباعه، فهلكوا، ونزل بنو إسرائيل بجانب الطور، وسبّحوا مع موسى بالتسبيح المنقول عندهم وهو: نسبّح الرب البهي، الّذي قهر الجنود، ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود الى آخره. قالوا: وكانت مريم أخت موسى وهارون صلوات الله عليهما تأخذ الدف بيدها، ونساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف والطبول، وهي ترتّل لهنّ التسبيح سبحان الرب القهّار الّذي قهر الخيول وركبانها ألقاها في البحر وهو معنى الأوّل.
ثم كانت المناجاة على جبل الطور وكلام الله لموسى والمعجزات المتتابعة، ونزول الألواح، ويزعم بنو إسرائيل أنها كانت لوحين فيها الكلمات العشرة وهي: كلمة التوحيد، والمحافظة على السبت بترك الأعمال فيه، وبرّ الوالدين ليطول العمر، والنهي
[1] الأصح ان يقول يحرقونه.
عن القتل، والزنا، والسرقة، وشهادة الزور، ولا تمتدّ عين إلى بيت صاحبه، أو امرأته، أو لشيء من متاعه. هذه الكلمات العشرة التي تضمنتها الألواح.
وكان سبب نزول الألواح أن بني إسرائيل لما نجوا ونزلوا حول طور سينا صعد موسى إلى الجبل، فكلمه ربّه وأمره أن يذكّر بني إسرائيل بالنعمة عليهم في نجاتهم من فرعون وأن يتطهروا ويغسلوا ثيابهم ثلاثة أيام، ويجتمعوا في اليوم الثالث حول الجبل من بعد، ففعلوا وظلت الجبل غمامة عظيمة ذات بروق ورعود ففزعوا، وقاموا في سفح الجبل دهشين، ثم غشي الجبل دخان في وسطه عمود نور وتزلزل له الجبل زلزلة عظيمة شديدة، واشتدّ صوت الرعد الّذي كانوا يسمعونه، وأمر موسى صلوات الله عليه بأن يقرّب بني إسرائيل لسماع الوصايا والتكاليف، قال فلم يطيقوا فأمر بحضور هارون وتكون العلماء غير بعيد ففعل، وجاءهم بالألواح.
ثم سار بعد ذلك إلى ميعاد الله بعد أربعين ليلة، فكلمه ربه وسأله الرؤية، فمنعها فكان الصعق وساخ الجبل، وتلقى كثيرا من أحكام التوراة في المواعظ والتحليل والتحريم. وكان حين سار الى الميعاد استخلف أخاه هارون على بني إسرائيل، واستبطئوا موسى، وكان هارون قد أخبرهم بأنّ الحلي الّذي أخذوه للقبط محرّم عليهم، فأرادوا حرقة وأوقدوا عليه النار. وجاء السامريّ في شيعة له من بني إسرائيل، وألقى عليه شيئا كان عنده من أثر الرسول، فصار عجلا وقيل عجلا حيوانا، وعبده بنو إسرائيل، وسكت عنهم هارون خوفا من افتراقهم. وجاء موسى صلوات الله عليه من المناجاة وقد أخبر بذلك في مناجاته، فلما رآهم على ذلك ألقى الألواح، ويقال كسرها، وأبدل غيرها من الحجارة، وعند بني إسرائيل انهما اثنان، وظاهر القرآن أنها أكثر مع أنه لا يبعد استعمال الجمع في الاثنين، ثم أخذ برأس أخيه ووبّخه واعتذر له بما اعتذر ثم حرق العجل، وقيل برده بالمبرد وألقاه في البحر.
وكان موسى صلوات الله عليه لما نجا ببني إسرائيل الى الطور بلغ خبره الى بيثر [1] صهره من بني مدين، فجاء ومعه بنته صفورا زوجة موسى عليه السلام التي زوّجها به أبوها رعويل كما تقدّم، ومعها ابناها من موسى وهما جرشون وعازر، فتلقّاها موسى صلوات الله عليه بالبرّ والكرامة وعظمه بنو إسرائيل، ورأى كثرة الخصومات
[1] وفي التوراة: يثرون.
على موسى، فأشار عليه بأن يتخذ النقباء على كلّ مائة أو خمسين أو عشرة فيفصلوا بين الناس، وتفصل أنت فيما أهم وأشكل، ففعل ذلك.
ثم أمر الله موسى ببناء قبة للعبادة والوحي من خشب الشمشاد، ويقال هو السنط وجلود الأنعام وشعر الأغنام، وأمر بتزيينها بالحرير والمصبغ والذهب والفضّة على أركانها صوّر منها صور الملائكة الكروبيّين على كيفيات مفصلة في التوراة في ذلك كله، ولها عشر سرادقات مقدّرة الطول والعرض، وأربعة أبواب وأطناب من حرير منقوش مصبغ، وفيها دفوف وصفائح من ذهب وفضة، وفي كلّ زاوية بابان وأبواب وستور من حرير، وغير ذلك مما هو مشروح في التوراة. وبعمل تابوت من خشب الشمشاد طول ذراعين ونصف في عرض ذراعين في ارتفاع ذراع ونصف مصفّحا بالذهب الخالص من داخل وخارج، وله أربع حلق في أربع زوايا، وعلى حافته كروبيّان من ذهب يعنون مثالي ملكين بأجنحة ويكونان متقابلين، وان يصنع ذلك كله فلان شخص معروف من بني إسرائيل. وأن يعمل مائدة من خشب الشمشاد طول ذراعين في عرض ذراع ونصف بطناب ذهب، وإكليل ذهب، بحافة مرتفعة باكليل ذهب، وأربع حلق ذهب في أربع نواحيها مغروزة في مثل الرّمانة من خشب ملبّس ذهبا، وصحافا ومصافي وقصاعا على المائدة كلها من ذهب. وان يعمل منارة من ذهب، بست قصبات من كلّ جانب ثلاث وعلى كل قصبة ثلاث سرج، وليكن في المنارة أربعة قناديل، ولتكن هي وجميع آلاتها من قنطار من ذهب. وأن يعمل مذبحا للقربان، ووصف ذلك كله في التوراة بأتم وصف.
ونصبت هذه القبّة أول يوم من فصل الربيع ونصب فيها تابوت الشهادة وتضمن هذا الفصل في التوراة من الأحكام والشرائع في القربان والنحور وأحوال هذه القبّة كثيرا وفيها: أنّ قبة القربان كانت موجودة قبل عبادة أهل العجل، وأنها كانت كالكعبة يصلّون إليها وفيها، ويتقرّبون عندها، وأنّ أحوال القربان كانت كلها راجعة إلى هارون عليه السلام بعهد الله إلى موسى بذلك، وأنّ موسى صلوات الله عليه كان إذا دخلها يقفون حولها وينزل عمود الغمام على بابها، فيخرون عند ذلك سجّدا للَّه عز وجل، ويكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام الّذي هو نور ويخاطبه ويناجيه وينهاه، وهو واقف عند التابوت صامد لما بين ذينك الكروبيّين. فإذا فصل
الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه إليه من الأوامر والنواهي، وإذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه بشيء، يجيء إلى قبّة القربان، ويقف عند التابوت، ويصمد لما بين ذينك الكروبيين فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الخصومة.
ولما نجا بنو إسرائيل ودخلوا البرية عند سينا أول المصيف لثلاثة أشهر من خروجهم من مصر، وواجهوا جبال الشام وبلاد بيت المقدس التي وعدوا بها أنّ تكون ملكا لهم على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم بمسيرهم إليها، وأتوه بإحصاء بني إسرائيل من يطيق حمل السلاح منهم من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، وضرب عليهم الغزو ورتب المصاف والميمنة والميسرة، وعين مكان كل سبط في التعبية وجعل فيه التابوت والمذبح في القلب، وعين لخدمتها بني لاوى من أسباطهم، وأسقط عنهم القتال لخدمة القبّة، وسار على التعبية سالكا على برية فاران، وبعثوا منهم اثني عشر نقيبا من جميع الأسباط فأتوهم بالخبر عن الجبارين.
كان منهم كالب بن يوفنّا بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن يعقوب، ويوشع بن نون بن أليشامع بن عميهون بن بارص بن لعدان بن تاحن بن تالح بن أراشف بن رافح بن بريعا بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب، فاستطابوا البلاد واستعظمو العدوّ من الكنعانيين والعمالقة، ورجعوا إلى قومهم يخبرونهم الخبر وخذلوهم، إلا يوشع وكالب فقالا لهم ما قالا وهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما. وخامر بنو إسرائيل عن اللقاء، وأبوا من السير الى عدوّهم، والأرض التي ملكهم الله، إلى أن يهلك الله عدوهم على غير أيديهم.
فسخط الله ذلك منهم وعاقبهم بأن لا يدخل الأرض المقدّسة أحد من ذلك الجيل إلا كالبا ويوشع. وإنما يدخلها أبناؤهم والجيل الّذي بعدهم، فأقاموا كذلك أربعين سنة في برية سينا وفاران، يتردّدون حوالي جبال الشراة، وأرض ساعير، وأرض بلاد الكرك والشوبك، وموسى صلوات الله عليه بين ظهرانيهم يسأل الله لطفه بهم ومغفرته ويدفع عنهم مهالك سخطه، وشكوا الجوع، فبعث الله لهم المنّ حبات بيض منتشرة على الأرض مثل ذرير الكزبرة، فكانوا يطحنونه ويتخذون منه الخبز لأكلهم. ثم قرموا إلى اللحم فبعث لهم السلوى طيرا يخرج من البحر، وهو طير السماني، فيأكلون منه، ويدّخرون ثم طلبوا الماء، فأمر أن يضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأقاموا على ذلك ثم ارتاب واحد منهم اسمه فودح بن
يصهر بن قاهث، وهو ابن عم موسى بن عمران بن قاهث، فارتاب هو وجماعة منهم من بني إسرائيل بشأن موسى، واعتمدوا مناصبته فاصابتهم قارعة وخسفت بهم وبه الأرض وأصبحوا عبرة للمعتبرين. واعتزم بنو إسرائيل على الاستقالة مما فعلوه والزحف إلى العدوّ، ونهاهم موسى عن ذلك فلم ينتهوا وصعدوا جبل العمالقة فحاربهم أهل ذلك الجبل فهزموهم وقتلوهم في كل وجه. فأمسكوا وأقام موسى على الاستغفار لهم، فأرسل إلى ملك أدوم يطلب الجواز عليه إلى الأرض المقدّسة فمنعهم، وحال دون ذلك.
ثم قبض هارون صلوات الله عليه لمائة وثلاثة وعشرين سنة من عمره، ولأربعين سنة من يوم خروجهم من مصر، وحزن له بنو إسرائيل لأنه كان شديد الشفقة عليهم، وقام بأمره الّذي كان يقوم به ابنه العيزار [1] ، ثم زحف بنو إسرائيل الى بعض ملوك كنعان، فهزموهم وقتلوهم وغنموا ما أصابوا معهم، وبعثوا الى سيحون ملك العموريين من كنعان في الجواز في أرضه إلى الأرض المقدّسة فمنعهم وجمع قومه وغزا بني إسرائيل في البرية، فحاربوه وهزموه وملكوا بلاده الى حدّ بني عمّون، ونزلوا مدينته وكانت لبني مؤاب. وتغلب عليها سيحون. ثم قاتلوا عوجا وقومه من كنعان وهو المشهور بعوج بن عوق، وكان شديد البأس فهزموه وقاتلوه وبنيه وأثخنوا في أرضه، وورثوا أرضهم الى الأردن بناحية أريحا. وخشي ملك بني مؤاب من بني إسرائيل، واستجاش بمن يجاوره من بني مدين وجمعهم، ثم أرسل إلى بلعام بن باعورا وكان ينزل في التخم بين بلاد بني عمّون وبني مؤاب، وكان مجاب الدعوة معبّرا للأحلام. واستدعاه ليستعين بدعائه، وأتاه الوحي بالنهي عن الدعاء، وألحّ عليه ذلك الملك وأصعده إلى الأماكن الشاهقة، وأراه معسكر بني إسرائيل منها، فدعا لهم وأنطقه الله بظهورهم وانهم يملكون الى الموصل. ثم تخرج أمّة من أرض الروم فيغلبون عليهم، فغضب الملك وانصرف بلعام إلى بلاده.
وفشا في بني إسرائيل الزنا ببنات مؤاب ومدين فأصابهم الموتان، فهلك منهم أربعة وعشرون ألفا. ودخل فنحاص بن لعزرا على رجل من بني إسرائيل في خيمته ومعه امرأة من بني مدين قد أدخلها للزنا بمرأى من بني إسرائيل، فطعنها برمحه وانتظمها وارتفع الموتان عن بني إسرائيل. ثم أمر الله موسى وألعازر بن هارون بإحصاء بني
[1] وفي التوراة اسمه: اليعازر.
إسرائيل بعد فناء الجيل الّذي أحصاهم موسى وهارون ببرية سينا، وانقضاء الأربعين سنة التي حرم الله عليهم فيها دخول تلك الأرض، وان يبعث بعثا من بني إسرائيل الى مدين الذين أعانوا بني مؤاب، فبعث اثني عشر ألفا من بني إسرائيل وعليهم فنحاص بن العيزر بن العزر بن هارون، فحاربوا بني مدين وقتلوا ملوكهم وسبوا نساءهم وملكوا أموالهم، وقسم ذلك في بني إسرائيل بعد أن أخذ منه للَّه، وكان فيمن قتل بلعام بن باعورا. ثم قسّم الأرض التي ملك من بني مدين والعموريين وبني عمّون وبني مؤاب، ثم ارتحل بنو إسرائيل ونزلوا شاطئ الأردن، وقال الله قد ملكتكم ما بين الأردن والفرات كما وعدت آباءكم. ونهوا عن قتال عيصو الساكنين ساعير وبني عمّون وعن أرضهم. وأكمل الله الشريعة والأحكام والوصايا لموسى عليه السلام، وقبضه إليه لمائة وعشرين سنة من عمره، بعد أن عهد إلى فتاه يوشع أن يدخل ببني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة ليسكنوها، ويعملوا بالشريعة التي فرضت عليهم فيها، ودفن بالوادي في أرض مؤاب ولم يعرف قبره لهذا العهد.
وقال الطبريّ: مدّة عمر موسى صلوات الله عليه مائة وعشرون سنة، منها في أيام أفريدون عشرون، ومنها في أيام منوجهر مائة. قال: ثم سار يوشع من بعد موسى إلى أريحا، فهزم الجبارين ودخلها عليهم. وقال السدّي: إنّ يوشع تنبّأ بعد موسى، وسار إلى أريحا فهزم الجبّارين، ودخلها عليهم، وأن بلعام بن باعورا كان مع الجبارين يدعو على يوشع، فلم يستجب له، وصرف دعاؤه على الجبّارين. وكان بلعام من قرى البلقاء، وكان عنده الاسم الأعظم، فطلبه الكنعانيون في الدعاء على بني إسرائيل فامتنع، وألحّوا عليه فأجاب، ودعا فصرف دعاؤه، وكان قيامه للدّعاء على جبل حسّان مطلا على عسكر بني إسرائيل، هذا خبر السدّي في أنّ دعاء بلعام كان لعهد يوشع. والّذي في التوراة أنّه كان لعهد موسى، وأنّ بلعام قتل لعهد موسى كما مرّ في خبر الطبريّ.
وقال السدّي: إنّ يوشع بعد وفاة موسى صلوات الله عليه أمر أن يعبر، فسار ومعه التابوت تابوت الميثاق، حتى عبر الأردن، وقاتل الكنعانيين فهزمهم، وأنّ الشمس جنحت للغروب يوم قتالهم ودعا الله يوشع فوقفت الشمس [1] حتى تمت عليهم
[1] وفي الطبري ج 1 ص 228: فقاتلهم يوشع يوم الجمعة قتالا شديدا حتى أمسوا وغربت الشمس ودخل السبت فدعا الله فقال للشمس: انك في طاعة الله وانا في طاعة الله اللَّهمّ اردد عليّ الشمس فردّت عليه الشمس.
الهزيمة، ثم نازل أريحاء ستة أشهر [1] ، وفي السابع نفخوا في القرون، وضج الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة فاستباحوها وأحرقوها. وكمل الفتح واقتسموا بلاد الكنعانيين كما أمرهم الله. هذا مساق الخبر عن سيرة موسى صلوات الله عليه وبني إسرائيل أيام حياته وبعد مماته حتى ملكوا أريحا.
وفي كتب الأخباريين أن العمالقة الذين كانوا بالشام قاتلهم يوشع فهزمهم وقتل آخر ملوكهم وهو السميدع بن هوبر بن مالك. وكان لقاؤهم إياه مع بني مدين في أرضهم وفي ذلك يقول عوف بن سعد الجرهميّ:
ألم تر أنّ العلقميّ بن هوبر
…
بأيلة أمسى لحمه قد تمزّعا
ترامت عليه من يهود جحافل
…
ثمانون ألفا حاسرين ودرعا
ذكره المسعودي وقد تقدّم لنا خلاف النسّابة في هؤلاء العمالقة وأنهم لعمليق بن لاوذ أو لعمالق بن أليفاز بن عيصو الثاني، لنسابة بني إسرائيل سار إليه علماء العرب. وأما الأمم الذين كانوا بالشام لذلك العهد، فأكثرهم لبني كنعان. وقد تقدّمت شعوبهم، وبنو أروم أبناء عمّون، وبنو مؤاب أبناء لوط، وثلاثتهم أهل يستعير [2] وجبال الشراة وهي بلاد الكرك والشوبك والبلقاء، ثم بنو فلسطين من بني حام ويسمى ملكهم جالوت وهو من الكنعانيين منهم، ثم بنو مدين ثم العمالقة. ولم يؤذن لبني إسرائيل في غير بلاد الكنعانيين فهي التي اقتسموها وملكوها وصارت لهم تراثا، وأما غيرها فلم يكن لهم فيها إلّا الطاعة والمغارم الشرعية من صدقة وغيرها.
وفي كتب الأخباريين أنّ بني إسرائيل بعد ملكهم الشام، بعثوا بعوثهم إلى الحجاز، ولك يومئذ أمّة من العمالقة يسمّون جاسم، وكان اسم ملكهم الإرم بن الأرقم، وكان أوصاهم أن لا يستبقوا منهم من بلغ الحلم. فلما ظهروا على العمالقة وقتلوا
[1] يتفق ابن خلدون مع الطبري وابن الأثير حول المدة التي حاصر يوشع مدينة أريحا ففي الطبري ج 1 ص 228 «فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر فلما كان السابع نفخوا في القرون وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة» وفي الكامل ج 1 ص 202 وقيل بل حصرها ستة أشهر فلما كان السابع تقدموا الى المدينة وصاحوا صيحة واحدة فسقط السور» .
اما ابو الفداء فيذكر ان مدة حصار أريحا كانت ستة أيام ويوافق ذلك ما ذكر في التوراة، الاصحاح السادس من سفر يوشع:«ان الحصار كان ستة أيام وفي اليوم السابع سقط السور» .
[2]
وفي نسخة اخرى: يسعير.